85
اﻟﻤﺨﺘﺼﺮ اﻟﻮﺟﻴﺰ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﺻﺪ اﻟﺘﺸﺮﻳﻊ د. ﻋﻮض ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻘﺮﻧﻲ

ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

  • Upload
    others

  • View
    14

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

المختصر الوجيز في

مقاصد التشريع

د. عوض بن محمد القرني

Page 2: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

مقدمة

احلمد هللا رب العاملني ، خالق اخللق أمجعني ، وإله املتقني ،أرسل الرسل وأنزل الكتب ،

ىل النور وبني للمكلفني احلق من الضالل والغي من الناس من الظلمات إ -سبحانه –ليخرج

الرشاد ، وحدد سبحانه سبل السعادة يف الدنيا واآلخرة على سبيل اإلمجال والتفصيل يف الدقيق

واجلليل والعام واخلاص للفرد واجلماعة ، وأقام لكل ذلك واضحات األدلة القاطعة وبينات

وابغ نعمته وسبقت موجبات رمحته يف خلقه الرباهني الساطعة فتجلت آثار حكمته وعمت س

وأمره ، فسبحانه من رب رحيم ، وله احلمد من إله حكيم .

والصالة والسالم على من جعله اهللا رمحة للعاملني ، الذي بعثه اهللا للخلق كافة يتلو عليهم

من الضالل ، آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة ، فأنقذ اهللا به من الشقاء ، وهدى به

حريص على املؤمنني رؤوف رحيم ، بلغ الرسالة وأدى األمانة فما -سبحانه –وكان كما وصفه

ترك خريا حىت أرشد إليه ، وبني طرق كسبه والوصول إليه ، وال شرا حىت حذر منه ، وبني

املفضلني ، وسائل رده والنجاة منه ، ورضي اهللا عن آله الطيبني الطاهرين ، وأصحابه املختارين

وأتباعه املصطفني إىل يوم الدين ، أما بعد :

فإنه ملا كان الفقه يف الدين من أمسى املطالب ، والسعي يف حتصيله من أعلى املراتب ،

رأيت أن ساهم يف بيان بعض فقه الكتاب والسنة وخباصة يف أبواب األصول الفقهية ، وبالذات

Page 3: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

سبق وأن درست مادة املقاصد يف كلية الشريعة وأصول الدين يف يف باب املقاصد الشرعية ، فقد

أبا بضع سنني ، وكان املنهج املقرر لذلك مسائل وفصول من كتاب املوافقات لإلمام أيب

إسحاق الشاطيب رمحه اهللا وكان بعض التالميذ يكتبون معي أثناء احملاضرات ، ويصور زمالئهم

يئة باألخطاء والتحريفات ، والنقص واخلرم يف الكالم ، ما كتبوه، فانتشرت مذكرات عديدة مل

ناهيك عن التضارب واالختالف بني ما انتشر بسبب اختالف أفهما الكاتبني ، فأحل علي

بعض من درستهم يف إخراج تلك احملاضرات بصورتا الصحيحة اليت كنت ألقيها عليهم ،

تها وهذبتها واختصرتا ، وحاولت فأعدت النظر فيما بني يديه من أوراق وقصاصات ، فرتب

تبسيطها وتسهيل عباراتا وأسلوبا ، لعل غري املتخصص يستفيد منها ، ومسيت هذا الكتاب ((

)) وسيكون أغلب ما يف هذا الكتاب مستفاد من كتاب املختصر الوجيز يف مقاصد التشريع

تيار والرتتيب والتبويت املوافقات للشاطيب مع إملامات بغريه ، فما كان فيه من صواب االخ

فاحلمد هللا وحده ، وما كان فيه من خطأ وزلل فأستغفر اهللا منه ، وال حول وال قوة إال باهللا .

تمهيد وتوطئة

إن أمر املقاصد الشرعية أمر يف غاية األمهية بالنسبة حلملة العلم الشرعي واملتفقهني يف

ن ؛ إذ إ�ا كالبوصلة اليت حتدد للمسافر صحة اجتاهه من الكتاب والسنة من املبتدئني أو التهدي

عدمه فهي باإلضافة ألمور آخر تساعد الباحث عن أحكام الشريعة يف حتديد صحة سريه ،

Page 4: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وسالمة طريقه يف التعامل مع نصوص الكتاب والسنة وعباراتا واستخراج واستنبا مدلوالتا

واالستنبا وأرباب الفقه واالجتهاد ،( وليس كل ومعانيها ومراميها ، فهي خمتصة بأهل العلم

مكلف حباجة إىل معرفة مقاصد الشريعة ؛ ألن معرفة مقاصد الشريعة نوع من أنواع العلم ...

وحق العامل فهم املقاصد والعلماء يف ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم ) .

كون مقدار استيعابه لكليات مقاصد ومبقدار رسوخ العامل يف فقه الكتاب والسنة ، ي

الشريعة ، وقدرته يف إدراج جزئيات األحكام حتت تلك الكليات وردها إليها ؛ إذ إن فهم بعض

مسائل الفروع متيسر حىت للعامي األمي ،( أما معرفة املقاصد اليت بنيت عليها األحكام فعلم

إن املتأمل يف أسرار الشريعة يقطع دقيق ال خيوض فيه إال من لطف ذهنه واستقام فهمه ) ، بل

بأن ( خاصة الفقه يف الدين ... معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها وحماسنها) .

ولقد خطى القرآن بالعقل البشري خطوات جبارة يف سبيل الرقي به ، وفتح مداركه على ما

تب مثارها ونتائجها يف الكون من بديع خلق اهللا وآثار حكمته ، ورب األمور بأسبابا ، وتر

عليها ، حىت أصبح تفكري املسلم تفكريا غائيا سبيبيا ،( ولقد حتول اإلدراك اإلسالمي إىل نوع

من اليقني بذلك الرتاب الدقيق بني املقاصد واألفعال ، فالفعل عبث إن خال من مقصد وغاية ،

بطة بغاياتا من حيث اإلمثار والفعل ال يتحقق إن مل توفر له أسبابه ومقدماته ، فاألمور مرت

واإلنتاج ، ومرتبطة بغاياتا من حيث اإلمثار واإلنتاج ، ومرتبطة مبقدماتا وأسبابا من حيث

الوجود والتحقيق ... ، إن مدار التكليف واملسؤولية اإلنسانية على مباشرة األسباب ، وتسخري

Page 5: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

بتغاء آثارها ونتائجها ، لتحقيق مهمة النواميس والقوانني اإلهلية اليت حتكم حركة الوجود ، وا

االستخالف ، وأداء حق األمانة بإعمار الكون ، وتنظيم احلياة وفق املنهج الذي رمسه خالق

اإلنسان والكون واحلياة سبحانه ... فمعرفة مقصد الشارع من احلكم ، كمعرفة قصد املكلف

هذه العناصر تشكل أجزاء أساسية من الفعل واألسباب الالزمة لتحقيق الفعل يف الوجود ، كل

يف منظومة العقل املسلم ).

وبذا حتول املسلم إىل عامل بناء ال هدم ، وعنصر سعادة ال شقاء يف تاريخ اإلنسانية

يتحرك بإجيابية فائقة يف احلياة مبختلف صورها ، ويف شىت جوانبها ( إن الذي يرفضه اإلسالم أن

ن الدنيا بواه من غري الطريق الذي ارتضاه الشارع ... ليست القضية يسعى العبد لنيل حظه م

اليت جاء با اإلسالم هي اهلروب من احلياة ، كي ننال اجلنة والنعيم األخروي ، اإلسالم يريدنا

أن نسخر احلياة باسم اإلسالم وبنهجه ، يريد اإلنسان املسلم ان يكون طاقة قوية ، تندفع إىل

الكفاح يف احلياة لبناء احلضارة اإلنسانية اخلرية ، ويسد الثغرات اليت تظهر يف احلركة والعمل و

العامل املادي ، نتيجة للدوافع احليوانية اليت تولد الصراع احلاد يف أعماق نفس اإلنسان ).

( ولو تتبعنا مقاصد ما يف الكتاب والسنة ، لعلمنا أن اهللا أمر بكل خري دقة وجله ) .

أن أمر الدين ال يستقيم إال بوأد الغرائز البشرية ، وكبت -خطأ –ظن بعض الناس ولقد

النوازع الفطرية اإلنسانية ، وحتميل النفس ما ال تطيق ، بل ظنوا أن اآلخرة ال يصلح شأ�ا

وتتحقق مثرتا إال باإلدبار عن الدنيا والتخلي عنها بالكلية واعتزال أمرها كله ،( وقد أدى العمل

Page 6: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

لى هذا النحو الذي يقتضيه هذا االجتاه إىل حدوث صراع نفسي يف نفوس العاملني به ، ع

كانت له آثار سيئة ، ذلك أ�م حياولون كبت نوازع الفطرة ، ويطلبون حموها وإزالتها ،، وهذا

أمر مستحيل ... فإذا وقع اإلنسان بني ضغ الغريزة الدائم امللحاح ، وبني ما يعتقد أنه مسو

ل ، وهو حماربة هذه امليول وخنقها يف أعماق النفوس ، فالنتيجة احلتمية أن يدمر الصراع وكما

الثائر بني الدوافع والكوابح نفس صاحبه ، ويوهن قواه ، ويشتت فكره ، وميأل قلبه حرية وقلقا

.(

لدين وإمنا أيت أرباب هذا االجتاه من أهل الزهد والسلوك والتصوف من قلة فقههم يف ا

وخباصة باب املقاصد الشرعية (وإمنا يعرف ذلك من كان خبريا بأسرار الشرع ومقاصده ، وما

اشتملت عليه شريعة اإلسالم من احملاسن اليت تفوق التعداد ، وما تضمنه من مصاحل العباد يف

املعاش واملعاد ، وما فيها من احلكمة البالغة والرمحة السابغة ).

الصحيح والفقه املستنري لدين اهللا تعمر الدنيا بالسعادة الوارفة ، ويعيش وبذا الفهم

اإلنسان يف تواؤم تام مع ذاته ، وانسجام كامل مع فطرته ، معبدا ذاته واحلياة من حوله لربه ،

وجاعال الدنيا طريقا لآلخرة ، بالغا بطاقاته وإمكاناته أقصى مدى هلا ميكن أن تصل إليه يف

لبناء احلضاري والرقي املدين ، غري متشوف وال حماول أن يتصدى ملا مل خيلق له ومل يؤهل سبيل ا

للقيام به من إجياد وابتداع دين وتشريع ، لتسيري احلياة ، وحتديد مفاهيم الغيب ؛ ألن حق

Page 7: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

التشريع وبيان الدين هللا وحده ؛ وألن ( لفظ التشريع يف اصطالح الشرعيني له معنيان ، أحدمها

: وضع شريعة مبتدأة ، وهذا ال ميلكه يف اإلسالم إال اهللا وحده .

وثانيهما : استمداد حكم من شريعة قائمة ، سواء أكان استمداده من نص من نصوصها

، أم من دليل من دالئلها ، أم من مبادئها وروحها ... وإنشاء التشريع يف اإلسالم باملعىن األول

هللا سبحانه وتعاىل ، وأما باملعىن الثاين فهو جماز ال حقيقة ألن املستنب ال ميلكه حقيقة إال ا

يكشف عن حكم موضوع ال ينشىء حكما جديدا ).

وبذا سلم املسلم فردا أو أمة نظاما أو حضارة من مأزق الصراع بني الروح واملادة ، واملثال

رات املادية املعاصرة ، وإن االلتفات إىل فقه والواقع ، الذي وقعت فيه األديان احملرفة واحلضا

املقاصد ، ليساهم بإذن اهللا يف جتاوز كثري من املزالق اليت قد يقع فيها بعض الدعاة أو طلبة العلم

، حني يقصرون نظرهم على دليل جزئي شرعي ، غري ملتفني إىل موقعه يف سياقه العام من

على تنزيله يف الواقع بالكيفية اليت ارتأها ، غري كليات الشريعة ومقاصدها العامة وما يرتتب

عائبني باملوازنة بني املصاحل واملفاسد ، الذي هو مثرة لفقه املقاصد ، والذي هو يف احلقيقة لب

وروح وحقيقة السياسة الشرعية يف التعامل مع األحداث والوقائع واملستجدات الشرعية يف

دات يف احلياة ببصرية وهدى وفقه وعقل وما أقل من مجع التعامل مع األحداث والوقائع واملستج

ذلك يف زماننا.

Page 8: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وما مثل من يتصدى ألمر اإلفتاء والدعوة والتوجيه من غري إملام مبقاصد الشرع وال معرفة

حقيقة بالواقع إال كمثل من يبحث عن الثمرة يف غري شجرتا ، أو حياول استنبات البذرة يف غري

ا املناسب الذي ال تنمو وتنتج إال فيه ، وأىن هلذا أو لذاك أن يبلغ املراد أو يصل بيئتها ومكا�

وليس الرب بأن تأتو البيوت من للغاية واهلدف ، وإن بذل اجلهد وأتعب النفس ، قال تعاىل :

. ظهورها ولكن الرب من اتقى وأتو البيوت من أبوابا

تعريف المقاصد

مجع مقصد ، وهو يف كالم العرب االعتزام والتوجه والنهود والنهوض املقاصد يف اللغة :

حنو الشيء ، والقصد االعتماد واألم قصده يقصده قصدا ... وقصدت قصده حنوت حنوه ... .

استقامة الطريق والعدل وعدم اجلور ، وإتيان الشيء ، تقول ومن معاين القصد يف اللغة :

يت مبعىن التوس يف األمر والكسر ، تقول : قصدت العود أي كسرته ، : قصدته أي أتيته ، وتأ

ويطلق على اللحم اليابس والعنق من احليوان .

مل أجد من عرف املقاصد من علماء الشريعة األقدمني رغم كثرة املقاصد يف االصطالح :

رمحه اهللا مل يكلف هلجهم بذكرها يف كتبهم ، بل إن رأس املؤلفني يف علم املقاصد الشاطيب

نفسه عناء التعريف للمقاصد رغم سعة حديثه عن املقاصد .

Page 9: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أما املعاصرين فممن عرفها الشيخ حممد الطاهر بن عاشور فقال :( مقاصد التشريع العامة

هي املعاين واحلكم امللحوظة للشارع يف مجيع أحوال التشريع أو معظمها حبيث ال ختتص

يف نوع خاص من أحكام الشريعة ). مالحظتها بالكون

ويالحظ على هذا التعريف أنه جعل املعاين هي املقاصد بينما املعىن هو التفسري ، أما

املقصد فهو الغاية من الشيء واحلكم كذلك أوسع وأمشل من املقاصد .

واألسرار اليت وعرفها األستاذ عالل الفاسي فقال :( املراد مبقاصد الشريعة الغاية منها

وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها ).

ويالحظ على هذا التعريف جعله املقاصد هي األسرار والواقع أن األسرار قد تكون

مقاصدا وقد ال تكون مقاصدا ، وكذلك فالغالب أن املقاصد ليست من باب األسرار يف

الشريعة دائما .

مد العامل :( مقاصد الشارع من التشريع نع با الغاية اليت يرمي وقال الدكتور يوسف حا

إليها التشريع واألسرار اليت وضعها الشارع احلكيم عند كل حكم من األحكام ).

وقد أحسن بذكر الغايات ولكنه أخذ عبارة األسرار من األستاذ عالل الفاسي فريد عليه

من امللحوظات ما ورد عليه .

( مقاصد ٠ولعل تعريف األستاذ أمحد الريسوين أسلم من التعريفات السابقة حيث قال :

الشريعة هي الغايات اليت وضعت الشريعة ألجل حتقيقها ملصلحة العباد ).

Page 10: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ولو قال : مقاصد الشريعة هي الغايات اليت أنزلت الشريعة لتحقيقها ملصلحة اخللق يف

((أنزلت)) أوىل من كلمة ((وضعت )) ملا فيها من اإلشارة لنزول الدارين ، لكان أوىل فكلمة

التشريع من اهللا .

وكلمة (( ألجل )) يف تعريف األستاذ الريسوين حشو ال حاجة له ، واخللق أمشل من كلمة

(( العباد )) املشعرة باملكلفني فق ؛ ألن الشريعة جاءت لصالح وإصالح املكلفني وغريهم من

املخلوقات وإن كان املخاطب با أهل التكليف فق من اإلنس واجلن . مجيع

وعبارة(( يف الدارين )) إشارة إىل املصاحل األخروية اليت هي من أهم مقاصد الشريعة وإن

غفل عن ذكرها كثري ممن كتب يف املقاصد .

واملقاصد الشرعية نوعان :

ة ، ويشرت يف مجيعها أن يكون ثابتا ظاهرا منضبطا مطردا معان حقيقية ، ومعان عرفية عام

.... مث أننا استقرينا الشريعة فوجدناها ال تراعي األوهام والتخيالت وتأمر بنبذها ... فقضينا

بأن األوهام غري صاحلة ألن تكون مقاصد شرعية ) .

حكمة التشريع

عن العبث وما ال قصد له . -غالبا –إن أفعل العقالء ذات الشأن تنزه

واهللا سبحانه وتعاىل له املثل األعلى ، وهو أحكم احلاكمني ، الذي أحا بكل شيء

علما الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعاملني نذيرا

Page 11: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

م عليهم نعمته ، قال تعاىل ، وقد أنزل شرعه املطهر ، ليخرج به من الظلمات إىل النور ، وليت

ما يريد اهللا خماطبا رسوله صلى اهللا عليه وسلم : وما أرسلناك إال رمحة للعاملني ، وقال تعاىل :

، وقال تعاىل ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون

: طيبة من عمل صاحلا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة : وقال تعاىل ،

كتب عليكم الصيام كما كتب ، وقال تعاىل :ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكة

، إن الصالة تنهى عن الفحشاء واملنكر ، وقال سبحانه : على الذين من لعلكم تتقون

الطيبات وحتل هلم ، وقال تعاىل :ولكم يف القصاص حياة يا أويل األلباب وقال تعاىل :

لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب وامليزان ، وقال تعاىل: وحيرم عليهم اخلبائث

ليقوم الناس بالقس

فدلت هذه اآليات على أن الشرع جاء لتحصيل املصاحل وتكثريها ودرء املفاسد وتقليلها.

ء من كل ، وقليل من كثري ؛ إذ إن وما هذه النصوص القطعية إال غيض من فيض ، وجز

نصوص الشرع متظافرة الداللة على أن ( املقصد العام للشريعة اإلسالمية هو عمارة األرض ،

وحفظ نظام التعايش فيها ، واستمرار صالحها بصالح املستخلفني فيها ، وقيامهم مبا كلفوا به

يف األرض واستنبا خلرياتا من عدل واستقامة ، ومن صالح يف العقل ويف العمل ، وإصالح

وتدبري منافع اجلميع ).

Page 12: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

و( إذا حنن استقرينا موارد الشريعة اإلسالمية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا

من كليات دالئلها ، ومن جزئياتا املستقرأة أن املقصد العام من التشريع فيها ، هو حفظ نظام

الح املهيمن عليه ، وهو نوع اإلنسان ، ويشمل صالحه صالح األمة ، واستدامة صالحه بص

عقله وصالح عمله وصالح ما بني يديه من موجودات العامل الذي يعيش فيه ).

( وبذلك تكون الشريعة مستهدفة حتقيق مقصد عام ، وهو إسعاد األفراد واجلماعة ،

الكمال اإلنساين ، حىت تصري الدنيا وحفظ النظام ، وتعمري الدنيا بكل ما يوصل إىل اخلري و

مزرعة لآلخرة ، فيحظى اإلنسان بسعادة الدارين ).

والعقل يشهد مبا دل عليه الشرع ؛ إذ ما من صاحب عقل سوي ، وفطرة سليمة يبلغه

الشرع املطهر ، إال ويقطع بأن أحكامه جاءت حاوية جلميع املصاحل واخلري ، قاطعة جلميع

ر ،( فالشرائع كلها وخباصة شريعة اإلسالم جاءت ملا فيه من صالح البشر يف املفاسد والش

العاجل واآلجل ، أي يف حاضر األمور وعواقبها )، ولو ذهبنا نستعرض األمثلة من شهادات

العقالء قدميا وحديثا خلرجنا عن املراد وطال ينا الكالم .

احلقيقة ، فما من أمة أخذت بذا الدين وكذلك الواقع التارخيي أعظم شاهد على هذه

العظيم يف أحكامه وآدابه إال وتبدل حاهلا من الشقاء إىل السعادة ، ومن الضعف إىل القوة ،

ومن الفقر إىل الغىن ، ومن اخلوف إىل األمن ، ومن اجلهل إىل العلم ، ومن التفرق والشتات إىل

Page 13: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقني بأن التوحد واإلخاء والوئام ، ( واستقراء أدلة كثري

أحكام الشريعة منوطة حبكم وعلل راجعة للصالح العام للمجتمع واألفراد ).

وقد أخرب اهللا تعاىل بأن الوحي الذي أنزل نور وهدى وشفاء ورمحة ، ورفع للحرج ،

ة للناس ، وأمر بالعدل واإلحسان وطهارة وحياة طيبة للنفوس واألبدان ، وبشرى وحكمة ، وتزكي

، و�ي عن الفحشاء واملنكر والبغي ، وإخراج من الظلمات إىل النور ، ووضع لإلصر واألغالل

عن الناس ، وال ميكن ان يكون متصفا بذه األوصاف العظيمة ( حىت يكون موصال إىل

عمل الصاحل فتحصل الغاية الغايات احملمودة واملطالب النافعة ، فيكون مرشدا إىل العلم وال

املطلوبة ).

وإن مقتضى رمحة اهللا وحكمته وعلمه وإحاطته سبحانه وتعاىل أال خيلق اخللق ويرسل

أفحسبتم أمنا خلقناكم عبثا وأنكم الرسل وينزل الكتب وجيعل اجلزاء والثواب والعقاب عبثا :

أال ، وقال سبحانه :هو رب العرش الكرمي إلينا ال ترجعون فتعاىل اهللا امللك احلق ال إله إال

. فكما ظهرت آثار حكمته الباهرة سبحانه وعلمه احملي ورمحته الواسعة يف له اخللق واألمر

خلقه ، حيث خلق لعباده مجيع ما يف األرض والسموات ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ،

لعقول ، فهي كذلك يف أمره و�يه وصورهم يف أحسن تقومي ، ورزقهم السمع واألبصار وا

سبحانه ، حىت قال ابن القيم رمحه اهللا تعاىل :( والقرآن وسنة رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم

مملوءان من تعليل األحكام باحلكم واملصاحل وتعليل اخللق بما والتنبيه على وجوه احلكم اليت

Page 14: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

و كان هذا يف القرآن والسنة يف حنو ألجلها شرع األحكام ، وألجلها خلق تلك األعيان ، ول

مائة موضع أو مائتني لسقناها ، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة ).

( وإن تعطيل احلكمة والغاية املطلوبة من األحكام إما أن يكون لعدم علم اهللا به ، وهذا

تنع يف حق من هو حمال يف حق من هو بكل شيء عليم ، وإما لعجزه عن حتصيلها ، وهذا مم

على كل شيء قدير ، وإما لعدم إرادته ومشيئته واإلحسان إىل غريه وإيصال النفع إليه ، وهذا

مستحيل يف حق أرحم الرامحني ... وإما ملانع مينع من إرادتا وقصدها ، وهذا مستحيل يف حق

نقصا ومنافاتا كماال ، من ال مينعه مانع عن فعل ما يريد بل هو فعال ملا يريد ، وإما الستلزامها

وهذا باطل ، بل هو قلب للحقائق وعكس ومناقضة لقضايا العقول ... وإن مما هو معلوم

ببداهة العقول وجماري العادات أن أي نظام ال يقصد به حتقيق نفع أو دفع ضر فإنه نظام فاشل

شئت من أصحاب مزدرى ، منسوب واضعه إىل اجلهل والتغفيل ، متهم بالشر ، وانظر إىل من

األنظمة الوضعية أيرضى أحد منهم أن يقال له : إن نظامك ليس له قصد وال حيقق مصلحة ،

فإذا كان ذلك مما يأنف منه العقالء مع غفلتهم وجهلهم وحصول النقص فيهم فتنزيه شريعة

أحكم احلاكمني عن ذلك أوىل . بل كيف يليق مبن عرف دين اهللا وشرعه وخالطت قلبه بشاشة

اإلميان أن يظن ذلك بشريعة الرمحن ، وما ذلك إال من ظن السوء برب العاملني ، نعوذ باهللا من

ذلك ).

Page 15: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

( وما من حكم شرعي إال وهو حيقق مصلحة أساسها احملافظة على النفس أو العقل أو

ن يكون الدين أو النسل أو املال ، وإن هذا يبدو من الشريعة يف مجلة مقاصدها ، وال ميكن أ

حكم شرعي إال وهو متجه إىل ناحية من هذه النواحي ).

وإذا تبني لنا بصورة قطعية قصد الشرع إىل حتقيق املصاحل مجلة وتفصيال ، فلنقم قدر

املستطاع ببيان القواعد األصولية للمقاصد الشرعية وأقسامها وأمثلتها وطرق معرفتها وما يلحق

لى االختصار واإلجياز إن شاء اهللا . يذلك من مسائل ومباحث ، ع

مراتب المقاصد

لقد اصطلح العلماء على تقسيم املقاصد إىل ثالث مراتب، هي الضروريات مث احلاجيات

مث التحسينيات ، وهذا االصطالح قدمي قدم التأليف يف علم األصول ، لكن من أهل العلم من

ارة فق ، ومنهم من يلحظه يف اجتهاده الفقهي يذكره بشكل صريح، ومنهم من يشري إليه إش

واستدالله وترجيحه .

وممن ذكر هذه املصطلحات أو بعضها إمام احلرمني والغزايل والعز بن عبد السالم والقرايف

وشيخ اإلسالم ابن تيمية وابن القيم وغريهم كثري، على أن أوسع من حتدث عن علم مقاصد

كان حبق أستاذه وإمامه أبو إسحاق الشاطيب األندلسي املتويف سنة التشريع وفتق مسائله ، و

هـ . ٧٩٠

Page 16: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

المرتبة األولى الضروريات:

وهي اليت ( البد منها يف قيام مصاحل الدين والدنيا ، حبيث إذا فقدت مل جتر مصاحل الدنيا

نجاة والنعيم والرجوع على استقامة ، بل على فساد وتارج وفوت حياة ، ويف األخرى فوت ال

باخلسران املبني ).

وهي أعلى مراتب املقاصد الشرعية ، بل هي الغاية األوىل من نزول التشريع ، وهي جارية

يف العبادات واملعامالت والعادات ،( فاملصاحل الضرورية هي اليت تكون األمة مبجموعها وآحادها

ظام بإخالهلا حبيث إذا اخنرمت تؤول حالة األمة إىل يف ضرورة إىل حتصيلها حبيث ال يستقيم الن

فساد وتالش ).

و( الضرورة أخص من عموم املصلحة ، فهي املصلحة اليت تصل درجة االحتياج إىل أشد

املراتب وأشق احلاالت ، فيصبح اإلنسان يف خطر حيدق بدينه أو نفسه أوماله أو عرضه أو ما

اس الدينية والدنيوية عليها ، حبيث إذا فقدت اختلت احلياة الدنيا أشبه ذلك ، وتتوقف حياة الن

وضاع النعيم وحل العذاب األليم يف اآلخرة ).

والضروري منها ( ما يعقل معناه ، وهو أصل ويئول املعىن املعقول منه إىل أمر ضروري ال

و معلل بتحقق العصمة يف بد منه ...، وهذا مبنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص يف أوانه ، فه

الدماء احملقونة والزجر عن التهجم عليها ...، ويلتحق به تصحيح البيع ، فإن الناس لو مل

Page 17: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

يتبادلوا ما بأيديهم جلر ذلك ضرورة ظاهرة ، فمستند البيع إذا آيل إىل الضرورة الراجعة إىل النوع

واجلملة ).

س ، وهي : حفظ الدين والنفس والعقل وهو ما اصطلح على تسميته الضرورات اخلم

قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أال تشركوا به شيئا وبالوالدين والنفس واملال ، قال تعاىل :

إحسانا وال تقتلوا أوالدكم من إمالق حنن نرزقكم وإياهم وال تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما

ق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون وال تقربوا مال بطن وال تقتلوا النفس اليت حرم اهللا إال باحل

اليتيم إال باليت هي أحسن حىت يبلغ أشده وأوفوا الكيل وامليزان بالقس ال نكلف نفسا إال

وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قرىب وبعهد اهللا أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وإن

السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وال تتبعوا

تتقون

( هذه هي املصاحل الضرورية ((الضروريات )) اليت تقصد با األعمال والتصرفات اليت

تتوقف عليها صيانة األركان اخلمسة وهي الدين والعقل والنسل واملال ، فهذه األمور اخلمسة

ياتم الدينية والدنيوية فإذا فقد بعضها اختلت احلياة يتوقف عليها قيام مصاحل الناس يف ح

اإلنسانية) .

فحفظ الدين من باب العبادات وحفظ النفس والعقل من باب العاديات ، وحفظ النسل

واملال من باب املعامالت .

Page 18: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

رة والضروري يف هذه األبواب هو احلد الذي بدونه ال ميكن أن يوجد أي من اخلمس املذكو

، فالضروري من الدين هو الذي إذا ذهب معه الدين ، ومثله بقية األمور األربعة .

وإليك أمثلة ذلك :

فالضروري يف باب الدين هو اإلميان والنطق بالشهادتني ، والصالة والزكاة والصيام واحلج ،

ابا . وما أشبه ذلك من أصول الدين اليت إذا ذهبت مل يبق الدين بعد ذه

وحفظ النفس والعقل بباب العادات من تناول املأكوالت واملشروبات وامللبوسات

واملسكونات يف حدها األدىن الذي يتعذر بعده وجود احلياة البدنية أو العقلية ،( وهذا الصنف

ح الضروري قليل التعرض إليه يف الشريعة ألن البشر قد أخذوا حيطته ألنفسهم منذ القدم فأصب

مركوزا يف الطبائع ، ومل ختل مجاعة من البشر ذات متدن من أخذ احليطة له ، وإمنا تتفاضل

الشرائع بكيفية وسائله ).

أما باب حفظ النسل فيتم من خالل النكاح وحفظ األعراض ، وحفظ املال من خالل

إباحة االنتفاع باألعيان واملنافع ، وانتقاهلا بعوض أو بغري عوض .

واألمران النكاح والبيوع من باب املعامالت ، والضروري منهما هو الذي إذا فقد مل يبق

نسل وال مال ، واحنسم األمر مجلة وليس باملراد به بعض جزئياته .

Page 19: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

المرتبة الثانية الحاجيات :

ىل احلرج واملشقة وهي ( املفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق املؤدي يف الغالب إ

الالحقة بفوت املطلوب ) ،(وهي ما يتعلق باحلاجة العامة وال ينتهي إىل حد الضرورة ، وهذا

مثل تصحيح اإلجازة ، فإ�ا مبنية على مسيس احلاجة إىل املساكن مع القصور عن متلكها

املفروضة يف وضنة مالكها با على سبيل العارية ، فهذه حاجة ظاهرة غري بالغة مبلغ الضرورة

البيع وغريه ).

وهي جتري فيما جرت فيه الضروريات من عبادات وعادات ومعامالت يف أبواب

الدين والنفس والعقل والنسل واملال ، ولكنها ليست يف شدة االفتقار إليها مثل الضرورات ،

رتبة الثانية بل ميكن أن يتصور وجود الضرورات اخلمس مع عدم وجود احلاجيات اليت هي امل

من املقاصد ، لكن يلحق املكلف من جراء فقد احلاجي مشقة وحرج شديد .

و( األمور احلاجية للناس ترجع إىل ما يرفع احلرج عنهم ، وخيفف عليهم أعباء التكليف ،

وييسر هلم طرق املعامالت واملبادالت ، وقد شرع اإلسالم يف خمتلف أبواب العبادات واملعامالت

العقوبات مجلة أحكام املقصود با رفع احلرج واليسر بالناس ). و

ففي العبادات اليت با حيفظ الدين الرخص املخففة ، وهذه بعض األمثلة للحاجيات :

كاجلمع بني الصالتني وقصر الرباعية والفطر يف رمضان واملسح على اخلفني وغريها ، بالنسبة إىل

ر ، فأنت ترى أنه لو مل تشرع هذه الرخص ملا ذهب أصل الدين ، حلوق املشقة باملرض والسف

Page 20: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ولكن سيلحق املكلفني عنت ومشقة يف بعض األحوال عند سفر أو مرض أو مطر أو برد أو

خوف وأشباه ذلك .

ويف باب العاديات اليت با حتفظ النفس والعقل ، كإباحة صيد البحر والرب ، والتمتع بأنواع

ال ومشربا ومسكنا وملبسا ومركبا ، وأشباه ذلك مما لو مل يشرع لنا التمتع به ملا الطيبات مأك

عدمت النفس والعقل ، ولكن سيلحقها مشقة وعنت فيما لو مل يباح هلا إال مطعم واحد

ومشرب واحد وملبس واحد ومركب واحد أو قريب من ذلك مما هو ضروري الذي بعدمه ال

يوجد نفس وال عقل .

ويف باب املعامالت اليت با حيفظ النسل واملال ، كإباحة التعدد يف النكاح ، وإباحة

الطالق ، وإجياب النفقة ، ومنع نكاح املرأة على عمتها وخالتها ومع أختها وأمها وابنتها ،

وأشباه ذلك مما لو مل يشرع ملا عاد على أصل النكاح الذي به حيفظ النسل بالعدم ولكن

لناس عسر ومشقة وعنت وتعب . سيلحق ا

ويف حفظ املال وهو كل ما يقع عليه امللك ويستبد به املالك على غريه إذا أخذه من وجهه

، مثل اإلجارة والسلم والقرض واملساقاة واملضاربة ، وأشباه ذلك مما ال يؤدي فقده إىل فقد املال

مل تشرع هذه األمور ألدى ذلك إىل من الوجود بالكلية الذي بفقده تفقد النفس ولكن لو

مشقة وعسر وعنت يف حياة الناس .

Page 21: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

( وحنن إذا أجدنا النظر يف املقصد العام من التشريع جنده ال يعدو أن يساير حفظ الفطرة

واحلذر من خرقها واختالهلا ، ولعل ما أفضى إىل خرق عظيم فيها يعد يف الشرع حمذورا وممنوعا

حفظ كيا�ا يعد واجبا ، وما كان دون ذلك يف األمرين فهو منهي أو مطلوب ، وما أفضى إىل

يف اجلملة ، وما ال ميسها مباح ) .

Page 22: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

المرتبة الثالثة : التحسينات :

وهي ( األخذ مبا يليق من حماسن العادات وجتنب األحوال املدنسات اليت تأنفها العقول

الراجحات ).

يتعلق بضرورة حاقة وال حاجة عامة ، ولكنه يلوح فيه غرض يف جلب مكرمة ( وهي ما ال

أو يف نفي نقيض هلا ، وجيوز أن يلتحق بذا اجلنس طهارة احلدث وإزالة اخلبث ).

وهي املرتبة الثالثة بالنسبة للضروريات واحلاجيات وبالتايل فهي األقل أمهية ، والداعي إليها

و األمور التحسينية للناس ترجع إىل كل ما جيمل حاهلم سبقها يف األمهية ،( أقل مما سواها مما

وجيعاها على وفاق ما تقتضيه املروءة ومكارم األخالق ، وقد شرع اإلسالم يف خمتلف أبواب

العبادات واملعامالت والعقوبات أحكاما تقصد إىل هذا التحسني والتجميل ، وتعود الناس

دهم إىل أحسن املناهج وأقومها )، وهي جارية فيما جرت فيه أحسن العادات ، وترش

الضروريات واحلاجيات من العبادات والعادات واملعامالت .

يف باب العبادات اليت با حفظ الدين ، كالطهارة وسرت العورة يف ومن امثلة ذلك :

فل الصالة والصيام والذكر العبادات وإزالة النجاسات والتقرب بنوافل اخلريات من الصدقات ونوا

وأشباه ذلك .

Page 23: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ويف باب العادات اليت حفظ النفس والعقل كآداب األكل والشرب ، مثل األكل باليمني

، وجتنب املآكل النجسات ، واملشارب املستخبثات ، واإلسراف ، وافقتار فيها ، والندب

للضيافة عند عدم االحتياج إليها وما يشابه ذلك .

ويف باب املعامالت ، كمنع املرأة من إنكاح نفسها ، وفرض مهر املثل ، والعدل بني

الزوجات يف املبيت وسواه ، وإباحة نكاح األمة عند العجز عن نكاح احلرة ، والتسري مبلك

اليمني .

ويف حفظ املال وأبواب البيوع ، كمنع بيع النجاسات ، وبيع فضل املاء والكأل ، وأشباه

ذلك .

( واملصاحل التحسينية هي ما كان با كمال حال األمة يف نظامها ، حىت تعيش آمنة

مطمئنة وهلا بجة منظر التمع يف مرأى بقية األمم ، حىت تكون األمة اإلسالمية مرغوبا يف

االندماج فيها أو يف التقرب منها ، فإن حملاسن العادات مدخال يف ذلك ).

ا أنت ترى أن مقاصد الشرع ليست يف الطلب لديه سواء ، بل بعضها طلبه أكد من وه

البعض اآلخر ، وإن كانت كالدوائر املتكاملة ، بعضها يتمم البعض اآلخر ، فاحلاجي تتمة

للضروري ، والتحسي تتمة للحاجي والضروري ، وهذا يقودنا إىل احلديث عن أمر مهم يف باب

لحق مبراتب املقاصد الثالث من تكملة وتتمة لكل منها . املقاصد ، وهو ما ي

Page 24: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ومما ينبغي العلم به يف هذا الباب أن الضروريات ليست يف مرتبة واحدة ، بل بعضها مقدم

على بعض ، ومجهور أهل العلم استقر األمر عندهم على أن ترتيب اخلمس الضروريات كاآليت :

النسل مث املال ؛ ولذلك عند تزاحم حفظ النفس مع حفظ الدين مث النفس مث العقل مث

املال ، مثال يقدم حفظ النفس على حفظ املال ، وهذا الرتتيب جيري يف باب احلاجيات وكذلك

يف شأن التحسينات يف كل باب حبسبه .

مكمالت مراتب المقاصد :

كورة يتبني لنا أن لكل مرتبة من باستقراء أحكام الشريعة وقصدها حلفظ املقاصد املذ

املراتب السبق ذكرها تكملة وتتمة ، ومبراعاتا يتحقق املقصد الشرعي يف أكمل صورته ، ولكن

لو فرضنا فقد هذه التكملة مع احملافظة على املقصد األصلي ملا أخل ذلك باحلكمة األصلية يف

كذلك هذه التكملة إذا كان حفظ أصل املصلحة من أي مرتبة كانت من مراتب املقاصد ، و

وجودها سيؤدي إىل اإلخالل باملقصد األصلي ، فحينئذ تستبعد هذه التكملة ، ويتنازل عنها ،

وتدر حفاظا على أصلها الذي هو املقصد األصلي ألن العتبار التكملة والتتمة شر وهو أال

يعود اعتبارها على أصلها باإلبطال ، وذلك ألمرين :

أننا إذا حفظنا التكملة بإبطال األصل فقد أبطلنا األصل مع التكملة ؛ألن ذهاب ل:األو

األصل هو ذهاب التكملة فنكون بسعينا للحفاظ على التكملة نسعى إلبطاهلا .

Page 25: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أننا لو افرتضنا بقاء التكملة والتتمة مع ذهاب األصل يف بعض الصور لكان الثاين:

فإنه ال يراعي حكم حاجي ، إذا كان يف مراعاته إخالل حبكم حتصيل األصل أوىل ( ومن مث

ضروري ، وال يراعي حكم حتسي ، إذا كان يف مراعاته إخالل حبكم ضروري أو حاجي ؛ ألن

املكمل ال يراعي إذا كان يف مراعاته إخالل مبا هو مكمل له ).

إذا صادم القاعدة الكلية (ومن خصائص هذا .... أن القياس اجلزئي فيه وإن كان جليا

ترك القياس اجللي للقاعدة الكلية ، وبيان ذلك باملثال : أن القصاص معدود من حقوق

اآلدميني ، وقياسها رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق مبقصود الباب ، وهذا القياس

القاعدة الكلية ومناقضة يقتضي أال نقتل اجلماعة بالواحد ، ولكن يف طرده واملصري إليه هدم

الضرورة ، فإن استعانة الظلمة يف القتل ليس عسريا ، ويف ردء القصاص عند فرض االجتماع

خرم أصل الباب ) .

وإليك األمثلة المبينة لذلك :

ففي باب الضروريات : الصالة من ضروري الدين ، فلو اشرت فيها القيام والركوع ،

أركا�ا يف مجيع األحوال ، وحكم بأنه ال تصح الصالة بدو�ا أبدا لتعذر أداء وأمثال ذلك من

الصالة يف حال املرض والعجز عن أداء هذه األركان يف الصالة ، فكان اشرتا التكملة سببا يف

ذهاب األصل ، ومن هنا صح أن يصلي املريض والعاجز حسب استطاعته .

Page 26: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الدين ، وال بد يف اجلهاد من الوايل واإلمام ، والعدالة من وكذلك اجلهاد ضروري حلفظ

شرو صحة الوالية ، فإذا كان أمري اجلهاد من والة اجلور وليس عدال فهل جياهد معه ؟ الشرع

أمر باجلهاد مع كل بر وفاجر ؛ ألننا إال مع العدول لعاد اشرتا هذه التكملة على أصلها وهو

ل فتنازل الشرع عن التكملة حفاظا على األصل . اجلهاد حلفظ الدين باإلبطا

وحفظ املهجة ضروري ، وحفظ املروءة حتسي ، فحرم أكل النجاسات حفظا للمروءات ،

فإن دعت الضرورة إىل حفظ احلياة بتناول امليتة النجسة أسقطنا تكملة حفظ املروءة ألجل

احلفاظ على أصل حفظ احلياة.

بيع ضروري ، ومنع الغرر والثمن أو اجلهالة بأحدمها تكميلي بالنسبة ألصل ومثله أصل ال

البيع ، فلو اشرت انتفاء الغرر حىت باحلبة من الرب مثال عند الكيل أو الوزن وانتفاء اجلهالة انتفاء

اب كليا لتعذر البيع متاما ، وألدى اشرتا هذه التكملة والتنمية إىل إبطال األصل الضروري يف ب

األموال وهو البيع .

ومن هنا فالشرع يغتفر الغرر اليسري واجلهل اليسري الذي ال ميكن دفعهما ، حفاظا على

أصلهما وهو البيع ، ومما هو من مكمالت الضروري ومتمماته اليت شرعت له ، مثل الصالة يف

األجنبية ، ومثل اإلشهاد مجاعة ، ومثل منع شرب قليل اخلمر غري مسكر ، ومثل منع النظر إىل

يف البيع والرهن ، وأشباه ذلك .

Page 27: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ويف باب احلاجي اإلجازة يف غالبها واشرتا وجود العوضني الثمن واملثمن يف أبواب

املعامالت من باب التكميالت والتتمات ، وحني كان ذلك ممكنا يف بيع األعيان منع بيع

املعدوم إال يف السلم بشروطه .

ولكن وجود العوضني يف باب اإلجارة غري ممكن أو بصورة أدق وجود أحدمها ، وهو

استيفاء املنفعة الذي حيتاج إىل زمن ، وهو أمر غري ممكن حتصيله وتسليمه ، كالسكن والركوب

والبناء وأشباه ذلك.

لذي هو وحني تعذر وجود هذه التكملة وأصبح اشرتاطها يف اإلجارة سيعود على األصل ا

اإلجارة باإلبطال ، اغتفرت يف هذا الباب ، وصحت اإلجارة مع عدم وجود هذا الوصف الذي

هو لزوم حضور العوضني يف جملس العقد .

من أمثلة ما اعتربه الشرع يف باب احلاجيات اعتبار الكفء عند إنكاح املرأة ، ومهر املثل

شاحة بني الزوجني ؛ إذ أن اعتبار الكفء يف اإلنكاح عند عدم تسمية املهر ، ونفقة املثل عند امل

ال تدعو إليه شدة حاجة مثل أصل النكاح لكنه أحرى أن يكون بني الزوجني من التفاهم

والسكن ما ال يتحقق لو مل يكونا كذلك ؛ ولذلك لو مل يتحقق النكاح إال بغري الكفء فال

. يكون اشرتا التكملة سببا يف ضياع أصل املصلحة

ومن أمثلة ذلك القرض ؛ إذ أن الشرع اشرت يف تبادل النقد بالنقد ، القابض والتساوي

عند احتاد اجلنس ، والتقابض عند اختالف اجلنس ولكن يف القرض اغتفر أمر التقابض مع بقاء

Page 28: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

شر التساوي إرفاقا بالناس حلاجتهم لذلك ؛ إذ أن بقاء شر التقابض الذي هو كالتتمة

لتكملة كان سيعود على أصل احلكم احلاجي وهو القرض باإلبطال ، فأهدرت التتمة للحفاظ وا

على أصل املصلحة وهو القرض .

ومثل ذلك : اغتفار الشرع االطالع على العورات للنكاح أو للمداواة والعالج ؛ إذ إن

لنكاح والضروري أو سرت العورة من باب التحسينات اليت هي كالتنمية للضروري الذي هو ا

احلاجي الذي هو العالج إال باغتفار التحسي والتنازل عنه ، كلن ذلك مشروعا لئال يعود

احلفاظ على التنمية التحسينية باإلبطال على األصل الضروري أو احلاجي .

ويف باب التحسينات ، كآداب األحداث ، ومندوبات الطهارة ، وأمثال ذلك ، مثل

يف الوضوء يف غري مسح الرأس ، والبداءة باليمني يف غسل األيدي واألرجل ، ودخول التثليث

اخلالء بالشمال واخلروج باليمني ، واالستعاذة عند الدخول واالستغفار عند اخلروج ؛ إذ كل

ذلك من تتمات وتكمالت أمر حتسي مما لو فقد ملا عاد على أصل العمل باإلبطال .

ى إىل بطالن أصله فال يعترب ، كمن قل املاء عنده حبيث لو ثلث يف الغسل وكذلك لو أد

واالستنشاق واملضمضة ملا أمكنه إكمال وضوءه ، فعند هذا يتنازل عن التتمة والتكملة الذي

هو التثليث يف سبيل احلفاظ على أصل املصلحة الذي هو الوضوء .

فإمنا هو خادم لألصل الضروري ، ومؤنس به ومما ينبغي العلم به ( أن كل حاجي وحتسي

وحمسن لصورته اخلاصة ، إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا ، وعلى كل تقدير فهو يدور باخلدمة

Page 29: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

حواليه ، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حاالته ، وذلك أن الصالة مثال إذا

استقبل القبلة أشعر التوجه حبضور املتوجه إليه تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب ألمر عظيم ،فإذا

، فإذا أحضر نية التعبد أمثر اخلضوع والسكون .... وهكذا ).

ذلك ( أن جمموع احلاجيات والتحسينات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من

يث أفراد الضروريات ، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إمنا حيسن موقعه ح

يكون فيها على املكلف سعة وبسطة من غري تضييق وال حرج ، وحيث يبقى معها خصال

معاين العادات ومكارم األخالق موفرة الفصول ، مكملة األطراف حىت يستحسن ذلك أهل

العقول ، فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة احلرج والعنت ، واتصف بضد ما

اجب الضروري متكلف العمل ، وغري صاف يف النظر الذي يستحسن يف العادات ، فصار الو

وضعت عليه الشريعة، وذلك ضد ما وضعت عليه ).

( وهكذا جند أن أحكام الشريعة كلها جاءت إما حلفظ شيء من الضروريات ، وإما حلفظ

ينات شيء من احلاجيات اليت لوالها لوقع الناس يف احلرج واملشقة ، وإما حلفظ شيء من التحس

، وإما لتكميل مقصد من هذه املقاصد الثالثة مبا يعني على حتققه على أكمل وجه ).

Page 30: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

كيف حافظ الشرع على هذه المقاصد ؟

لقد عمدت الشريعة إىل حفظ هذه املقاصد يف الوجود بأمرين :

ن جانب الوجود ، مراعاة هذه املقاصد مبراتبها املختلفة وما يكملها ويتمها م األمر األول :

أي شرع إجيادها وإقامة أركا�ا وأعيا�ا .

ففي باب الضروريات ، كالنطق بالشهادتني ، وإقامة الصالة وأداء الزكاة وصيام رمضان

وأداء احلج يف حفظ الدين ، وذلك يتحقق بالعمل به والدعوة إليه واملر باملعروف والنهي عن

لتفصيله يف أبواب العبادات وتناول املأكوالت واملشروبات املنكر ، وهو ما تعرض الفقهاء

واللباس والسكن يف حفظ النفس والعقل ، ومشروعية البيوع واحلض على النكاح يف حفظ

النسل واملال وأشباه هذه األمور ، على التفصيل السابق يف املسائل السابقة ، وقد فصل الفقهاء

ذلك يف أبواب املعامالت .

باب احلاجيات : كالرخص يف العبادات والتمتع بالطيبات من املأكوالت واملشروبات ويف

، واإلجازة والسلم والقرض يف املعامالت والتعدد يف النكاح ، وإباحة الطالق .

ويف باب التحسينات : كإزالة النجاسة ، وسرت العورة ، ونوافل العبادة ، ومنع اإلسراف

الشراب ، واجتناب تناول املستقذر من الطعام ، وكمنع بيع النجاسة ، ومنع وافقتار يف األكل و

إنكاح املرأة نفسها ، ومنع نكاح األمة مع القدرة على نكاح احلرة ، وكل هذا مراعاة للمقاصد

من جانب الوجود أي من حيث وجودها وإقامة أركا�ا واحلفاظ عليها .

Page 31: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

نب العدم ، أي أن يشرع من األحكام ما يدرأ عنها اخللل مراعاتا من جا واألمر الثاين :

الواقع أو املتوقع فيها .

فيحفظ الدين باجلهاد وحد الردة ، وحفظ النفس بالقصاص يف النفس وما دو�ا أو بالديات

وأرش اجلنايات ، وحفظ العقل حبد السكر ومبا حيفظ به النفس ؛ ألنه يلزم من ذهاب النفس

تحرمي السحر والكهانة والشعوذة ، وحفظ النسل حبد الزنا وحد القذف ذهاب العقل ، وب

واللعان ، وحفظ املال حبد السرقة وضمان قيم املتلفات وما غضب ويدخل يف حفظ اجلميع

األمر باملعروف والنهي عن املنكر ، والتعازير املشروعة بضوابطها الشرعية ، وحد احلرابة حلفظ

والعقول ، وقمع البدع والضالالت بالرد عليها ، وقد فصل الفقهاء النفوس واألموال واألعراض

ذلك يف أبواب الفقه املختلفة ، مثل اجلهاد واحلدود والديات والقصاص .

فبهذه األحكام يدفع عن ما قصد الشرع حفظه من ضروري وحاجي وحتسي ما يؤدي

إىل عدمه وذهابه من الوجود .

الشرعي يف حفظ هذه املقاصد ، بإجيادها وإقامتها ، ودفع ودرء ما يؤدي وهذا هو املنهج

إىل ذهابا وبطال�ا وفسادها .

Page 32: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

كيف نفهم الشريعة؟

ملا تقرر أن للشريعة مقصد عام وهو حفظ مصاحل اخللق يف الدارين ، كان لزاما أن نتعرف

وعلى أي وجه يكون هذا الفهم صحيحا ، على قصد الشارع يف إفهام املكلفني هذه الشريعة ،

لتعلم منه املقاصد األولية ، أي أن هذه الشريعة ال ميكن معرفة مقاصدها يف مصاحل العباد إال إذا

فهمناها على الوجه الذي قصد اهللا أن نفهمها عليه .

نوي يف ومن هنا كان عالقة هذا املوضوع باملقاصد ، وهو بالنسبة إىل ما سبقه قصد ثا

األمهية ؛ إذ أنه كالوسيلة ملا سبقه وإن كان أسبق منه يف الوجود ؛ إذ ال ميكن معرفة مقاصد

الشريعة ما مل يعرف منهج فهم الشريعة والوحي املنزل من اهللا سبحانه وتعاىل ، وهو كذلك

وسيلة ضرورية ؛ إذ ال ميكن االمتثال وحتقيق القصد الشرعي بدون هذه الوسيلة .

فهم القرآن على مقتضى لغة العرب :

، وقال إنا أنزلناه قرآنا عربيا لقد نزل القرآن بلسان العرب وعلى لغتهم ، قال تعاىل :

لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان ، وقال تعاىل : مبني بلسان عريب سبحانه :

وهذا ، وقال تعاىل :عربيا لعلكم تعقلون إنا جعلناه قرآنا ، وقال سبحانه : عريب مبني

. إىل غري ذلك من اآليات كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنني

.

Page 33: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وكل هذا دليل قطعي على أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى عرف ختاطبهم وما ألفوه يف

للغة جيب أن يفهم ،بل ال ميكن أن يفهم كالمهم حينئذ ، فعلى مقتضى قواعد وأساليب هذه ا

بدون ذلك ؛ ولذلك أمجع أهل العلم على أن معرفة لغة العرب واإلملام بأساليبها املعروفة شر

لتفسري القرآن الكرمي ، وهذا يف فهم القرآن والسنة سواء يف ألفاظها املفردة أو يف تراكيبه ومجله

وأساليبه .

رب الذين نزل القرآن بلسا�م من عرف يف ختاطبهم فال يصح وعلى هذا فإن كان للع

العدول عنه يف فهم الشريعة ، وهذا جار يف املعاين واأللفاظ واألساليب ، ومثال ذلك أن العرب

ال ترى األلفاظ مقصودة لذاتا إذا حوفظ على املعاين يف أحيان كثرية ، ويف أحيان أخرى تعمد

تغيريها ، وال يكون ذلك قادحا يف صحة كالمها واستقامته ، إىل احلفاظ على األلفاظ وعدم

وقد تستغ باللفظ عن مرادفه ، وعلى هذا جاء الوحي يف األحرف السبعة والقراءات الثابتة

املتواترة بعد ذلك ومن هنا يفهم ما ورد يف الشريعة من هذا الباب .

يف اخلطاب هو املقصود األعظم من الكالم ، ومن عرفهم أن االعتناء بفهم املعاين املبثوثة

وأن الكالم إمنا يصحح ويعتىن به ليدل على املعىن وليفهم عنه القصد ، ورمبا كانت عنايتهم

باملعىن الرتكييب أكثر من عنايتهم باملعىن اإلفرادي ؛ إذ داللة السياق والرتكيب وما فيها من

قد خيتلف لو نظر للمعىن اإلفرادي فق ، ومن كنايات وجمازات وغرب ذلك تؤدي من املعاين ما

هنا كان املقصود األعظم من قراءة القرآن تدبر آياته وفهم معانيه ، ليستجاب له ويعمل به ،

Page 34: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وما سوى ذلك فإمنا هو وسيلة على ما فيه من األجر والثواب ، ولكنه ال يتجاوز هذا احلد ،

عية إال بذه الوسيلة الشرعية ، قال تعاىل :كما أنه ال ميكن الوصول إىل هذه الغاية الشر

أفال يتدبرون ، وقال سبحانه : كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدبروا آياته وليتذكروا أولو األلباب

إىل غري ذلك من اآليات اليت تدل على هذا املعىن . القرآن أم على قلوب أقفاهلا

ذا املقام : أن اللغة العربية حروف مؤلفة ، وكلمة ومما ميكن أن يقال يف لغة العرب يف ه

منسقة ومجلة مركبة ، جتري با األلسن للتفاهم مع اآلخرين والتعبري عما يف الضمائر والنفوس ،

وهي على مرتبتني :

ألفاظ وعبارات مطلقة تدل على معان مطلقة ، وهي من هذه اجلهة املرتبة األوىل :

مجيع اللغات يف التعبري عن مقاصد املتكلمني ، فإذا حصل يف الوجود قيام واالعتبار تشرتك مع

لزيد مث أراد كل صاحب لسان اإلخبار عن قيام زيد أمكن له ذلك من غري كلفة ، وبذا االعتبار

ميكن اإلخبار عن أقوال أهل اللغات األخرى ممن ليسوا من العرب باللغة العربية ، كما ميكن

ب بذا االعتبار باللغات األخرى . حكاية أقوال العر

ألفاظ وعبارات مقيدة دالة على معان مقيدة ، وهي بذا االعتبار ختتلف املرتبة الثانية :

من لغة إىل أخرى ، فإن كل خرب بذا االعتبار له من اخلصوصية يف اللفظ حبسب املخرب واملخرب

ق واإليضاح واخلفاء واإلجياز واإلطناب وغري عنه واملخرب به ، ونفس اإلخبار يف احلال والسيا

ذلك من أحوال الكالم ما ال ميكن أن تتفق فيه لغتان اتفاقا كامال من كل وجه ، فمثال يف لغة

Page 35: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

العرب إذا كانت عنايتك باخلرب قلت : قام زيد ، وإن مل يكن هناك عناية باخلرب بل باملخرب عنه

كان جوابا لسؤال عن زيد قلت : زيد قام ، وإن كان عناية يف املقام األول قلت : زيد قام ، فإن

السؤال بفعله ال به قلت : قام زيد ، ويف مواجهة إنكار من ينكر قيامه تقول : واهللا إن زيدا قام

، وكذلك يف مواجهة إنكار ان القيام من زيد ويف اإلخبار مبا يتوقع من قيامه : سيقوم زيد ،

كن أن يتصرف به يف قيام زيد فق ، فما بالك إذا اتسع األمر وتطرقنا وأمثال ذلك الكثري مما مي

جلميع املعاين واأللفاظ اليت يعرب با عنها وهو ما يفوق احلصر والعد .

وبذا االعتبار اختلفت العبارات يف كثري من أقاصيص القرآن وأخباره حبسب الغرض من

ه يف موطن آخر ، فباالعتبار األول ميكن أن يفسر إيراده يف موطن واختالف الغرض من إيراد

كالم اهللا ويبني ، وباالعتبار اآلخر يضاف ما اختص به من قيد وغرض يف هذا املقام دون

املقامات األخرى ، ومن هنا أمكن شرح وتفسري القرآن وتعذرت ترمجته ؛ ألن الرتمجة احلرفية

ظنك بكالم رب العاملني املعجز فال يبقى إال اللفظية املعنوية غري ممكنة يف كالم البشر فما

املعنوية وهي يف احلقيقة التفسري ال غري .

وعلى هذا فمن فسر القرآن على وجه ال حتتمله اللغة العربية رد كالمه ، وال يعذر إال أن

يكون جاهال وإال فهو كاملستهزىء بكالم رب العاملني عياذا باهللا .

Page 36: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

زول الوحي ومستوى فهمهمحال العرب عند ن

لقد كان العرب عند نزول الوحي أمة أمية ال يقرأون وال يكتبون كما وصفهم اهللا سبحانه

: هو الذي بعث يف األميني رسوال منهم وقال صلى اهللا عليه وسلم : (( إنا أمة أمية ال

اطبني با ، وهم من نكتب وال حنسب ))، ( فالعرب هم محلة شريعة اإلسالم إىل سائر املخ

مجلتهم واختارهم اهللا هلذه األمانة أل�م يومئذ امتازوا من بني سائر األمم باجتماع صفات أربع

مل جتتمع يف التاريخ ألمة من األمم ، وتلك هي : جودة األذهان ، وقوة احلوافظ ، وبساطة

احلضارة والتشريع ، والبعد عن االختال ببقية أمم العامل .

فهم بالوصف األول : أهل لفهم الدين وتلقينه ، وبالوصف الثاين : أهل حلفظه وعدم

االضطراب يف تلقينه ، وبالوصف الثالث : أهل لسرعة التخلق به ؛ إذ هم أقرب إىل الفطرة

السليمة ...، وبالوصف الرابع : أهل معاشرة بقية األمم ؛ إذ ال حزازات بينهم وبني األمم

زازات العرب ما كانت إال بني قبائلهم ...). األخرى ، فغن ح

وكان البد حينئذ واحلال ما ذكرنا أن تنزل الشريعة مراعية لذلك األمر ، حبيث ميكن أن

يفهمها مجهور األميني ، أي أن يفهم أغلب األميني ما حيتاجون إىل فهمه لالمتثال ملقتضى هذه

العلم با ، والقيام يف مقام وراثة النبوة يف تبليغها الشريعة ، ويبقى ما وراء ذلك من الرسوخ يف

واحلفاظ عليها ، مما خيتص به أهل الذكر والعلم واالجتهاد ، وهم قلة يف األمة قدميا وحديثا.

Page 37: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ولو مل تكن الشريعة بذا الوصف لتعذر فهمها على من نزلت إليهم ، والستحال عليهم

سبحانه وتعاىل منهم ، وملا قامت به احلجة عليهم من جهة إعجازه االمتثال هلا وهوما طلبه اهللا

هلم ، ولقالوا : هذا الكالم غري معروف وال مفهوم عندنا ، وال هو من جنس كالمنا ، وليس لنا

ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لوال فصلت آياته أعجمي وعريبمن عهد مبثله ، قال تعاىل :

.

ذعنوا لظهور احلجة ، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم مبثل كالمه ، مع ( لكنهم أ

عجزهم املطلق عن مماثله).

( وإذا قد أراد اهللا حبكمته أن يكون اإلسالم آخر األديان اليت خاطب اهللا با عباده ،

نفوسهم تعني أن يكون أصله الذي ينب عليه وصفا مشرتكا بني سائر البشر ومستقرا يف

ومرتاضة عليه العقول السليمة منهم ، أال وهو وصف الفطرة ، حىت تكون أحكام الشريعة

مقبولة عند أهل اآلراء الراجحة من الناس ، الذين يستطيعون فهم مغزاها ، فيتقبلوا ما يأتيهم

منها بنفوس مطمئنة وصدور منثلجة ، فيتبعوها دون تردد وال انقطاع ).

ا ففهم الشريعة مبا يتم به االمتثال هلا ال حيتاج إىل أن يكون املكلف عاملا يف وعلى هذ

العلوم الكونية والطبيعية والرياضية ، بل إن وجود العقل الذي هو منا التكليف واملعرفة بلغة

العرب جيعل املكلف قادرا يف اجلملة ويف األعم األغلب على فهم تكاليف الشريعة ، حبيث (

لتكاليف االعتقادية والعلمية مما يسع األمي تعقلها ، ليسعه الدخول حتت حكمها ، بأن تكون ا

Page 38: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل حبيث يشرتك فيها اجلمهور ، فإ�ا لو كانت مما

اليدركه إال اخلواص مل تكن الشريعة عامة ...، نعم ال ينكر تفاضل اإلدراكات على اجلملة ،

نظر يف القدر املكلف به ...، ورمبا مجحت النفس إىل طلب ما ال يطلب منها فوقعت يف وإمنا ال

ظلمة ال انفكاك هلا منها ، ومن طماح النفوس إىل ما مل تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها

..، ومن مراعاة األمية فيها أن وقع تكليفهم باجلالئل يف األعمال بالتقريبات يف األمور ، حبيث

ركها اجلمهور كما عرف أوقات الصلوات باألمور املشاهدة هلم ، كتعريفها بالظالل وطلوع يد

الفجر والشمس وغروبا وغروب الشفق ...، ومل يطالبنا حبساب مسري الشمس مع القمر يف

املنازل ؛ ألن ذلك مل يكن من معهود العرب وال من علومها ، ولدقة األمر فيه وصعوبة الطريق

رى لنا غلبة الظن يف األحكام جمرى اليقني ، وعذر اجلاهل فرفع عنه اإلمث ، وعفا عن إليه ، وأج

اخلطأ ، إىل غري ذلك من األمور املشرتكة للجمهور ، فال يصح اخلروج عما حد يف الشريعة ،

وال تطلب ما وراء هذه الغاية فإ�ا مظنة الضالل ومزلة األقدام ).

العلم بأسرار وحكم التكليف مما يتفاوت فيه الناس ، بل ويتفاوت ويبقى ما وراء ذلك من

فيه اخلواص من أهل العلم فيفتح على الواحد منهم مامل يفتح على سواه ،و( هي أمور تعرض

ملن مترن يف علم الشريعة وزاول أحكام التكليف وامتاز عن اجلمهور مبزيد فهم فيها حىت زايل

يف األمور اجلليلة بالنسبة إىل غريه ممن مل يبلغ درجته ، فنسبته إىل األمية من وجه ، فصار تدقيقه

ما فهمه نسبة العامي إىل ما فهمه ، والنسبة إذا كانت حمفوظة فال يبقى تعارض ...، فصار كل

Page 39: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو املطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا

فهو املطلوب منه )، حيث كان من ( حكمة السماحة يف الشريعة ، أن اهللا هو فوق األول

جعل هذه الشريعة دين الفطرة ، وأمور الفطرة راجعة إىل اجلبلة ، فهي كائنة يف النفوس سهل

عليها قبوهلا ، ومن الفطرة راجعة إىل اجلبلة ، فهي كائنة يف النفوس سهل عليها قبوهلا ، ومن

يريد اهللا أن خيفف عنكم وخلق اإلنسان الشدة واإلعنات ، قال تعاىل : الفطرة النفور من

. ضعيفا

وقد أراد اهللا أن تكون شريعة اإلسالم شريعة عامة ودائمة فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها

بني األمة سهال ، وال يكون ذلك إال إذا انتفى عنها اإلعنات ، فكانت بسماحتها أشد مالءمة

...). للنفوس

وعلى هذا فإمنا ( يصح يف مسلك األفهام والفهم ما يكون عاما جلميع العرب ، فال

يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه حبسب األلفاظ واملعاين ،فإن الناس يف الفهم ، وتأيت التكليف

الها ، وعلى فيه ليسوا على وزان واحد وال متقارب ، إال أ�م يتقاربون يف األمور اجلمهورية وما و

ذلك جرت مصاحلهم يف الدنيا ومل يكونوا حبيث يتعمقون يف كالمهم وال يف أعماهلم إال مبقدار

ما ال خيل مبقاصدهم ...،

فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة حبيث تكون معانيه مشرتكة جلميع العرب ؛

، حىت كانت قبائل العرب ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشرتكت فيه اللغات

Page 40: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

تفهمه)، ولو مل يكن القرآن كذلك وأحكامه يف االعتقاد والعمل على هذا املنوال ، لكان تكليفا

ملن نزل عليهم مبا ال يصدق ، واهللا ال يكلف نفسا إال وسعها تفضال منه ورمحة وكرما ، وبذا

شاء اهللا . دلت األدلة القاطعة من الكتاب والسنة كما سيأيت معنا إن

ضوابط التكليف لتحقيق المقاصد

حني كلف اهللا العباد بأحكام الشرع لتحقيق املقاصد والغايات الشرعية جعل هلذا التكليف

ضواب ، يتم من خالهلا إدراك ومعرفة حدود التكليف وما جيب على املكلف حيال ما يطرأ

، أو يف الظروف احمليطة باملكلف من زمان عليه من أحوال وأطوار وتغريات يف القدرة والنفس

ة للشارع \ومكان وأحداث ، وعالقة هذا األمر باملقاصد من حيث أن هذه الضواب مقصود

ومالزمة للتكليف ، فكما أن التكليف مقصود لتحقيق قصد أعلى ، فضواب التكليف مقصود

الوجه املشروع احملقق لتحقيق قصد أعلى ، وضواب التكليف مقصودة ليأيت به املكلف على

ملقاصده الشرعية :

الضابط األول :

ال تكليف غال مبا يستطاع ، فقد ثبت يف الكتاب والسنة أن العبد ال يكلف شرعا مبا ال

فاتقوا اهللا ما ، وقال تعاىل : ال يكلف اهللا نفسا إال وسعها يدخل حتت قدرته قال تعاىل :

، وقال تعاىل : وهللا على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيال عاىل : ، وقال ت استطعتم

Page 41: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكني : وقال تعاىل ،ربنا وال حتملنا ماال طاقة لنا به ،

وقد ثبت يف احلديث الصحيح أنه تعاىل قال :(( قد فعلت )).

إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ))، وكذلك ويقول الرسول صلى اهللا عليه وسلم :((

نعلم عقال أن الشرع نزل ليمتثل له اعتقادا بالقلب أو عمال باجلوارح ، فلو وقع التكليف مبا ال

، والناظر يف وما أرسلنا من رسول إال ليطاع بإذن اهللا ميكن االمتثال له ، قال تعاىل :

ريعة أن تكون نافذة يف األمة ؛ إذ ال حتصل املنفعة املقصودة الشريعة يعلم أن ( من مقاصد الش

منها كاملة بدون نفوذها ، وطاعة األمة الشريعة غرض عظيم ، وإن أعظم باعث على احرتام

الشريعة ونفوذها أ�ا خطاب اهللا تعاىل لألمة ، فامتثال األمة للشريعة أمر اعتقادي تنساق إليه

تيار ). نفوس املسلمني عن طواعية واخ

وعلى هذا فلو ظهر يف بادىء الرأي أن التكليف قد وقع مبا ال يدخل حتت قدرة العبد ،

فالتحقيق أن التكليف ورد ، إما بسوابق هذا األمر الغري مقدور أو بلواحقه أو بقرائنه ، وليس

التكليف به هو .

، واملوت ليس داخال نتم مسلمونفال متوتن إال وأ ومن األمثلة على ذلك قوله تعاىل :

حتت قدرة املكلف وال العلم به داخال حتت قدرته أيضا ، فالتكليف يف احلقيقة باإلسالم السابق

للموت دون املقارن الذي قامت األدلة على عدم نفعه و اإلسالم داخل حتت قدرة املكلف .

Page 42: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

، وال تكن عبد اهللا القاتل )). فجلب ومثل قوله صلى اهللا عليه وسلم :(( كن عبد اهللا املقتول

املوت لنفسه ليس مما يدخل حتت قدرته ، ولكن املراد عدم تعاطي أسباب قتل الغري ، اليت هي

من سوابق املوت . ومثله األمر حبب شرعا أو بغض ما يبغض شرعا ، فاحلب والكراهية مما ال

مران يهجمان على القلب ، فال يدخل حتت قدرة املكلف ، وال خيار له فيهما ،بل مها أ

يستطيع اإلنسان هلما دفعا ، كما أنه اليستطيع هلما جلبا ، لكنهما ال يصالن للقلب

إال بعد تعاطي أسباب موصلة إليهما ، فمثال ال ميكن أن يكون احلب يف القلب لشيء

الذاتية ، أو بعد أن يصل إال بعد أن يتفكر اإلنسان ويتأمل يف حماسنه وصفاته اجلميلة احلسنة

إىل اإلنسان إحسان ذلك احملبوب وبره وفضله ورعايته ، ويتأمل اإلنسان ذلك ببصره وبصريته

فيورثه حبه .

فالتكليف واقع على التحقيق بسوابق احلب ، اليت هي التأمل يف صفات احلسن والفضل

نا حببه ، أو يف وجود األمرين معا فيه ، فإذا مما أمرنا حببه ، أة التدبر والتفكري يف إحسان من أمر

تعاطينا هذه األسباب السابقة أورثنا حب من أمرنا حببه والبد ؛ ألنه سيظهر لعقولنا حينئذ أنه

))، وقال صلى اهللا عليه وسلم (( تادوا حتابواحيب قطعا ، قال عليه الصالة والسالم : ((

وكذلك يقع التكليف بلواحق هذا احلب وما ينشأ عنه من ))، أحبوا اهللا ملا يغذوكم به من نعمه

أعمال وأفعال مما هو داخل حتت قدرة املكلف ، مثل متابعة الرسول صلى اهللا عليه وسلم بعد

حمبته ، ومثل طاعة اهللا واخلضوع له ، واالستجابة ألمره بعد حمبته ، ومثل الدعاء أليب بكر وعمر

Page 43: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

، مثل نصرة املؤمنني الصادقني يف سبيل اهللا بعد حمبتهم ، وغريمها من الصاحلني بعد حمبتهم

وأمثال ذلك كثري .

وعلى هذا فلو مل يقع يف القلب حب ملن أمرنا حببه ، فال حرج على املكلف إمنا احلرج يف

عدم قيامه مبا يدخل حتت قدرته ، من سوابق هذا احلب ومقدماته ، أو لواحقه ومثراته ، مع أنه

ور عقال أن يقوم املكلف مبا جيب عليه ويدخل حتت قدرته من أسباب التكليف ، مث ال ال يتص

يثمر ذلك احلب املأمور به شرعا ، وقس على ذلك أمر البغض والكره ، وما يشابه هذا من

األمور اجلبلية الفطرية الداخلة على اإلنسان اضطرارا ال اختيارا ، مثل الكرب واحلسد وحب الدنيا

اه وما يقابلها من العلم والتفكر واالعتبار واليقني واخلوف والرجاء ، وهو باب من الفقه من واجل

أدركه وعرفه حل له كثريا من املعضالت ، وخباصة يف أعمال القلوب واملقاصد والنيات واهللا أعلم

.

كلف ، فإن كان املثري والسبب السابق ألي من هذه األوصاف غري داخل حتت قدرة امل

فيتوجه اخلطاب حينئذ إىل اللواحق والثمرات فق كمن رأى امرأة بغري قصد منه ، فصرف نظره

ألول وهلة ، ولكن حبها وقع يف قلبه ، فالتكليف ال يدخل على السوابق ، وال يؤاخذ هذا

اإلنسان على نظره الذي مل يقصد إليه ، بل سارع لغضه وصرفه ، ولكن وقع احلب يف قلبه

را ، وحينئذ ينصرف التكليف واخلطاب الشرعي إىل لواحق هذا احلب ، وهو ما يرتتب اضطرا

Page 44: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

عليه من عفة وصرب وبعد عن الريبة وعدم السعي واالستمتاع بسماع حديثها ، وقس على هذا

املثال أشباهه.

األمر وهنا أمر ينبغي االلتفات إليه لئال تثور يف النفوس شبهة من الكالم السابق ، وهذا

هو أن السوابق إذا تعلق با اخلطاب الشرعي طلبا للفعل وهو األمر أو طلبا للرتك وهو النهي ،

فتعاطاها املكلف استجابة ألمر اهللا أو عصيانا له ، فنشأ عنها من األوصاف ما اليدخل حتت

ابا أو قدرة املكلف من حب أو بغض أو خوف أو حسد أو غري ذلك ، فحينئذ يتعلق اجلزاء ثو

عقابا بذه األوصاف باعتبارها مثرات ألعمال سابقة هلا مكتسبة ومقدورة للمكلف ، ال

باعتبارها أوصاف غري داخلة حتت قدرته .

وأكثر هذه األوصاف أصله فطري ، ولكن مواطن إيقاعها يف احلياة متعلقة بأفعال

مات وإما لواحق ومثرات ، وإما األمرين معا . املكلفني ، إما سوابق ومقد

وتفريعا على هذا الضاب الكلي العام ، انتفى يف الشرع تكليف النون والصيب والنائم ،

إما لعدم قدرتم وأهليتهم لفهم التكليف واالمتثال له ، وإما لنقص هذه القدرة نقصا غالبا

ال ، لكان تكليفا مبا ال يطاق ، ويلحق بم أشباههم ، عليهم ، فلو كلفوا وهم يف هذه األحو

مثل املكره إكراها ملجئا ال خيار له معه .

Page 45: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الضابط الثاني :

أن التكليف يأيت مبا فيه مشقة وهو داخل حتت القدرة واالستطاعة ، وقد أخرب صلى اهللا

اصطالح علماء الشريعة هلا عدة معان عليه وسلم بأن اجلنة حفت باملكاره ، واملشقة يف عرف و

منها :

أن املشقة تطلق على ما فيه تعب وعنت سواء كان مقدورا عليه ، فأما غري املقدور -١

عليه فهو ما ورد احلديث عنه يف الضاب األول ، وأما املقدور عليه فهو ما سريد احلديث عنه يف

عاة التفصيل الذي سيذكر. هذا الضاب ، وهو املراد يف اجلملة مع مرا

تطلق املشقة ويراد با ( املقدور عليه لكنه خارج عن املعتاد يف األعمال العادية ، -٢

حبيث يشوش على النفوس يف تصرفها ويقلقها يف القيام مبا فيه تلك املشقة ).

اإلنسان ، حبيث فإن كانت املشقة بذا االصطالح يف أفعال خمصوصة بأعيا�ا مما كلف به

لو وقع هذا الفعل لوجدت هذه املشقة غالبا ، فهو ما شرعت له الرخص، كالفطر والقصر

واجلمع واملسح ، وأشباه ذلك .

أما إن كانت غري خمتصة بفعل بعينه ، ولكنها يف كليات األعمال ، حبيث لو داوم عليها

يتصور يف الفرائض ، بل هو ممكن يف لصارت شاقة خارجة باملكلف عن املعتاد ، وهذا ال

النوافل عند اإلكثار منها ، وهي اليت ورد النهي عن صور منها ، مثل النهي عن الوصال يف

Page 46: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الصوم ، ومثل قوله صلى اهللا عليه وسلم : (( وخذوا من األعمال ما تطيقون ، فإن اهللا لن ميل

تبلغوا )). حىت متلوا )) ومثل قوله صلى اهللا عليه وسلم :(( القصد

واملشقة بذا االصطالح واملعىن غري مقصودة للشارع ، وغري واقعة يف أحكام الشريعة وال

تكاليفها ؛ ألن النصوص الشرعية تواترت على نفي احلرج والعنت واملشقة عن املكلفني با ،

خيفف عنكم يريد اهللا أن، وقوله : وما جعل عليكم يف الدين من حرج مثل قوله تعاىل :

. يريد اهللا بكم اليسر وال يريد بكم العسر ، وقوله : وخلق اإلنسان ضعيفا

ومثل قوله صلى اهللا عليه وسلم : (( يسروا وال تعسروا)) ، وقوله صلى اهللا عليه وسلم :((

ار بعثت باحلنيفية السمحة ))، وقالت عائشة رضي اهللا عنها :(( ما خري بني أمرين إال اخت

أيسرمها ما مل يكن إمثا)) ، وقال صلى اهللا عليه وسلم :(( إن الرفق ال يكون يف شيء إال زانه

وال ينزع من شيء إال شانه ))، وقال :(( هلك املتنطعون ))، و�ى عن الغلو والتشدد ، وأمر أال

يلزم الناس أنفسهم من العمل ما ال يطيقون.

لكثرية الدالة على هذا املعىن القطعي ، وهو أن أحكام إىل غري ذلك من نصوص الشرع ا

الشريعة جاءت لرفع احلرج والعنت واملشقة ، بل جاءت إلسعاد املكلفني يف الدارين ، قال تعاىل

: من عمل صاحلا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة .

Page 47: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

معتادة أو آمر با ، لكان ذلك فلو جاء شيء من تكاليف الشريعة متضمنا ملشقة غري

تناقضا مع ما دلت عليه هذه النصوص والتناقض يف شريعة رب العاملني مستحيل ، بل هي

منزهة عن كل نقص وخلل وتقصري .

وما تشريع الرخص يف الشريعة إال دليل على أن الشريعة خالية عن املشقة غري املعتادة يف

ختفيف . تكاليفها وإال ملا كان مث ترخيص وال

وتطلق املشقة ويراد با ما فيه كلفة وتعب ، لكن ذلك مما يدخل حتت القدرة ، وال -٣

خيرج عن التعب املعتاد يف األعمال الدنيوية العادية ، والشريعة جاءت تكاليفها متضمنة للمشقة

نه ، وهو من سنن بذا االعتبار االصطالح الذي هو من لوازم احلياة ، بل ال تتصور احلياة بدو

اهللا اليت أجرى احلياة عليها ، فال ميكن بدو�ا طلب معاش وال القيام مبهنة ، وال تقطع هذه

املشقة املعتادة عن العمل يف الغالب املعتاد ، بل إن أرباب العقول يعدون من خالف هذا السنن

من أهل الكسل والبطالة .

Page 48: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ضابط المشقة المعتادة :

الشاطيب رمحه اهللا :( يرجع الفرق بني املشقة اليت ال تعد مشقة عادة واليت تعد مشقة ، قال

هو إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إىل االنقطاع عنه أو عن بعضه ، وإىل وقوع خلل يف

صاحبه : يف نفسه أو ماله أو حال من أحواله ، فاملشقة هنا خارجة عن املعتاد .

ها شيء من ذلك يف الغالب فال يعد يف العادة مشقة ، وإن مسيت كلفة ، وإن مل يكن في

فأحوال اإلنسان كلها كلفة يف هذه الدار يف أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له القدرة

عليها ، حبيث تكون تلك التصرفات حتت قهره ، وال أن يكون هو حتت قهر التصرفات ،

بغي أن يفهم التكليف وما تضمن من املشقة ). فكذلك التكاليف ، فعلى هذا ين

وهذا االعتياد وعدمه يف املشقة خيتلف باختالف األشخاص واألزمان واألمكنة والظروف

احمليطة واألحوال املصاحبة ، ولذلك قد يكون األمر معتادا يف حق شخص يف حال دون حال

يراع هذا األمر ويتأمل هذا الضاب آخر وقد يكون معتادا يف حق شخص دون أخر ، ومن مل

عند تنزيل األحكام على الوقائع فر أو إفر ، فحمل ما ال يطيقون ،أو ضيع أحكام الشرع

وتكاليفه ، فهذا الرسول صلى اهللا عليه وسلم يقول لألعرايب الذي أقسم ال يزيد على الفرائض

(( ال تكن مثل فالن كان يقوم شيئا :(( أفلح إن صدق ))، ويقول يف حق عبد اهللا بن عمر :

الليل فرتك قيام الليل ))، وقال عن الذين أمروا اجلريح بالطهارة فمات : (( قتلوه قتلهم اهللا))،

وقليل األمثلة يشري إىل سائرها ، وبذا يفهم حال كثري من السلف وما أثر عنهم من أمور قد

Page 49: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

تساهل ، ولكن احلقيقة أنة هذا الضاب يظن با التناقض ألول وهلة واالختالف بني التشديد وال

هو الذي به تفهم مثل تلك األحوال ؛ إذ خروج املشقة عن االعتياد وظن إضرار العمل باملكلف

أو بغريه سبب للرتخيص يف العمل ، أو تركه إن كان من النافل واملستحبات ، واحلكم يدور مع

علته وجودا وعدما .

هذه املشقة وإن كانت واردة يف تكاليف الشريعة ومن لوازمها غالبا ومما جيب أن يعلم ، أن

إال أ�ا ليست مقصودة يف ذاتا للشارع من جهة كو�ا مشقة ، بل الطلب الشرعي متوجه إىل

التكاليف واملصاحل الشرعية ، وهذه املشقة حاصلة والزمة يف الطريق إىل حتقيق هذه املصلحة

وذلك ملا سبق بيانه من عموم األدلة على األدلة على أن احلرج على واالستجابة هلذا التكليف ،

املكلفني مرفوع ومدفوع وغري مقصود للشارع ،( فالشريعة هي حياة القلوب وبجة النفوس ولذة

األرواح ، واملشقة احلاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد الثاين ، كوقوعه يف األسباب املفضية إىل

ال أنه مقصود لذاته ، فضال عن أن يكون هو املقصود ال سواه ، فتأمل هذا الغايات املطلوبة ،

املوضع ، وأعطه حقه من الفكر يف مصادرها ومواردها ، يفتح لك بابا من العلم واإلميان فتكون

من الراسخني يف العلم ).

لعمل والالحقة وإن كان اهللا سبحانه وتعاىل تفضال ورمحة قد جعل على املشقة الالزمة ل

ذلك بأ�م ال يصيبهم ظمأ وال نصب وال خممصة للتكليف ثوابا وأجرا ، كما يف قوله تعاىل :

يف سبيل اهللا وال يطئون موطئا يغيظ الكفار وال ينالون من عدو نيال إال كتب هلم به عمل صاحل

Page 50: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ساجد ، والنهي عن التبتل ، ، ومثل ما ورد يف أسباغ الوضوء على املكاره ، وكثرة اخلطا إىل امل

وأمثال ذلك .

وعلى هذا فيجوز للمكلف أن يقصد لألجر األعظم واألكثر يف العمل األشق ال ملا فيه

من زيادة املشقة ؛ ألن املشقة غري مقصودة بذاتا للشارع ؛ ألن املشقة لذاتا فق من باب

وذلك مثل من نذر الصيام قائما يف املفاسد ، ويستحيل أن يقصد الشرع للمفاسد لذاتا ،

الشمس ، فأمره النيب صلى اهللا عليه وسلم أن يتم الصيام ويستظل عن الشمس ؛ ألنه ال يتقرب

إىل اهللا بتعذيب النفوس ؛ ولذلك إن علم املكلف أو غلب على ظنه أن تركه لألخذ بالرخصة

أو تركه بعد ذلك وجب عليه يدخل فسادا يف جسمه أو عقله أو يؤدي إىل تقصريه يف العمل

قبول رخصة اهللا واألخذ با ، فإن أخذ با لرفع احلرج عن نفسه وحلظها دون مالحظة تلبية أمر

ربه فهو حظه من األمر ، وإن قبل ذلك استجابة لربه ، مث مراعاة لرفع احلرج عن نفسه ، وسعيا

ن اهللا . لتحقيق املقصد الشرعي من ذلك ، فهو الثواب ورفع احلرج بإذ

تطلق املشقة ويراد با إخراج املكلف عن هوى نفسه وخمالفته لرغبته وشهوته ، إذ -٤

خمالفة اهلوى على صاحب اهلوى مطلقا ، ويلحق اإلنسان بسببها تعب وعناء ، قال تعاىل :

، وقال إن يتبعون إال الظن وما توى األنفس، وقال سبحانه : أفرأيت من اختذ إهله هواه

. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهمتعاىل :

Page 51: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وهذه املشقة غري معتربة يف الشرع وال مراعاة ؛ إذ إن الشرع جاء إلخراج الناس عن دواعي

اتبع احلق أهواءهم لفسدت السماوات واألرض ومن فيهن ولواهلوى ، قال تعاىل :

هللا عليه وسلم :(( ال يؤمن أحدكم حىت يكون هواه تبعا ملا جئت به )) أي يكون وقال صلى ا

وال تتبع معطال لداعي اهلوى ، متبعا ألمر الشرع ، حامال لنفسه على ذلك ، قال تعاىل :

وأما من خاف مقام ربه و�ى النفس عن اهلوى ، وقال تعاىل : اهلوى فيضلك عن سبيل اهللا

. ولئك الذين طبع اهللا على قلوبم واتبعوا أهواءهمأ ، وقال :املأوى فإن احلنة هي

وقد علم باالضطرار من شرع اهللا ،أن الناس خلقوا لعبادة اهللا والدخول حتت أمره و�يه ،

واالسرتسال مع دواعي اهلوى يضاد ذلك ويناقضه ، بل إن تعارض األهواء وتصارع األغراض

ياع املصاحل وانتشار التهارج واهلالك ، وعلى هذا فال اعتبار هلذه املشقة يف يؤدي وال بد إىل ض

الشرع ال من حيث الرتخص وال من حيث التخلي عن العمل ملخالفته اهلوى ؛ألن ( التكاليف

الشرعية بذا االعتبار ثقيلة على النفوس واحلس والعادة ، والتجربة شاهدة بذلك ).

جاهدة النفس ومحلها على احلق وأطرها عليه ، وإن كان التشريع يراعي ولذا أمر العبد مب

ذلك يف بداية الدعوة إىل دين اهللا ، فيتدرج مع املدعو يف االلتزام بأحكام الشريعة ، كما كان يف

التدرج يف تشريع األحكام ، وكما يف حديث معاذ حني بعثه النيب صلى اهللا عليه وسلم ألهل

إنك تأيت قوما أهل كتاب ....)) احلديث وكان ذلك يف آخر حياة النيب اليمن ، وقال :((

Page 52: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

صلى اهللا عليه وسلم ،أما من دخل يف عقد اإلسالم وأصبح من أهل اإلميان ، فليس أمامه إال

االستجابة هللا ورسوله يف كل ما شرع اهللا .

فته واتباع األمر والنهي ويرتتب على هذا أن التباع اهلوى يف العبادات والعادات أو خمال

الشرعي صور وأحكام ،منها أن اتباع اهلوى بإطالق يف العبادات من غري التفات إىل اخلطاب

الشرعي باطل بإطالق ، وإن صح العمل يف الفتوى ظاهرا ، وسواء كان هذا اهلوى والداعي

أغراض النفوس الرياء ، أو اخلوف من اخللق ، أو الرغبة فيما يف أيديهم ،أو غري ذلك من

ومطالبها .

وأما العادات فال يرتتب عليها الثواب إذا مل يلحظ فيها اخلطاب الشرعي ، وكان املالحظ

فيها فق اهلوى والداعي النفسي ، لكنها صحيحة غري باطلة إذا جاءت يف ظاهرها وحدودها

على مقتضى خطاب الشرع .

الشرع وحظ النفس ، فاحلكم للغالب األقوى يف احلمل أما إذا امتزج األمران ، مالحظة خطاب

على الفعل واألسبق إىل النفس منهما .

Page 53: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الضابط الثالث:

أن املقاصد التابعة جيب أن تدور يف فلك املقاصد األصلية ، وأن تكون خادمة هلا ،

قاصد التبعية ؛أل�ا حائمة حوهلا ، ممدة حلفظها ، حمققة وميسرة لغايتها وإال لبطلت تلك امل

بالنسبة للمقاصد األصلية كالفرع بالنسبة ألصله ، وقد سبق معنا أن الفرع إذا ناقص أصله أو

ورد بصورة قد تؤدي إلبطال ذلك األصل ، أن الفرع أوىل باإلبطال واإلمهال وعدم االعتبار

حفاظا على األصل ؛ ألنه أوىل بالرعاية واالعتبار .

قاصد األصلية .... فهي الضروريات املعتربة يف كل ملة ...؛ أل�ا قيام مبصاحل ( فأما امل

عامة مطلقة ال ختتص حبال دون حال وال بصورة دون صورة وال بوقت دون وقت ...، فكل

مكلف مأمور حبفظ دينه اعتقادا وعمال ، وحبفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وحبفظ عقله

ربه إليه ، وحبفظ نسله التفاتا إىل بقاء عوضه يف عمارة هذه الدار .... حفظا ملورد اخلطاب من

، وحبفظ ماله استعانة على إقامة تلك األوجه األربعة ...، ولو فرض اختيار العبد خالف هذه

األمور حلجر عليه ، وحليل بينه وبني اختياره ...، وأما املقاصد التابعة فهي اليت روعي فيها حظ

من جهتها حيصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات واالستمتاع باملباحات املكلف ، ف

وسد اخلالت ، وذلك أن حكمة احلكيم اخلبري حكمت أن قيام الدين والدنيا إمنا يصلح

ويستمر بدواع من قبل اإلنسان حتمله على اكتساب ما حيتاج إليه هو وغريه ، فخلق له شهوة

وع والعطش ، ، ليحركه ذلك الباعث إىل التسبب يف سد هذه اخللة الطعام والشراب إذا مسه اجل

Page 54: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

مبا أمكنه ، وكذلك خلق له شهوة إىل النساء لتحركه إىل اكتساب األسباب املوصلة إليها ،

وكذلك خلق له االستضرار باحلر والربد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إىل اكتساب

لنار ، وأرسل الرسل مبينة أن االستقرار ليس ههنا ، وإمنا هذه اللباس واملسكن ، مث خلق اجلنة وا

الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة األبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابا هنا بالرجوع إىل

ما حده الشارع أو باخلروج عنه ....، فمن هذه اجلهة صارت املقاصد التابعة خادمة للمقاصد

جعل االكتساب هلذه احلظوظ مباحا ال ممنوعا ، لكن على قوانني األصلية ومكملة هلا ...، و

واهللا يعلم وأنتم شرعية هي أبلغ يف املصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة

، ولو شاء ملنعنا يف االكتساب األخروي القصد إىل احلظوظ ، فإنه املالك وله احلجة التعلمون

القيام حبقوقه الواجبة علينا بوعد حظي ، وعجل لنا من ذلك حظوظا البالغة ، ولكنه رغبنا يف

كثرية نتمتع با يف طريق ما كلفنا به ، فبهذا اللحظ قيل إن هذه املقاصد توابع ، وإن تلك هي

األصول ).

وقد جرت حمكمات الشريعة بالتأكيد يف طلب ما ليس للنفس فيه حظ عاجل إن كان

الصالة والصيام واجلهاد وتعليم الناس ودعوتم للحق والصرب على أذاهم يف فعله مطلوبا ، مثل

ذلك وإنفاق املال يف وجوه الرب ، فإن كان املطلوب تركه ، وليس للنفس حظ عاجل يف فعله ،

خفف الشرع يف الزجر عنه اعتمادا على ما يف اجلبلة من النفور عنه وعدم امليل إليه ، كتحرمي

Page 55: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

، والتلبس بالنجاسات ، وتعريض النفس للهالك باجلوع أو الظمأ اختيارا ، أكل املستقذرات

وأمثال ذلك .

وعكس ذلك ما طلب تركه ويف النفس قوة داع لفعله وحظ عاجل يف حتصيله ، كالزنا

وأكل مال اليتيم والسرقة فقد شدد الشرع الوعيد والعقاب الدنيوي واألخروي لفاعله ، مراغمة

النفوس وكسرا جلماحها . ألهواء

وما طلب الشرع فعله وكان للنفس فيه حظ عاجل وباعث قوي حيمل النفس عليه قهرا مل

يؤكد عليه الطلب ومل يشدد ، اكتفاء مبا غرس يف اجلبلة وإحالة على ما يف الطبع ، كاملآكل

واملشارب واملناكح وما قد يلحق بذلك من أمور .

اليت هلا دواع طبعية مغروسة يف أعماق النفس اإلنسانية اكتفى الشارع بشرعها (فإن األمور

ومل يقم الدواعي إىل فعلها اكتفاء بالدوافع الداخلية ...، أما األفعال اليت تكرهها النفوس وتنفر

منها ، والشارع يريد من اإلنسان حتقيقها والقيام با فإن الشارع حيدث هلا من الدواعي مبقدار

راهيتها هلا ونفارها منها ). ك

و( طلب اإلنسان حلظه حيث أذن له البد فيه من مراعاة حق اهللا وحق املخلوقني ، فإن

طلب احلظ إذا كان مقيدا بوجود الشرو الشرعية وانتفاء املوانع الشرعية ووجود األسباب

ث هو مطلوب به فقد الشرعية على اإلطالق والعموم ، وهذا كله الحظ فيه للمكلف من حي

خرج يف نفسه عن مقتضى حظه ).

Page 56: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

فينبغي أن يكون القصد التبعي وخادما للقصد األصلي الكلي ، فمثال حني أباح الشرع

لإلنسان قضاء شهوته ووطره يف الوقاع بالشرو واألسباب الشرعية فإمنا ليكون ذلك خادما

ع اإلنساين لعمارة األرض بشرع اهللا ، فإن أراد للمقصد األصلي ، وهو حفظ النسل وبقاء النو

اإلنسان حتقيق القصد التابع وهو قضاء الشهوة بصورة تناقض األصل وهو بقاء النسل ، فعمله

حينئذ وردود وباطل ، وكذلك لو أراد حتقيق قصد تناول املطعوم والتلذذ به وهو قصد تبعي

اإلبطال ، كمن تلذذ بأكل السموم أو بصورة تعود على القصد األصلي وهو حفظ احلياة ب

املخدرات أو شرب اخلمور ،أو أكل ما يشكل على احلياة خطر، ومثل ذلك الوالية فهي مما

تتلذذ با النفوس بطبيعة اإلنسان فهي قصد تبعي للنفس فيه حظ ، فإذا صرفت حلفظ الدين

فرعي التبعي خادما والنفوس واألموال وغريها من الضروريات حتقق حينئذ كون املقصد ال

للمقاصد األصلية ، لكن إن أصبحت الوالية سببا للفساد يف األرض ونشر الكفر والفجور

وتضييع حدود الدين ، وظلم اخللق يف األموال واألنفس واألعراض فهي والية باطلة والقصد

إليها مردود ، وقس أمثال ذلك من مجيع األعمال .

ده ملا فيه حظوظ نفسه ابتداء استجابة لألمر والنهي الشرعي وأعلى من هذا من كان قص

وحتقيقا للقصد الشرعي من حفظ هذه املقاصد ومراعاتا يف اخللق مع عدم االلتفات إىل حظ

نفسه وذهوله عن دواعيه ، مع أنه لو قصد إليها بشروطها وأسبابا وانتفت موانعها ملا كان علية

بل وألصبح مقصده عبادة لربه حني يقرن ذلك بالقصد أوال إىل مؤاخذة من الناحية الشرعية ،

Page 57: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

االستجابة للخطاب الشرعي وحتقيق القصد الشرعي األصلي . و( من تتبع مقاصد الشرع يف

جلب املصاحل ودرء املفاسد حصل له من جمموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه املصلحة ال

). جيوز إمهاهلا ، وأن هذه ال حيوز قربا�ا

(ويظهر من هنا أيضا أن البناء على املقاصد األصلية يصري تصرفات املكلف كلها عبادات

كانت من قبيل العبادات أو العادات ...، فالعامل باملقاصد األصلية عامل يف هذه األمور يف

ن هذه نفسه امتثاال ألمر ربه واقتداء بنبيه عليه الصالة والسالم ، فكيف ال تكون تصاريف م

سبيله عبادة كلها ؟ خبالف من كان عامال على حظه، فإنه إمنا يلتفت إىل حظه أو ما كان

طريقا إىل حظه ، وهذا ليس بعبادة على اإلطالق ، بل هو عامل يف مباح إن مل خيل حبق اهللا أو

حبق غريه فيه ).

الضابط الرابع :

ا ، مبعىن أن الشريعة جاءت أحكامها عامة شاملة عموم الشريعة زمانا ومكانا وأشخاص

كلية جلميع املكلفني يف مجيع األزمنة ومجيع األمكنة ، ال خيرج عن حكمها زمان وال مكان وال

قل يا أيها إنسان فال يسع أحدا اخلروج عن أحكام الشريعة حبال من األحوال ، قال تعاىل :

، وما أرسلناك إال كافة للناس بشريا ونذيرا قال تعاىل : ، و الناس إين رسول اهللا إليكم مجيعا

وما أرسلناك إال رمحة وقال صلى اهللا عليه وسلم :(( بعثت إىل كل أمحر وأسود ، وقال تعاىل :

. للعاملني

Page 58: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وهذا أمر مقطوع به يف الشريعة عند أهلها وما ظن أنه خارج عن أحكام التكليف ،

ني فظن يف غري حمله ؛ إذ أ�م داخلون والبد حتت حكم الشرع لكن لعدم كالصبيان والان

تأهلهم لتلقي اخلطاب والعمل به ، وجه اخلطاب إىل أوليائهم ليدخلوهم حتت ما يلزم إدخاهلم

حتته من أحكام الشرع .

ولئن كان ال إشكال يف الدخول حتت األمر والنهي ، فإن اإلشكال يزول أيضا يف حكم

اإلباحة إذا علمنا أن من له حق اإلباحة أو التحرمي هو اهللا ، ومن هنا أدخل األصوليون اإلباحة

يف أحكام التكليف ، لوجوب اعتقاد كون املباح مباحا ، أي عدم جواز إجيابه أو حترميه ،

وكذلك أن تلقي اإلباحة من جهة الشرع ، سواء كان األصل يف األشياء اإلباحة ، أو نص على

إباحة أشياء يف الشرع ،فإن كل ذلك يتلقى من الشرع ال غري .

وهذا الشمول والعموم إما بالنصوص أو بالقياس عليها أو باإلمجاع أو غري ذلك مما نعرف

به أحكام الشرع يف الوقائع والنوازل ، وهذا هو مقتضى العبودية هللا ، إذ لو جاز ألحد من

وما ريعة خلرج عن حقيقة العبودية هللا ، وقد قال تعاىل :املكلفني أن خيرج عن حكم الش

، وقال واعبد ربك حىت يأتيك اليقني، وقال سبحانه : خلقت اجلن واإلنس إال ليعبدون

، وقال املصطفى فمن يعمل مثقال ذرة خريا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سبحانه :

ليس عليه أمرنا فهو رد )). صلى اهللا عليه وسلم : (( من عمل عمال

Page 59: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وبذا يظهر لك ضالل من ظن سقو بعض التكاليف عن بعض املكلفني من الصوفية أو

غريهم ، وزعمهم أن هذه التكاليف جاءت للعوام دون اخلواص ، أو جاءت إليصال املكلف

ن زمان ،أو أن لربه ، وهم قد وصلوا بزعمهم ، أو من ظن أن الشريعة جاءت أحكامها لزمان دو

بعض أحكامها ال يصلح هلذا الزمان ، وأمثال ذلك ، وما قد يظن أنه خارج عن أحكام الشرع

من أفعال بعض األئمة الربانيني فليس كذلك بل هو مما تنازعه أكثر من أصل من أصول

بل نظر األحكام ، فأحلقه اإلمام التهد بأحدها اجتهادا منه ومل يلتفت الناظر املقلد لذلك ،

فق يف األصل الذي أخرج هذا الفعل عنه ، ومن ظن أن أحدا من اخللق يسعه اخلروج عن

فال وربك ال شريعة اهللا باختياره فقد وقع يف الكفر والعياذ باهللا بظنه ذلك ، قال تعاىل :

. يؤمنون حىت حيكموك فيما شجر بينهم

يا ، ليس حبق يف نفسه ، بل هو إما خيال أو ( فإن ما خيرم قاعدة شرعية أو حكما شرع

وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد خيالطه ما هو حق ، وقد ال خيالطه ، ومجيع ذلك ال يصح

اعتباره ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم عام ال خاص ، وأصله

من الدخول حتت حكمه مكلف ). ال ينخرم ، وال ينكسر له اطراد ، وال حياشى

و( الشريعة كما أ�ا عامة يف مجيع املكلفني وجارية على خمتلفات أحواهلم ، فهي عامة

أيضا بالنسبة إىل عامل الغيب وعامل الشهادة ، فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما

نرد إليها كل ما يف الظاهر ).

Page 60: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الضابط الخامس:

جريان التكليف الشرعي على اطراد العادات يف اخللق ،( ذلك أن جماري العادات يف

الوجود أمر معلوم ال مظنون ) ألن العوائد ثابتة دائمة على مقتضى سنن اهللا يف الوجود اليت ال

تبديل هلا ، بل إن اعتبار العادات سبب لثبات الشرع وعدم تبدله وتغريه ، فإن الشريعة جاءت(

لتكاليف الكلية فيها بالنسبة إىل من يكلف من اخللق موضوعة على وزان واحد ، وعلى مقدار ا

واحد ، وعلى ترتيب واحد ، ال اختالف فيه حبسب متقدم وال متأخر ...، ولو اختلفت العوائد

القتضى ذلك اختالف التشريع ، واختالف اخلطاب فال تكون الشريعة على ما هي عليه ).

وال اعتبار ما جرت به العادات ملا عرف أصل الدين ؛ ألن الدين ال يعرف إال بالنبوة بل ل

، وال سبيل إىل معرفة النبوة إال باملعجزة ، وال تكون املعجزة إال خبرق العادة املتقرر اطرادها يف

ذا االعتبار املاضي واحلال واالستقبال ، ( ولوال استقرار العلم بالعادات ملا ظهرت اخلوارق ) ؛ وهل

جرى على ألسنة الفقهاء ( العادة حمكمة ) واعتربوها من قواعد الفقه اليت جتري يف كثري من

أبوابه .

Page 61: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

والعوائد بالنسبة إلى وقوعها في الوجود قسمان :

( العوائد العامة اليت ال ختتلف حبسب األعصار واألمصار واألحوال ، القسم األول :

رح واحلزن والنوم واليقظة ، وامليل إىل املالئم والنفور عن املنافر ، وتناول كاألكل والشرب والف

الطيبات واملستلذات ، واجتناب املؤملات واخلبائث ...، فيقضي به على أهل األعصار اخلالية ،

والقرون املاضية للقطع بأن جماري سنة اهللا تعاىل يف خلقه على هذا السبيل ...، فيكون ما جرى

الزمان احلاضر حمكوما به على الزمان املاضي واملستقبل مطلقا . منها يف

العوائد اليت ختتلف باختالف األعصار واألمصار واألحوال ، كهيئات اللباس والثاين :

واملسكن ،... فال يصح أن يقتضى به على من تقدم البتة ، حىت يقوم دليل على املوافقة من

قبل ). خارج ،... وكذلك يف املست

وهذه العادات منها ما أقره الدليل الشرعي وجوبا أو ندبا ، أو نفاه حترميا أو كراهة ،

كاألمر بإزالة النجاسات ، أو النهي عن الطواف عريانا ، وما أشبه ذلك ، فما حسنه الشرع من

أن يقال : إن ذلك ال ميكن أن يكون قبيحا ، وما قبحه ال ميكن أن يكون حسنا ، فال ميكن

كشف العورة كان قبيحا عند نزول التشريع وسيكون حسنا بعد ذلك .

ومن العوائد ما مل يقره أو ينفيه الدليل الشرعي ، لكنه ثابت ال يتغري وال يتبدل ، كوجود

شهوة الطعام والشراب والوقاع ، وعادات النظر والكالم واملشي والغضب والنوم ، فهذه أسباب

كام ترتتب عليها ، فال يتعلق با حتسني وال تقبيح شرعي لذاتا ، ولكن باعتبار ذرائعها ألح

Page 62: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ومآالتا ، فمن تذرع لألكل بالكسب احلرام فهو قبيح ، ومن تذرع له باحلالل فهو حسن ،

ومن مشى للطاعة فهو حسن ، ومن مشى للمعصية فهو قبيح ، وهكذا ، وقد تكون العادات

ة ، فتتبدل أحكامها تبعا لتبدهلا ، مثل كشف الرأس قد يكون يف زمن أو مكان متبدلة غري ثابت

قبيح لذوي املروءات مسقطا للعدالة عرفا ، وقد يكون يف زمن آخر أو مكان آخر غري قادح يف

العدالة ، فيكون احلكم الشرعي تبعا يف ذلك للعرف والعادة .

بض الصداق قبل الدخول يف بلد من البلدان أو زمن من ومثل أن تكون العادة يف النكاح ق

األزمنة دون غريه ، فيكون احلكم تبعا لذلك .

ومما يلحق بذلك اختالف عادات الناس يف التعبري عن املعاين بني أرباب الصنائع وأهل

لى مقتضى العلوم والفنون فتجري األحكام يف األميان والعقود والطالق وأمثال ذلك لكل أناس ع

اصطالحهم وإن احتد اللفظ تبعا للعادة اخلاصة بذلك .

( واعلم أن ما جرى ذكره ها هنا من اختالف األحكام عند اختالف العوائد ، فليس يف

احلقيقة باختالف يف أصل اخلطاب ،... وإمنا معىن االختالف أن العوائد إذا اختلفت رجعت

ليها ). كل عادة إىل أصل شرعي حيكم به ع

ومما جيدر التنبيه عليه ، أن العادة ليست دليال حيلل به أو حيرم ، ولكن الدليل الشرعي

رب بالعادة ، فهي تفسره وحتدد داللته وجمال تطبيقه يف الواقع .

Page 63: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

( قال الفقهاء : كل ما ورد به الشرع مطلقا وال ضاب له فيه وال يف اللغة يرجع فيه إىل

ف ). العر

وال ميكن فهم مراد الشارع وال تطبيقه إال بالتسليم بأن ( العوائد اجلارية ضرورية االعتبار

شرعا،... فال يستقيم إقامة التكليف إال بذلك ،..... مما يدل على وقوع املسببات عن

الفا للدليل أسبابا دائما ، فلو مل تكن املسببات مقصودة للشارع يف مشروعية األسباب خ

القاطع ،.... ولو مل تعترب ألدى إىل تكليف ما ال يطاق ).

ألنه ( ملا كانت املقاصد ال يتوصل إليها إال بأسباب وطرق تفضي إليها ، كانت طرقها

وأسبابا تابعة هلا معتربة با ،... فوسيلة املقصود تابعة للمقصود ، وكالمها مقصود ، لكنه

ات ، وهي مقصودة قصد الوسائل ). مقصود قصد الغاي

وال شك أن ما سبق من كالم جيري على العوائد الكونية اليت على ضوئها قدر اهللا سري

حياة الناس ، مثل حركة الشمس والقمر ، وتعاقب الليل والنهار ، واختالف الفصول ، وتناول

الطعام والشراب واملنام .

أصبحت عرفا عاما زمانا ومكانا أو خاصة بزمان أو مكان دون أو عوائد اعتادها الناس و

غريه ، مثل كيفية اللباس ، أو طريقة تناول الطعام والشراب أو كيفية دفع صداق العروس وأشباه

ذلك مما تنزل عليه أحكام الشرع وأدلته كما تقدم بيانه .

Page 64: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

مقاصد المكلف

لتشريع أن يلحقوا با البحث يف مقاصد املكلفني ، مما جرى عليه أهل العلم عند مقاصد ا

ذلك أن التشريع كما سبق .

معنا نزل ليمتثل له ، واالمتثال البد له من قصد ونية ، فالقصد شطر العمل ، وهو الشطر

األهم منهما ، وخباصة يف باب العبادات ، فأصبح من الضرورة حبثه ؛ ألن املقصد الشرعي ال

متثال املكلف ، وامتثال املكلف ال يتحقق إال بالقصد احلق إليه ، أي أن حتول يتحقق إال با

مقاصد التشريع إىل منهج وعمل ملموس ال ميكن حتققه إال من خالل عمل املكلف وقصده ،

ولذلك حسن حبثه كجزء من مسائل املقاصد .

اعتبار النيات والمقاصد في األعمال :

فاعبد اهللا ، وقال سبحانه : ا أمروا إال ليعبدوا اهللا خملصني له الدينومقال تعاىل :

خملصا له الدين

إال من أكره وقلبه مطمئن باإلميان ، وقال تعاىل : وال يأتون الصالة إال وهم وقال تعاىل :

نيات ، وقال عليه الصالة والسالم :(( إمنا األعمال بال كساىل وال ينفقون إال وهم كارهون

وإمنا لكل امرىء ما نوى ))، وقال صلى اهللا عليه وسلم :(( من قاتل لتكون كلمة اهللا هي العليا

فهو يف سبيل اهللا )).

Page 65: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

إىل غري ذلك من اآليات واألحاديث الكثرية جدا اليت تأمر بإخالص النية وإحسان القصد

ه فق مع احتاد صفة العمل يف يف العمل أو متدح عامال أو تذم آخر بناء على قصده ونيت

احلالتني ، وأنه ال فرق فيها إال يف النية والقصد ، وهلذا عد الفقهاء أول القواعد الكلية يف

وليس عليكم الشريعة قاعدة ( األمور مبقاصدها ) ومن أدلة صحة هذا االعتبار قوله تعاىل :

رفع القلم عن ثالثة ...)) ؛ ، وحديث : (( جناح فيما أخطأمت به ولكن ما تعمدت قلوبكم

وألن القصد من املكلفني هو الذي مييز أعماهلم عن أعمال البهائم والانني ، ( فالقصد

حالة ال بد منها إلجياد الفعل والقصد له متعلقان :

الفعل املراد حتقيقه ، فالقصد جيعله اختياريا ، كاهلوي على السجود مثال ، فإنه األول :

تارة يكون بقصد ، وتارة يسق اإلنسان على وجهه بصرعة أو صدمة .

املعىن الذي كان من أجله الفعل ،... فالذي يقوم خمتارا ، قد يكون قصده القيام الثاين :

احرتاما إلنسان قادم ، وقد يقصد الوقوف تعظيما هللا يف الصالة ، وقد يقصد تناول شيء ما ،

عن باعث يدعو إىل حتقيقه ، فالقصد إجابة ذلك الداعي احملرك إىل الفعل ). فالقيام ال خيلو

ومن أجل هذا كان حفظ العقل الذي به القصد أحد الضرورات ، وألمهية القصد والنية

يف األعمال ، ميكن أن يعمل عمل واحد يقصد به شيء فيكون إميانا ، ويقصد به شيء آخر

ود هللا أو للصنم ، ( ففرق بني من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، فيكون كفرا ، مثل السج

ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة ، والشبه أن هذا ليس له يف اآلخرة من خالق ).

Page 66: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

( ويف كثري من األحيان تتفق األعمال يف الصورة واملظهر ، ويتميز بعضها عن بعض

احد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحب نية صاحلة ، ويكون بالنيات ، فقد يكون الفعل الو

أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة ، ... والنيات متيز رتب العبادات ،... ومتيز بني العبادات

والعادات ).

فبالنية يفرق بني العبادة والعادة ، مثل االغتسال للنظافة أو الطهارة ، ويفرق به بني مراتب

ت ، فتكون الصالة بالنية فرضا أو نفال ، وبالنية يتحدد الفرض هل هو مثال الظهر أو العبادا

العصر ، وهل النفل راتب أو غري راتب ؟

وقد سبق احلديث عن بعض مسائل ومباحث مقاصد املكلف يف الضاب الثالث وهو لزوم

كما سبق بيانه هي مالحظة حظوظ تبعية املقاصد الفرعية للمقاصد األصلية ، واملقاصد الفرعية

النفوس ومرعاتا عند العمل ، وحظوظ النفوس ومراداتا إما أخروية أو دنيوية ، فإن كانت

أخروية من طلب اجلنة وما فيهامن نعيم للنجاة من النار ومل فيها من عذاب فهذا اليناقض

إال عن طريق اهللا ، اإلخالص ، وهو أعظم مقاصد التشريع ، لعلم العبد أن ذلك ال يتحقق

فيكون ذلك أعظم الدوافع له ، لالستجابة ألمر اهللا وإخالص العمل له ، والعبادات والعادات

يف ذلك سواء ، أو تكون هذه احلظوظ دنيوية ، فإن كان طلبها يف باب العبادات ، فإما أن

املقصد يكون القصد من ذلك مراءات الناس ونيل حسن الظن منهم ، فإن كان متبوعا و

الشرعي تابعا فال شك من بطالن العمل وفساده ، وإن كان القصد لرضوان اهللا هو األصل

Page 67: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

وذلك طارىء على العمل ، فإنه ينقص من العمل بقدر ما طرأ عليه من طلب هذا احلظ

العاجل .

أما إن أراد بذلك نفعا لنفسه ، كمن حج ومن مقاصده التجارة أو السياحة ، أو هاجر

ومن مقاصده طلب السالمة يف املال والنفس ، فإذا كان هذا املقصد تابعا واملقصد الشرعي هو

األصل فال يضر ذلك ؛ ألن هذه مما جيوز القصد إليها شرعا وإن كانت يف املرتبة الثانية ، أما

لشرعي لقصد للمراءاة والرياء فال جيوز يف الشرع حبال من األحوال ، أما إذا غفل عن املقصد ا

األصلي متاما فليس له إال ما قصد (( فهجرته إىل ما هاجر إليه )).

وإن كان يف باب العادات واملعامالت فال يؤثر يف صحتها وترتب مثراتا الدنيوية عليها ،

لكنه ال يؤجر عليها إال إذا أراد با وجه اهللا وكان قصده األول االستجابة للخطاب الشرعي من

وإباحة ، ولكن شر هذه األعمال من عادات ومعامالت أن تأيت يف ظواهرها على أمر و�ي

مقتضى النظر الشرعي حمققة لشروطه وأسبابه وساملة من موانعه ، واحلكم بتصحيح هذه

األعمال وترتب آثارها الدنيوية عليها ، هو الذي ال يستقيم أمر احلياة والناس بدونه ؛ ولذلك

ت واملعامالت إىل احلظوظ العاجلة قصدا شرعيا ، إذا مل خيالف الشرع ( كان القصد يف العادا

والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ ... أ�ا موضوعة ملصاحل العباد على اإلطالق

والعموم ، واملطلوب من املكلف أن جيري على ذلك يف أفعاله وأن ال يقصد خالف ما قصد

أن قصد الشارع احملافظة على الضروريات وما رجع إليها من الشارع ،.... وأيضا فقد مر

Page 68: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

احلاجيات والتحسينيات ، وهو عني ما كلف به العبد فال بد أن يكون مطلوبا بالقصد إىل ذلك

.(

ومن هنا يطهر لنا الفرق جليا بني العبادات من جهة وبني العادات واملعامالت من جهة

تقبل وال يؤجر عليها العبد ما مل يرد با طاعة اهللا واستجابة أخرى ، فالعبادات ال تصح وال

ألمره بل يأمث إن أراد با غري اهللا .

أما العادات واملعامالت فإن أراد با طاعة اهللا واالستجابة ألمره غري ملتفت ملا فيها من

ر مع مالحظته حظوظ عاجلة فقد حوهلا لعبادة وهذا أعلى الدرجات ، وإن كان قصده ما ذك

حلظوظ نفسه فيها فهو أيضا يف باب من أبواب العبادة دون سابقة ، وإن أراد با حظوظ نفسه

فهو أمر مشروع قد يؤجر عليه بشر أال يتجاوز فيه احلد املشروع ، وحديث :(( ويف بضع

غري أحدكم صدقة )). واضح يف ذلك لكنه دون سابقيه ، أما إن ( ابتغى يف تكاليف الشريعة

ما شرعت له فقد ناقض الشريعة ، وكل من ناقضها فعمله يف املناقضة باطل ).

وفرق كبري بني من قصد بعمله املقاصد الشرعية الفرعية التبعية من احلظوظ العاجلة وبني

من أراد به أمرا يناقض مقاصد الشرع بالكلية ، بل قد يكون منهيا عنه بالنص عليه ، كمن تزوج

ا بذلك حتليل املرأة لزوجها فق ال غري ، أو الوصية بقصد مضارة الورثة ، أو النفقة أو قاصد

اجلهاد لينال به الذكر يف الدنيا ، أو اهلجرة ليتزوج امرأة ، واليرد على ذلك إيقاع الطالق والعتاق

فهم والنكاح من اهلازل ؛ ألن األول قصد لعمل باطل ، أما هؤالء فليس هلم قصد أصال ،

Page 69: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

قصدوا لأللفاظ وليس هلم ملدلوهلا وال غري مدلوهلا ، فكانوا كاملستهزئني بألفاظ الشرع ، وحني مل

يكن هلم قصد أوقع مدلول األلفاظ عليهم حىت وإن مل يقصدوه .

وال بد عند النظر يف هذا الباب من مالحظة قصد املكلف ومالحظة عمله ، ونسبة كل

بتهما إىل قصد الشارع ، وهو ما سنبحثه يف املسألة اآلتية : منهما إىل اآلخر ، ونس

أقسام أعمال ومقاصد المكلفين بالنسبة لمقصد الشارع

عمل املكلف إما أن يكون موافقا حلد الشرع أو خمالفا له ، وعلى أي من التقديرين إما أن

: يكون قصده موافقة قصد الشارع أو خمالفته ، فهذه أربعة أقسام

أن يكون عمله موافقا ملقتضى الشرع ، وقصده من هذا العمل موافقة الشرع ، األول :

كمن أدى الصالة كما جاءت يف شرع اهللا ، وقصده من هذا العمل االستجابة ألمر اهللا

واملوافقة خلطاب الشارع .

قاصدا به االمتثال للنهي ويلحق به ترك املنكرات من مخر وزىن وغريها على الوجه املشروع

الشرعي ، وهذا القسم ال خالف بني أهل العلم يف صحته ظاهرا أو باطنا قصدا وعمال .

أن يكون العمل خمالفا خلطاب الشرع أمرا و�يا وقصده املخالفة ، كمن ترك الثاني :

صدا خمالفة النهي الشرعي ، الصالة قاصدا ترك الواجب الشرعي ، أو فعل احملرم كشرب اخلمر قا

Page 70: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

فهذا العمل ال خالف أيضا بني أهل العلم يف عدم صحته وبطالنه ظاهرا وباطنا ، وما قد يلحق

بذلك من إمث أو وجوب القضاء أو غري ذلك من األحكام .

أن يكون عمل املكلف من فعل أو ترك موافقا خلطاب الشرع من أمر أو �ي مع الثالث:

املخالفة لقصد الشارع ، فالعمل الصحيح يف ظاهره لكنه يتوسل به إىل غري ما يراد به قصده

شرعا ، سواء كان يعلم مبوافقة العمل خلطاب الشرع أو يظنه خمالفا للخطاب الشرعي ، كمن

وطىء زوجته ظانا أ�ا أجنبية أو شرب العصري ظانا أنه مخر ، أو ترك صالة يعتقد أ�ا باقية يف

ته ، وكان قد أوقعها وبرىء منها يف نفس األمر ، أو من غصب ماال ظانا أنه للمغصوب منه ذم

، فتبني أنه مال للغاصب ، وأمثال ذلك ، فالتحقيق ( أنه آمث من جهة حق اهللا ، غري آم من

جهة حق اآلدمي ) أي إن اإلمث األخروي تابع للقصد ، وهل هذا اإلمث مساو إلمث من خالف يف

ل والقصد أو دون ذلك ، فيه نظر فليتأمل . العم

أما احلدود واحلقوق الدنيوية فتابعة لصحة العمل يف الظاهر وموافقته للخطاب الشرعي من

عدمه ، وعليها جتري أحكام القضاء والضمان والصحة والبطالن يف العقود واملعامالت ، وال

الف يف القصد أشد يف البطالن عند اهللا ، إذ شك أن من كان يعلم باملوافقة يف العمل لكنه خم

أنه من باب الرياء على التفصيل الذي سبق يف مبحث آخر ، فعندما ( يكون الفعل أو الرتك

موافقا إال أنه عامل باملوافقة ومع ذلك فقصده املخالفة ومثاله أن يصلي رياء لينال دنيا ... وما

أشبه ذلك فهذا القسم أشد من الذي قبله ).

Page 71: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أن يكون عمل املكلف من فعل أو ترك خمالفا للخطاب الشرعي ، أما قصده فهو الرابع :

موافق للقصد الشرعي ، فإن كان مع علمه باملخالفة ويف باب العبادات فهو االبتداع يف الدين

ليس املذموم شرعا مثل أن ينشىء عبادة مل يرد با الشرع ظانا أ�ا طاعة مقصودة للشارع ، و

هذا مقام بسطها ، وإن كانت يف باب العادات واملعامالت فلها حاالن :

أن تكون خمالفتها للمشروع لورود النهي عنها فهي باطلة أو مكروهة ، الحال األول :

وإن قصد با أمرا مشروعا .

العادات لعدم ورودها يف الشرع أصال فال يضر ذلك ؛ إذ األصل يف الحال الثاني :

واملعامالت اإلباحة فما مل يرد النهي عنه فهو صحيح كيف وقد عضد بقصد مشروع ، وهو ما

يسمى باملصاحل املرسلة واملسكوت عنه.

أما إن كان ال يعلم باملخالفة ، وهو مما �ي عنه يف باب العادات أو املعامالت ، فاحلكم

لذلك عند النظر يف فروع هذه املسائلة ختتلف يتنازعه طرفان صحة القصد وخمالفة العمل ، و

أنظار أهل العلم يف الرتجيح بني تصحيح العمل مراعاة للقصد أو إبطاله مراعاة للمخالفة ،

فيكون هذا حينا ، وذلك حينا آخر ، مع عدم املؤاخذة األخروية إال إن كان من باب تقصريه

يف معرفة احلق والصواب عند قدرته على ذلك .

Page 72: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ريق معرفة مقاصد التشريعط

بناء على ما تقدم من حديث عن املقاصد يظهر لنا أمهية هذا املوضوع يف علوم الشريعة ،

وأنه يف املقام األعلى بالنسبة للفقيه واألصويل ، وأن احلاجة إىل معرفتها يف بعض اجلوانب تشتد

اصد من التشريع بأدلة حصل لكل مسلم ،( وأحسبك قد وثقت مما قررته لك بأن للشريعة مق

لك العلم با حتقق الغرض على وجه اإلمجال ، فتطلعت اآلن إىل معرفة الطرق اليت تستطيع أن

تبلغ با إىل إثبات أعيان املقاصد الشرعية يف خمتلف التشريعات )، فكيف يا ترى ميكننا حتديد

ىل ما ذكره الشاطيب رمحه اهللا يف اجلهات والطرق اليت با تعرف املقاصد الشرعية ، عند الرجوع إ

هذه املسألة جند أنه حصر ذلك يف أربع طرق هي :

( األمر االبتدائي التصرحيي )، فالفعل املأمور به إيقاعه مقصود للشارع ، كما أن أوال:

املنهي عنه تركه مقصود للشارع وال خيالف يف ذلك من أنكر التعليل والقياس ،وغال لتعطل الدين

بالكلية ، (وإمنا قيد باالبتدائي حترزا من األمر أو النهي الذي قصد به غريه ، كقوله تعاىل :

فإن النهي عن البيع ليس من �يا مبتدأ ، بل هو تأكيد لألمر فاسعوا إىل ذكر اهللا وذروا البيع

ا من املر أو النهي بالسعي ، فهو من النهي املقصود بالقصد الثاين ،... وإمنا قيد بالتصرحيي حترز

الضم ، الذي ليس مبصرح به ، كالنهي عن أضداد املأمور به الذي تضمنه املر ، واألمر الذي

تضمنه النهي عن الشيء ) .

Page 73: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

(فاألوامر والنواهي إذا جاءت ابتدائية تصرحيية دلت على مقصود الشارع ، فاألوامر تدل

هي تدل على القصد إىل منع حصول املنهيات )، وقد على القصد إىل حصول املأمورات ، والنوا

تقدم معنا احلديث عن وجوب فهم ألفاظ الوحي على مقتضى قواعد اللغة العربية ، وهذا الشر

جار يف األوامر عموما ، وأخذ الوجوب منها ، أو وجود صوارف من القرائن اللفظية أو العقلية

عن فهم مقاصد التشريع من األوامر الشرعية ال بد أو احلالية أو سواها ، ولذلك عند احلديث

من أخذ هذا املر يف احلسبان ومراعاته .

اعتبار علل األمر والنهي وطردها يف أشباهها ، فأينما وجدت العلة وجد مقتضى ثانيا :

األمر أوالنهي ، و( علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه ، ومن

تسبب أو عدمه ، وإن كانت غري معلومة فال بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد ال

كذا وكذا ،.... وقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بني العبادات والعادات ، وأنه غلب يف

باب العبادات جهة التعبد ، ويف باب العادات االلتفات إىل املعاين ، والعكس يف البابني قليل

وقد ميكن أن تراعى املعاين يف باب العبادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، ،...

وهي طريقة احلنفية ، والتعبدات يف باب العادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ،

وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما تقدم ).

Page 74: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

عن مقصود الشارع ، كما أن إمهاهلا ( فالعمل بالظواهر .... على تتبع وتغال بعيد

إسراف أيضا ...، فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى املفهوم من علة األمر والنهي ، فهو

جار على السنن القومي ، موافق لقصد الشارع يف ورده وصدره ).

دات والعبادات إذا عرفت املقاصد األصلية الكلية العامة لألحكام الشرعية يف العا ثالثا :

فكل ما ثبت هذه املقاصد األصلية وحفظها من أمور فرعية تبعية فهو مقصود للشارع ، سواء

كان منصوصا عليه وهو األكثر ، أو كان غري منصوص عليه وهو األقل ، فمثال يف باب حفظ

ل ، و( الدين بالعبادات املقصد األصلي فيه التوجه إىل اهللا ، وإفراده بالعبادة على كل حا

اخلضوع هللا سبحانه بإخالص التوجه إليه ، واالنتصاب على قدم الذلة والصغار بني يديه وتذكري

النفس بالذكر له ،... ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات يف اآلخرة أو ليكون من أولياء اهللا

سائر العبادات فيها تعاىل ،... وطلب الفوز باجلنة والنجاة من النار وكونه يف خفارة اهللا ،.... و

فوائد أخروية وهي العامة ، وفوائد دنيوية كلها تابعة للفائدة األصلية ...، فإن هذه التوابع مؤكدة

للمقصود األول وباعثة عليه ومقتضيه للدوام فيه سرا وجهرا ، خبالف ما إذا كان القصد إىل

ظ املال والدم أو لينال من أوساخ التابع ال يقتضي دوام املتبوع وال تأكيده ، كالتعبد بقصد حف

الناس أو من تعظيمهم ، كفعل املنافقني واملرائني ، فإن القصد إىل هذه األمور ليس مبؤكد وال

باعث على الدوام بل هو مقو للرتك ومكسل عن الفعل ،... فمثل هذا املقصد مضاد لقصد

عية ). الشارع ، إذا قصد العمل ألجله ، وإن كان مقتضاه حاصال بالتب

Page 75: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

مما يعرف به مقصد الشارع سكوت الشرع يف عصر الرسالة عن احلكم مبشروعية رابعا :

العمل مع قيام الداعي إىل عدم السكوت لو كان فعل هذا األمر مشروعا ،( والرتك الراتب سنة

مانع ، كما أن الفعل الراتب سنة خبالف ما كان تركه لعدم مقتضى ، أو فوات شر ، أو وجود

، وحدث بعده من املقتضيات والشرو وزوال املانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ ، كجمع

القرآن يف املصحف ،... وغري ذلك مما حيتاج إليه يف الدين ، حبيث ال تتم الواجبات أو

املستحبات الشرعية إال به ، وإمنا تركه صلى اهللا عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع ، فأما

ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله اخللفاء بعده

والصحابة ، فيجب القطع بأن فعله بدعة وضاللة ، وميتنع القياس يف مثله ، وإن جاز القياس يف

النوع األول ).

(وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن احلكم على ضربني :

أن يسكت عنه ؛ ألنه ال داعية له تقتضيه ، وال موجب يقدر ألجله ، كالنوازل أحدمها :

اليت حدثت بعد رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم فإ�ا مل تكن موجودة مث سكت عنها مع

وجودها ، وإمنا حدثت بعد ذلك ، فاحتاج أهل الشريعة إىل النظر فيها وإجرائها على ما تقرر

ه السلف الصاحل راجع إىل هذا القسم ، كجمع املصحف وتدوين العلم يف كلياتا ، وما احدث

،... وما أشبه ذلك مما مل جير له ذكر يف زمن رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ومل تكن من نوازل

Page 76: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

زمانه وال عرض للعمل با موجب يقتضيها ، فهذا القسم جارية فروعه على أصوله املقررة شرعا

بال إشكال.

أن يسكت عنه وموجبه املقتضى له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد لثاين :وا

على ما كان يف ذلك الزمان ، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن ال

يزداد فيه وال ينقص ؛ ألنه ملا كان هذا املعىن املوجب لشرع احلكم العملي موجودا مث مل يشرع

داللة عليه كان ذلك صرحيا يف أن الزائد ما كان هنالك بدعة زائدة وخمالفة ملا قصده احلكم

الشارع ؛ إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك ال زيادة عليه والنقصان منه ) .

ال يعترب سكوت الشارع عنه يف زمن الرسالة دليال على عدم مشروعيته ؛ إذ فاألمر األول :

يف زمن نزول الوحي ما يقتضي احلديث فيه ، وهو ما مسي بعد ذلك عند األصوليني مل يوجد

والفقهاء (( املصاحل املرسلة )) وقد مثل له الشاطيب كما تقدم جبمع املصحف وتدوين العلم ؛ إذ

مل يرد باملر يذلك وال النهي عنه نص شرعي فكان مسكوتا عنه ، ولكن احلاجة حلفظ القرآن

دعت ذلك بعد وفاة الرسول صلى اهللا عليه وسلم وهذه احلاجة مل تكون موجودة يف والعلم است

حياته عليه الصالة والسالم ، فلم يكن سكوته دليال على عدم مشروعية الفعل ، وهذا ال يكون

إال يف باب العاديات واملعامالت ؛ إذ أن ( هنالك أشياء مل يفعلها عليه السالم ؛ أل�ا مل تكن

يف عصره وال أسبابا قد تيأت ، وهي من مظاهر التطور يف العلم واحلضارة ، فال ميكن موجودة

أن تعترب خارجة عن السنة ، ولكن تعرض على قواعد الشريعة فما وافقتها قبل وما عارضتها

Page 77: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

رفض ، وذلك جمال االجتهاد الذي ال ينقطع أبدا ؛ ألنه تطبيق القواعد الشرعية على جزئيات

ليت ال تنتهي ). األحداث ا

فهو ما كان سكوت الشارع عنه دليال على عدم مشروعيته ؛ إذ لو كان أما األمر الثاين :

فعله مشروعا ألمر به ألن دواعي ومقتضيات الفعل كانت قائمة وموجودة يف زمن الرسالة لو

ة معينة بعدد معني كان فعله مشروعا ، كصيام يوم بعينه من شهر بعينه ، أو إلزام النفس بصال

من الركعات يف وقت حمدد ال يرتكه أبدا ، وهو مما مل يرد به النص الشرعي ، وهذا ال يكون إال

يف باب العبادات ؛ألن (تفريع الشريعة يف زمن الرسول صلى اهللا عليه وسلم معظمه يف أحكام

األعظم من التصنيف العبادات ، حىت أنك لتجد أبواب العبادات يف مصنفات السنة هي اجلزء

، خبالف أبواب املعامالت ، وذلك ألن العبادات مبنية على املقاصد قارة فال حرج يف دوامها

ولزومها لألمم والعصور ،... فإما املعامالت فبحاجة إىل اختالف تفاريعها باختالف األحوال

معظمه داخال يف والعصور ،.... ولذلك كان دخول القياس يف العبادات قليال نادرا ، وكان

املعامالت ....).

وهو فرق دقيق بني ما فعله وما ال يصح فعله مما سكت عنه الشارع ؛إذ أن البدع

مسكوت عن أعيا�ا يف الغالب أما جنسها فهو منهي عنه ، واملصاحل املرسلة مسكوت عن

ذا ، وقد غال بعض الناس أعيا�ا ، أما جنسها فمأمور به ، وال ميكن التفريق بينهما إال ب

فاعتربوا كل مسكوت عنه بدعة . وطردوا ذلك يف العبادات والعادات واملعامالت ، فزعموا أن

Page 78: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

دين اهللا حيرم االنتفاع مبا استجد من حمدثات املدنية واحلضارة ، وفر آخرون فزعموا أن كل

ين اهللا ما ليس منه ، مسكوت عنه مما يشرع فعله ، حيث مل ينه عنه الشارع ، فابتدعوا يف د

واحلق وس بني الطرفني ، ورحم اهللا الشاطيب الذي أبان وجه احلق يف هذه املسألة اهلامة الدقيقة

، واليت التبس أمرها على كثري من الناس ، فخلطوا كثريا وكانوا فيها بني غال وجاف ،( وبذلك

آراء العباد فلم يبق إال الوقوف كله يعلم من قصد الشارع إنه مل يكل شيئا من التعبدات إىل

عندما حده ).

( واخلالصة : أن البدعة الشرعية ال تشمل إال ما يقع يف أمر الدين مع قصد مضاهاة

الشريعة ، وعليه فالعاديات ليست من البدع وإن كانت واقعة على غري مثال سابق ، والبدعة

ا على الدين وما حتدثه من الفساد ، والغاية الشرعية ال تكون إال حمرمة أو مكروهة حبسب ضرره

من حترميها هو البعد عن الزيادة يف الدين ما ليس منه ، وذلك ما شنع اهللا به على الكافرين

). أم هلم شركاؤءاشرعوا هلم من الدين ما مل يأذن به اهللا ورؤسائهم حني قال :

ن جهات : قال الشيخ ابن عاشور :( إن مقصد الشارع يعرف م

جمرد املر والنهي االبتدائي التصرحيي ، فإن األمر كان أمرا القتضائه الفعل ، إحداها :

فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع ، وكذلك النهي يف اقتضاء الكف .

ع اعتبار علل األمر والنهي ، كالنكاح ملصلحة التناسل والبيع ملصلحة االنتفاع باملبي الثانية :

.

Page 79: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أن للشارع يف شرع األحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، فمنها منصوص عليه الثالثة :

، ومنها مشار إليه ومنها ما استقري من املنصوص ، فاستدلنا بذلك على أن كل ما مل ينص

عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع ).

المنهج الذي تعرف به المقاصد

يف مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل وجييد التثبت يف إثبات مقصد شرعي ، ( على الباحث

وإياه والتساهل والتسرع يف ذلك ؛ ألن تعيني مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عن أدلة

وأحكام كثرية يف لالستنبا ، ففي اخلطأ فيه خطر عظيم ، فعليه أن ال يتعني مقصد شرعي إال

ريعة يف النوع الذي يريد انتزاع املقصد الشرعي منه ، وبعد اقتفاء آثار بعد استقراء تصرفات الش

أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم وما حصل هلم من ممارسة قواعد الشرع ، فإن هو فعل ذلك

اكتسب قوة استنبا يفهم با مقصود الشارع ).

بعثة الرسل ، واستقراء وميكننا أن ( نستدل على أن للشريعة مقاصد بأدلة متنوعة ، مثل

موارد األحكام اليت جاء با القرآن والسنة ، والقواعد الكلية اليت حظيت بإمجاع علماء الشريعة

ألن هذه القواعد حاكمة على اجلزئيات اليت تدخل حتت لوائها ).

قاصد ولقد سلك الشاطيب رمحه اهللا مسلكا فريدا يف بيان وإثبات قصد الشارع إىل حفظ امل

الشرعية مبراتبها الثالث، وإثبات الطرق األربع السابقة ، وهي اليت با يعرف مقصد الشارع على

Page 80: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

التفصيل يف كل أمر ، فاعتمد يف إثبات ذلك على االستقراء املعنوي ألدلة الشريعة الكلية

واالستقراء يف اللغة : التتبع . –واجلزئية

طقة فهو : تصفح اجلزئيات ، واالستدالل مبا ثبت هلا من أما يف اصطالح األصوليون واملنا

فقال : ( ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر يف أدلتها الكلية واجلزئية –حكم على أمر كلي

، وما انطوت عليه من هذه األمور العامة على حد االستقراء املعنوي ، الذي ال يثبت بدليل

عض ، خمتلفة األغراض ، حبيث ينتظم من جمموعها أمر خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إىل ب

واحد جتتمع عليه تلك األدلة ، على حد ما ثبت عند العامة جود حامت وشجاعة علي رضي اهللا

عنه وما أشبه ذلك ، فلم يعتمد الناس يف إثبات قصد الشارع يف هذه القواعد على دليل

ملطلقات واملقيدات واجلزئيات اخلاصة خمصوص ، بل حصل هلم ذلك من الظواهر والعمومات وا

يف أعيان خمتلفة ووقائع خمتلفة يف كل باب من أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه حىت ألفوا أدلة

الشريعة كلها دائرة على احلفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إىل ذلك من قرائن

الذي ال حيتمل النقيض ...، من أحوال منقولة وغري منقولة ...، حىت حيصل باجلميع القطع

جهة إفادة العلم باملعىن ....، فإذا تقرر هذا فمن كان من محلة الشريعة الناظرين يف مقتضاها

واملتأملني ملعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع يف إثبات هذه القواعد الثالث ).

عة أصل هذه األصول العامة يف علم املقاصد وباعتماده رمحه اهللا على استقراء أحكام الشري

( فإذا كان فهم الشريعة خيلق امللكة القوية يف معرفة املصاحل واملفاسد املقصودة للشارع فإن ذلك

Page 81: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

ال يتم إال باستقراء تصرفات الشارع وباستقراء اجلزئيات ميكننا أن نصل إىل مقصد كلي للشارع

.

يكون استقراء لألحكام وإما أن يكون ألدلة األحكام ). واالستقراء نوعان ألنه إما أن

( واعلم أن مراتب الظنون يف فهم مقاصد الشريعة متفاوتة حبسب تفاوت االستقراء

املستند إىل مقدار ما بني يدي الناظر من األدلة وحبسب خفاء الداللة وقوتا ،... على ان

لفقيه أثرا بينا يف مقدار قوة ظنه وضعفه ). الحتمال قيام املعارضات لشواهد استقراء ا

وقد أشار الشاطيب إىل ذلك من بدايات كتابه فاعترب االستقراء أحد األدلة القطعية اليت ال

جيوز االستدالل يف األصول بغريها .

وبني يف موطن آخر أن ختلف بعض آحاد اجلزئيات عن حتقق هذه املقاصد فيها ال يقدح

قطعية األصل الكلي الذي هو االستقراء ،إذ أ�ا قطعا شرعت هلذه املقاصد ، ولكن قد يف

يتخلف ترتب املقصد ألمر راجع للمكلف وقصده ، أو لدخول هذه اجلزئية حتت أصل آخر مع

ظننا أ�ا مندرجة حتت غريه .

Page 82: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

الخاتمة

قد حققت بعض النجاح يف يف �اية هذا املختصر عن مقاصد التشريع ، أرجو أن أكون

حماولة املسامهة يف خدمة كتاب اهللا سبحانه وسنة رسوله صلى اهللا عليه وسلم ، من خالل تقدمي

شيء ولو يسري يف منهج التفقه يف دين اهللا على السبيل السوي والطريق األقوم ، بعيدا عن الغلو

بالنصوص مع عدم الغفلة عن واجلفا ، يف جادة التوس واالعتدال ، على ظهر حمجة االلتزام

حكمها ومقاصدها وعللها ، بني الغلو الظاهرية الذين نفوا املقاصد واحلكم والعلل والتعليل ،

فخالفوا بداهة العقول ، ونسبوا إىل شرع اهللا التخلف والقصور ، وجفاء املبالغني يف مراعاة

قطعيها أحيانا ، فنصبوا العقل األقيسة واستنبا العلل ، حىت وإن خالفت ظواهر النصوص ، بل

ند للوحي وخصم له أحيانا ، ال خادما ومستبصرا ومستضيئا بنوره ، وسائرا يف ركابه ، وكاشفا

عن كنوزه ، فالظاهرية عطلوا العقول ونسبوا للشرع القصور من حيث ال يعلمون ، وغالة أهل

رفني .الرأي قدسوا العقول وعطلوا النصوص ، واحلق وس بني ط

وقد رأينا من خالل هذا الكتيب أن املقاصد ثالث مراتب ضرورة وحاجية وحتسينية ، وأن

كال منها جيري يف العبادات والعادات واملعامالت ، وأن لكل مرتبة منها تكملة وتتمة ، وتبني

لنا كيف حافظ الشرع على هذه املقاصد من جانب الوجود وجانب العدم .

طرقنا ملنهج فهم الشريعة على مقتضى لغة العرب ، وماذا يع ذلك وفصلنا بعض كذلك ت

الشيء يف ضواب التكليف من انتقاء التكليف مبا ال يطاق ، ووروده بالشاق املعتاد ، ووجوب

Page 83: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

تبعية الفروع لألصول ، وعموم الشريعة مكانا وزمانا وأشخاصا ، وجريان التكليف على مقتضى

اخللق .سنن اهللا يف

مث كان احلديث عن مقاصد املكلفني وعالقتها مبقاصد التشريع ، وأتبعنا ذلك باحلديث

عن طرق معرفة مقاصد التشريع ، واملنهج الذي سلكه العلماء الستخراج املقاصد بذه الطرق

وهو االستقراء املعنوي التام القطعي .

ية يف فقه الرتجيح بني املصاحل حتصيال وكسبا ، على أن للمقاصد أعظم األثر وأبلغ األمه

والرتجيح بني املفاسد درءا وردا والرتجيح بني املصاحل واملفاسد اعتبارا أو إهدارا ، واملراد بالتعارض

بني املصاحل تعذر حتصيل املصلحتني وحتققهما معا ، بل البد إذا حصلنا أحدامها أن نضحي يف

ال فكاك من التخلي عن إحدى املصلحتني .سبيل ذلك باألخرى ، ف

واملراد بالتعارض بني املفاسد تعذر دفع املفسدتني مجيعا ، بل البد إذا دفعنا إحدامها من

الوقوع يف األخرى ، فال فكاك من الوقوع يف إحدى املفسدتني .

، حبيث يتعذر حتصيل واملراد بالتعارض بالتعارض بني املصاحل واملفاسد التالزم بينهما

املصلحة إال بالوقوع يف املفسدة ، وكذلك يتعذر دفع املفسدة إال بتفويت املصلحة .

ولدفع هذا التعارض الحاصل والخروج منه يجب مراعاة القواعد األصولبة التالية :

عا ، وجب إذا تعارضت مصلحتان وتعذر اجلمع بينهما وحتصيلهما مجي القاعدة األولى :

تفويت املصلحة الصغرى لتحصيل املصلحة الكربى ، كمن أصاب يده من مرض ، وقرر األطباء

Page 84: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أنه إذا مل تبرت يده تلفت نفسه ، فهنا تعارض مصلحة بقاء النفس ، وهي كربى ، مع مصلحة

إذا بقاء اليد ، وهي صغرى بالنسبة لبقاء النفس ، وال ميكن اجلمع بني املصلحتني ، مبعىن أنه

قررنا بقاء اليد فسنضحي بالنفس فال بد من تفويت مصلحة بقاء اليد .

إذا تعارض مفسدتان وتعذر درءمها مجيعا بل البد من الوقوع يف إحدامها القاعدة الثانية :

، فحينئذ جيب ارتكاب املفسدة الصغرى يف سبيل دفع ودرء املفسدة الكربى ، مثل إذا تعارضت

موال أو مفسدة ذهاب الدين واألنفس ، مثل ما لو قهر الكفار بعض مفسدة ذهاب األ

املسلمني ، وطلبوا منهم أمواهلم وإال قتلوهم وسبوا ذريتهم ، وكفروهم ، فيجب واحلالة هذه دفع

األموال الستنقاذ الدين واألنفس والنسل ، ومثل ذلك فعل اخلضر يف السفينة ، حني كان أمام

ذهابا بالكلية ، فخرقها لدفع مفسدة ذهابا . ارتكاب مفسدة خرقها أو

إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، حبيث ال ميكن دفع املفسدة إال بتفويت القاعدة الثالثة :

املصلحة ، وال ميكن جلب املصلحة إال بالوقوع يف املفسدة ، فأيهما يقدم جلب املصلحة

و دفع املفسدة وتفويت املصلحة والتضحية با يف والصرب على الوقوع يف املفسدة يف سبيل اهللا ،أ

سبيل ذلك ،ال خيلو األمر من إحدى ثالث حاالت :

أن تكون املفسدة أكرب من املصلحة ،فيرتجح درء املفسدة على جلب املصلحة ، األولى :

أي أن ندفع املفسدة ، ونضحي يف سبيل ذلك بتفويت املصلحة ، مثل تعارض مصلحة حفظ

ل ومفسدة ذهاب الدين والنفوس . املا

Page 85: ﺮﺼﺘﺨﻤﻟا ﻲﻓ ﺰﻴﺟﻮﻟا ﻊﻳﺮﺸﺘﻟا ﺪﺻﺎﻘﻣ · ﻢﻴﻜﺣ ﻪﻟإ ﻦﻣ ﺪﻤﳊا ﻪﻟو ، ﻢﻴﺣر بر ﻦﻣ ﻪﻧﺎﺤﺒﺴﻓ

أن تتساوى املصلحة واملفسدة فيقدم أيضا درء ودفع املفسدة على جلب املصاحل الثانية :

، مثل تعارض مصلحة الصدق مع مفسدة الشقاق بني املتخاصمني ، ولذا أبيح الكذب عند

اإلصالح بني الناس .

املفسدة ، فيقدم جلبها وحتصيلها على دفع ودرء أن تكون املصلحة أكرب من الثالثة :

املفسدة ، كتعارض مصلحة حفظ الدين باجلهاد مع مفسدة ذهاب النفوس واألموال ، فحفظ

الدين أكرب املصاحل ؛ ولذا احتملت املفاسد األخرى يف سبيل حتقيق هذه املصلحة الكربى .

هو معيار حىت تعرف منزلة كل منها املفاسدأن املعيار الذي به توزن املصاحل و بقي القول

املقاصد ، فما كان يف مرتبة الضروري يقدم على ما كان يف مرتبة احلاجي ، وما كان يف مرتبة

احلاجي يقدم على ما كان يف مرتبة التحسي ، وما كان مصلحة أصلية يقدم على ما كان تتمة

قدم ما كان يف باب الدين على ما سواه ، مث له وتكملة ، وكذلك يف كل مرتبة من هذه املراتب ي

النفس مث العقل مث النسل مث املال ، وهكذا نرى أن فقه املصاحل واملفاسد القائم على الرتجيح

واملوازنات ، الميكن تطبيقه إال من خالل الفقه يف مقاصد الشريعة ، ولعل هذا مؤشر على أمهية

ي له ، ولذلك حديث آخر إن شاء اهللا تعاىل وآخر البحث يف هذا األمر وحماولة بيانه والتصد

دعوانا أن احلمد هللا رب العاملني .