المحـور

125

■ أستاذ الفكر السياسي، جامعة طنطا ـ مصر.

1 ـ ا������E� :1ء n�#� أم ا��NXر �Sدم؟

ربما يكــون من الخطأ عــد العولمة وليــدة نهاية الحرب الباردة، وسقوط حائط برلين في نوفمبر 1989، وإن جاءت هذه النهاية وهذا السقوط بمثابة اإلعالن العالمي الرسمي لتدشين رؤية جديدة للعالم، وترسيم مالمح عالم تبدو قسماته أخاذة، تشي بالطمأنينة واالستقرار، غير أن مجريــات األحداث والوقائع اليومية س كوابيس مقيتة، تقض مضاجع البشر تطيح بالرؤية أو الحلم لتكر

في أنحاء العالم المختلفة.إن الرؤية المثبتــة تاريخيا لــدى الغرب تختلف عمــا يراه بقية العالم بالنسبة لنظام عالمي جديد، أو ما يمكن تسميته «عولمة». إن هذه العولمة رتب لها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يعبر عنه «ونستون تشرشل» بقوله: «يجب تأمين حكومة عالمية تعد تعبيرا عن األمم التي ال تطمح لنفسها في شيء أكثر مما تملكه، فلو امتلكت شعوب جائعة هــذه الحكومة لصــار الخطر قائما، بينمــا ليس لدينا (الغرب) دوافع المتالك أكثر مما لدينا... ويجب الحفاظ على السالم

#��� �AESه ■

ومصائر والشعبويات العولمة القانون وحكم الديمقراطية

الغرب في

126

المحور

من خالل شعوب تحيا بطريقتها دون أطماع فيما لدى اآلخرين... إن قوتنا تجعلنا فوق الجميع، إننا أشبه ما نكون بأناس أغنياء يحيون آمنين في مساكنهم 1.

لكن عبارة «تشرشل» ال يمكنها أن تمحو من الذاكرة أن الغرب ـ المتقدم منذ أوج عصر الثورة الصناعية في القرن التاسع عشــر ـ لم يتوقف عن نهب ثروات وموارد بالد العالم األخرى عبر الغــزو واالستعمار، ومن هنا فإن ثمة طرائق كثيرة لقول ما ال يفعل، طالما أن الهدف في نهاية األمر زيادة الثروة،

والسيطرة على اآلخر في الوقت نفسه.وقد ورد فــي معجــم «ويبستــر» Webster أن العولمة هــي إضفاء طابع العالمية على الشيء، وبتخصيص: جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا 2. وقد قرر مجمع اللغــة العربية استعمــال مصطلــح العولمة بمعنى «جعل الشــيء عالميا» 3. بينما يبقى المصطلح متداوال لدى العامة بمعنى جعل العالم واحدا؛ أي يعمل في إطار حضارة واحدة ومن ثم فإننا ننعم بمواطنة وحقوق عالمية؛ لكن قائمة التوترات االجتماعية المتزايدة تنفي هــذه المواطنة، وتسخر من تلك الحقوق؛ إذ إن العداء لألجانب في الدول الصناعية الكبرى ـ وما يترتب عليه من أعمال عنف تصــل إلى حد القتــل، والتعامل مع األقليــات والفئات المهمشــة بطريقة سافــرة ـ تؤجــج نزعات عرقيــة، وبالمــوازاة المزيد من التظاهرات، واالضرابات، واالحتجاجات الشــعبية، وانتشار الجريمة والعنف

والمخدرات... إلخ.وفي المقابل قد تزيد األسواق العالمية ـ في ظل حرية التجارة والشركات متعددة الجنسيات أو عابرة القوميات ـ من فرص التحقق العولمي؛ لكن توزيع األرباح والثروات الناتجة عن تلك األســواق ـ دون تدخل الدولة في التنظيم والرقابة ـ يجعل الفقراء يزدادون فقرا، بينما تزداد ثروات أقلية من األغنياء، ومتــى غابت «عدالــة توزيــع المــوارد أو الخيــرات» ضعفت سبــل التكامل

االجتماعي، وتصبح المواطنة العالمية شعارا أجوف.

Noam Chomsky, World Orders: Old and New, Auc in Cairo Press, 1994, p. 5. 1 ـ Websters New Collegiat Dictionary, 1991, p. 521. 2 ـ

محمود فهمي حجازي، مجلة الهالل، مارس 2001، القاهرة، ص 87. 3 ـ

127

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

ري العولمة أنها جاءت نتاجا ألمرين هما: وقد يتراءى لبعض منظModernity :1 ـ التحديث

Inter – Dependence :2 ـ االعتماد المتبادل

ولترسيخ هذين األمرين، جاء االعتماد على التقدم الهائل في المعلوماتية ووسائل التقنية الحديثة مع تفعيل الروابط بمستوياتها المختلفة على الساحة العالمية المعاصرة. وإذا كــان التحديث يبدو مقترنــا بالتحول إلى مجتمع صناعي في المقام األول؛ فإن االعتمــاد المتبادل يتجاوز حدود الصناعي أو االقتصادي ليشمل ما هو سياسي وثقافي واجتماعي وتربوي، ومن ثم يمكن أن

العالمي» الوعــي يصل إلى ما يسمــى «توحيد Planetization، وفقا لتعبير «تيار دو شاردان» في

كتابه «مستقبل اإلنسان» عام 1964 4، ويجيء هذا التوحيــد في إطــار تفعيــل تكنولوجيــا األفكار البشرية لتشكل ما يسمى «العقل العالمي»، وقد تبدو هــذه الرؤية المبكــرة نبوءة بمــا أحدثته «شبكة اإلنترنــت»، وما يرتبط بهــا من وسائل وإمكانيات من إعادة تشكيل لطريقة تفكيرنا على نحو كلي وشامل، ولعلهــا صياغة جديدة لمقولة ديكارت: أنا أفكــر؛ إذن أنا موجود؛ لكن أي نوع

من التفكير، وأي صورة من الوجود في السياق العولمي؟إنه التفكيــر القائم على حصــر المعرفة في نطــاق الممارسة الجماعية لتبادل المعلومات عبر اإلنترنت؛ لكن إتاحة المعلومات على هذا النحو تعكس تقدما مؤكدا، وفي الوقت نفسه تعد تدميرا لكل قدراتنا الذهنية الخالقة في ــي وعينا اإلنساني، استخالص المعلومــات، عبر وسائل بحثيــة تجريبية، تنم

وتعكس قدراتنا على البحث والتحليل والتفكير الناقد.وفي هذه الحالة، فإن وجودنا المرتبط بقدرتنا على التفكير يظل مرهونا

Pierre Teilhard de Chardin, The Future of Man in Chap. 7 “The Planetisation Man”. 4 ـ

«�%� ورد =� ��M) «و#أن ا�����1 �� إ�9mء Z�� 1ا������ ?��� F�n :��Ac%ا���ء، و� B:� k' ق ا���ء أو�kX ?�M� ر�S �Sو .������ا��}1 ا�����1 ا�%���ل ZE��� 1ا����� ��kA�«F�n ا���ء ������».

128

المحور

بلمسات أصابعنــا على هواتفنا الذكيــة، وعند الدخول إلــى شبكات اإلنترنت للوصول إلى أســرع الطرائــق للمعرفة، وهنــا يتوقف الحــوار اإلنساني حول المعرفة، وتبادل األفكار واآلراء، وتنامي الخبرات اإلنسانية، مما يعكس تواصال إنسانيا حقيقيا؛ بينما يكشــف وجــه العولمة التكنولوجــي ـ الماثل في توقف الحوار اإلنساني ـ عن عزلة إنسانية مثيرة للشفقة واأللم، فالعزلة مع تجوال التصفح في شبكة اإلنترنت ال تتيح لنا معلومات فحسب؛ بل تجعلنا معزولين معا

اجتماعيا في عالم واحد، يعبر عنه تواصل افتراضي يصطنع عالما موهوما.إننا بصدد ترويج لبنية عالم جديد، من خالل إعادة تشكيل العالم وفق مصالح معينة، من خــالل عمليتي تحليل وتركيب للكيانــات العالمية، وإعادة صياغتها على مستويات محددة، تتوافق مع مخططات واستراتيجيات األكبر قوة واألعظــم هيمنة. ويمكــن مالحظة أن مخططــات العولمة تستهــدف إنجازا

لعمليات واجبة التنفيذ الستمرارية النهج العولمي:1 ـ عملية تحرير التجـــارة الدولية، وهي عمليــة إلحــداث تكامل بين االقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية واحدة، تتيح الفرصة للممارسة

االقتصادية لكل القوى في ظل مبدأ التنافس الحر.وتكشــف النتائج المترتبة واألرقــام المعروفة عن عمليــة عكسية؛ إذ إن 20 بالمائة من دول العالم تزداد ثراء، وتهمين على 84,2 بالمائة من التجارة الدولية. وهذه اإلحصائيات تعد دليال على فشل المساعدات من أجل التنمية،

ومن ثم فقدان العدل واإلنصاف 5.وما نراه اليوم ـ في بدايات األلفية الثالثــة ـ أن األسهم تزداد أسعارها ارتفاعا، ومعها تزداد أرباح المؤسسات االقتصادية، وفي المقابل تنخفض أجور العاملين، ورواتــب الموظفين في تلــك المؤسسات، غيــر أن مؤيدي العولمة عون أنه من الطبيعي حدوث تلك األمور؛ فهي ـ حينما يتعرضون لهذا األمر ـ يدأشبه بالحوادث الطبيعية التــي ال رد لقضائها، وإنها نتيجــة طبيعية للتطور

االقتصادي والتكنولوجي المتسارع في حركته ونتائجه.

ينظر في تقرير األمم المتحدة عن التنمية الصادر في عام 1994. 5 ـ

129

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

2 ـ تعاظم تأثير الثورة المعرفية في إنجـــاز مخططات العولمة: «فلم يحدث فــي التاريخ أبدا أن سمــع وعرف عدد هائل من سكــان المعمورة عما يجري في باقي أنحاء العالم من أحداث كما هو اليوم، وألول مرة في التاريخ صارت البشــرية وحدة واحدة في تخيلها للوجود» 6. ومــع ذلك فإن األحداث الدامية ومشاهد القتل واإلبادة والتشــريد ـ التي تبثها الفضائيات، وتنشرها شبكة اإلنترنت ـ لم تجعل الشــعور اإلنساني باآلخر حاضرا، ولو على مستوى تقديم الدعــم والمساعدة أو حتى التنديد بأهــوال ما يحدث ! وإن كان األمر ـ وألسباب سياسيــة أو استراتيجية ـ يتم فيه اتخاذ مواقــف محسوبة في ظل

سياسة الكيل بمكيالين. لــم توجد العولمة عالما يشعر كل بلد فيه بالبالد األخرى تحت مظلة عالم ست أنانية واحد يسوده التعاون والسالم؛ بــل كرمفرطة، وعنصرية بغيضة، وال مباالة متكاثرة على

المستوى الفردي والجماعي.3 ـ االســـتثمار الثقافـــي فـــي المشـــاعر واألحاســـيس: عبر الصور التي تبثها الفضائيات يتشكل الوعـي بعالم واحد مترع باألحالم واألماني، وهنا تبدو «األمركة» الصــورة األكثر حضورا في الذاكرة، أو بمعنى آخر، يراد لها أن تكون الضيف

المقيم في الذاكرة، فعلى سبيل المثال هذا الكم المهــول من وسائل التسلية األمريكية الحافلة بالتنوع، والمستجيبة لكل األذواق والخيارات وطرائق التعبير

الفردية المختلفة، إنها ما يجذب األفراد في كل أنحاء العالم.ومن أجل الوصول إلى عقل الفرد أو التالعب بالعقول عن طريق اإلعالم، وعمل الدعاية واإلعالن؛ فإن إعالنات شركــة كوكا كوال تطرح نفسها بوسائل مبتكرة ومدهشــة في اآلن نفسه، فتختار نجوم الفن والرياضة في إعالناتها، وهــم يحظون بالشــعبية الالزمــة لتقليدهــم فيمــا يفعلونه، خاصــة أولئك

هانس بيتر مارتين، هارالد شومان، فخ العولمة، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: 6 ـ أ. د. رمزي زكي. عالم المعرفة (238)، 1998، ص 44.

�) #��ث =� ا�%�ر#" أ��ا أن ��? و��ف ��د ��F2 �� �&�ن ا�����رة �S�� �= ي�M# ���أ��Xء ا����) �� أ�اث �� ا���م، وألول ��ة ��L=� ا�%�ر#" *�رت ا� ��#1 و�ة وا�ة =� '�n��� �N��cد.

130

المحور

المشــاهدين والمشــجعين، فيكتب على الحافالت التي يستقلهــا الرياضيون ما يدعو المشــجعين لتناول الكوكا كــوال بطريقة مؤثرة، تبــدي تعاطفا مع المجهود الذي يبذلون ودورهم في التشجيع، وتستثمر هذا التعاطف للدعاية للكوكا كوال فــي اآلن نفسه، فتعلق الفتة كتب عليها إن عمل التشــجيع يجلب

العطش» Cheering is Thirsity Work، والحل يكمن في الكوكا كوال !.ومن حقوق البــث للمباريات الرياضيــة إلى أستديــوات التحليل الرياضي ـ خاصة كرة القدم ـ يتم خلق مادة للحوار والنقاش، وبصورة جذابة في تعبيراتها الحماسية وتعليقاتها المدوية والمثيرة للجدل، مما يخلق بديال حضاريا لممارسة الرياضة وفقا لقواعد السلوك اإلنساني تحــت مسمى الروح الرياضية، لتتحول إلى عرض مسرحي يروم كثرة المشــاهدة، وتتخلله إعالنــات تخاطب الجميع، وتدغدغ مشــاعرهم باتجاه قيم استهالكية ودعائية فجة وسلبيــة، ومن ثم فإن مؤشرات الطلــب على هذا الكم مــن السلع المعلــن عنها، والدعايــة لها على المستوى العالمــي تفصح عن نزعة عولمية استهالكيــة، تجمع العالم حول سلع

استهالكية معينة، ينساق الجميع إليها دون تفكير، وتحت تأثير مخدر إعالني.أليســت العولمة أن يشــرب الجميــع الكوكا كــوال، ويتناولــوا الوجبات السريعة، ويتهافتوا حول بقية السلع األخرى من أجــل الحصول عليها لتوكيد

عالميتنا؛ لكوننا صرنا عالما واحدا استهالكيا؟إننا نعيش عصر تحوالت عولمية صاخبة وصارخة، قد يراها البعض تحوال ثوريا إيجابيا، يقيم بنية عالمية جديدة أكثر مساواة وعدال بين البشــر؛ لكن المؤشــرات والنتائج تنــذر أكثرية بلــدان العالم بقدوم التفــكك ال التوحد، واالنهيار ال البنــاء، وأخيرا السقوط في هوة الجهل بمــآل هذه التحوالت في

المستقبل القريب.

2 ـ ا��� �#�ت: إo&���1 �����1 أم |���ة ��1�m؟

في ظل تغيرات قومية / عالمية مفاجئــة وصادمة معا بدا على السطح في الغــرب ما يسمى الخطــاب «الشــعبوي»، وهــو خطــاب صــار مندرجا في الديمقراطية الغربية رغما عنها، دون أن يحــدد شكال نظريا مؤسساتيا يقوم

131

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

على أفكار وتصورات عقالنية، كما عرفت النظرية الديمقراطية، عبر تاريخها الممتد من الديمقراطية اآلثينية (المباشرة) إلى الديمقراطية النيابية الحديثة

(غير المباشرة).وتطرح الشــعبوية Populism نفسها بوصفها سيــادة األغلبية من الجماهير الحاشدة تحت زعامة (كاريزمية)، في مقابل النخبة التي تمثل في الوقت نفسه ـ من وجهة نظر شعبوية ـ أقلية عائقة لوصول الجماهير أو الشعب إلى أهدافه الوطنية العظمى، غير أن المصطلــح يحمل وجهين أو معنييــن عند التعريف: األول: يطلق على الحركات الشعبوية الزراعية Agrarian Populism وهي مجموعة

االقتصادية / والمذاهب الرايكالية، الحركات من peasant االجتماعية المهتمــة بمصالح الفالحيــنوصغار المزارعين، .... بينمــا الثاني: يطلق على حركات سياسية، أو شعبوية سياسية تمثل عددا من التوجهات والفاعليــات والوسائل التــي تقوم على االحتكام إلى الشــعب. وأقدم تلك الحركات كانت في سبعينيات القرن التاسع عشــر فــي روسيا، أو «Narodniki» الشــعب» «إرادة جماعــة ما يسمى (باللغة الروسية)، وقد رأت تلك الجماعة أن القيم الحقيقية والمجتمع المثالي إنما يوجد في القرية.

وقد كان الحزب الشعبوي Populist في أمريكا ينادي في تسعينيات القرن التاسع عشر بالراديكالية الزراعية، أو االحتجاج على التحكم بأسعار منتجات المزارع من قبل أسواق بعيدة؛ عدت فيها الرأسمالية قوة معادية، وال تثق الشــعبوية في

الهيئة التشريعية أو (البرلمان)، وتميل إلى اإليمان بالديمقراطية المباشرة 7.ولعل السؤال الذي تطرحه الشــعبوية بصدد النخبة يحتــاج إلى التأمل والنقد: هل يجوز النظر إلى النخبة من الوجهة العدائية للشــعب؟ أو بتعبير أكثر دقة: هل ثمة إتساق في عبــارة (النخبة في مقابل األغلبية)، وهنا تتبدى The Blackwell Encyclopedia of Political Thought Ed. by David Miller, Blackwell Publishing 7 ـ USA, 2004 pp. 393-94.

أ���� ا�����1 أن ?��Mب ا���#ا�&��L �Lال، و#%�Eو��ا �ت ا���1�#، nا��و#%�N=%�ا �ل �:�1 Fnى �� أ�Iا���? األ ��L�%� �N��� ل�Aا�� �X�* �EX�&� ؛�E%���������� وا�ا ا�%Nال��L؟

132

المحور

الصورة الغارقة في سطحيتها: األشرار أو النخبة في مقابل إرادة شعبوية تمثل األخيار ! ولكن من ناحية أخرى، ومن وجهة نظر نخبوية، نكون بإزاء إشكالية سياسية تقسم األمة أو الشــعب إلى قسمين: األول: النخبة المفكرة، الثاني: الشــعب وزعيمه المفكر األوحد صاحب التأثير الساحر، وبديال عن االنضواء تحت لواء تعددية تسمح بالتنوع واالختالف، تعاني المجتمعات في الغرب اآلن

من ظاهرة الشعبوية بتقسيمها الحاد للشعب إلى قسمين.وقد يتصور بعــض الباحثين أن الشــعبوية تطرح نفسهــا كرؤية بديلة أو مضادة، تعبر عن خطــاب سياسي جماهيري واع بمطالبــة اآلنية، دون النظر لمضمون أو منطق عقالني، ومن هنا فإن الشــعبوية تناقض الصورة المعتادة لأليديولوجيــا، بوصفها مجموعة المعتقدات، لكن هــي طريقة نافذة لتحقيق مطالب ملحة، وعلى نحو حاسم. وقد تبدو حركات اليمين المتطرف أو القومي في أوروبا صورة للشــعبوية المعاصرة، وفي الوقت نفسه تمثل تهديدا مباشرا

لألسس الديمقراطية الغربية.وعندما نتحدث عن الشــعبوية ـ بخطابها المثير للحمــاس واالنفعاالت المصاحبــة، والناجمة عن إثــارة مشــاعر الجماهير، واستقطــاب تأييدها القوي ـ فإننا نضع في الحسبان وجود قيادة مؤثرة، أو كاريزما زعامة، تقود الحراك الشــعبوي في اتجــاه أهداف ومطالــب معينة، كما يبــدو جليا في األحاديــث المؤثــرة لتلــك القيــادات عــن خطــورة تدفــق المهاجرين أو استمراريتهم بداخل المجتمعات الغربية، وما يرتبط بهم من أعمال عنف أو إرهاب، دون النظر إلى منطق المواطنة أو التعايش السلمي في ظل االعتراف المتبادل أو الدمج المجتمعي وفقا لشروط سياسية وقانونية. وقد ينظر إلى الشــعبوية بوصفها محصلة للشــعور القومــي المزداد، فتبــدو وثيقة الصلة باألهداف والمطالب القومية المعبرة عن إرادة الشعب، ومن الجدير بالذكر ارتباط القومية بالشــعبوية في مخططات أو خطابــات األحزاب اليمينية في أوروبا، غير أن النظرة المتأملة والفاحصة تكشف عن اختالف جوهري بين القومية والشعبوية؛ إذ تقوم الشــعبوية على التفرقة بين النخبة أو (القمة) والجماهير أو (القاعدة)؛ بينما تؤكد القومية علــى التجانس واالنصهار في

133

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

بوتقة واحدة تحمل شعار االنتمــاء إلى جماعة واحدة، ومن ثم فإنه ال يوجد إقصاء أو تفرقة بداخل الجماعة ذاتها.

ومــن المهم اإلشارة إلى أن الشــعبوية ال تعــد حكرا علــى الحركات أو األحزاب اليمينية في أوروبا، بل تم استعمال أساليبها عند اليسار مع اختالف طبيعة األهداف والمطالب، ولعل الخطاب الشــعبوي المتأجج لدى الحركات اليمينية ضد المهاجرين والمسلمين، والمنــاداة باستبعادهم من المجتمعات األوروبية، يقابلــه نظام شعبوي استخدمــه اليسار، ولكن ألغــراض وأهداف مختلفة؛ فالحركات الشعبوية في اليونان وإسبانيا وبريطانيا، وفي أمريكا ذاتها

تحدثــت مــن منطلقات تقــوم علــى التحسينات االجتماعية، وتصورات أكثر عدالة.

إننا بصدد كلمة (الشعبوية) التي تحتمل جملة والمتضاربة؛ المتنوعة والتصورات التعريفات من لكن ال يمكن إيجاد مفهوم لها، فهي تبدو ملتبسة ومتداخلة مع مفاهيم أخــرى كالقومية والتعصب، والنفور مــن األجانب، والحشــد الجماهيري في صورته المبسطة غيــر األيديولوجيــة. إنها تبدو خطابا يحمــل داللة سياسية ينطلــق من القاعدة الشعبية، ويتوجه ضد النظام السياسي ممثال في المسؤوليــن الحكومييــن، وضد النخبــة أيا كان

نوعها، إنه يبحث عــن سياسيين يتمتعون بكاريزما قــادرة على تحصل الدعم الشــعبي الفوري، من خالل خطابات حماسية تصب لعناتهــا، وتكيل اتهامات

للمؤسسات السياسية التقليدية المتعارف عليها في النظم الديمقراطية.وحاليا في أوروبا تمثل الشــعبوية حركات اليميــن، واليمين المتطرف خصوصا، وفي المقابل كلمة «شعبي»، التــي تنتمي إلى عالم اليسار؛ لكن عندما نطالــع خطاب اليســار المتطرف فــي أوروبا ـ حــزب «بوديموس» اإلسباني أنموذجا ـ تتبدى الشعبوية بصورة واضحة، ال يفصلها عن شعبوية

�X ���E%��ث �� �N��kc� 1 ـ#� ا���ا��;�� �����س ،1 �A��9الت ا��Xواالوا�1�n�E �� إ��رة ����� ���، وا�%:�kب ��Mا� ?eX �EXi= ا�:�ي ـ ����#�'=� ا��� �ن و�nد ��Sدة ��ة، أو �Lر#��j ز���1، ��ٴ':�د ا���اك ا��� �ي.

134

المحور

اليمين المتطرف سوى عــدم استخدام العنصرية العدائيــة كأحد األشكال السياسية، التي تزداد حضورا على الساحة األوروبية، بكل حماسها الدؤوب في طرح قضاياها وطموحاتها الوطنية، وتكتسب دعما سياسيا في المجتمعات األوروبية في ظل تدفق الهجرات إليها، وما يحدثه األجانب من مشــكالت اقتصادية واجتماعية تهدد هذه المجتمعــات ـ من وجهة شعبوية ـ في أمنها

االقتصادي واستقرارها االجتماعي.ـ «دونالد ترامب» ومن أوروبا إلى أمريكا، حيث كشفت الحملة االنتخابية لصورة شعبوية واضحــة المعالم، وإن تضمنت في محتواهــا األصلي معتقدات اليمين المتشدد. ويمكن القول: إن عدوى الشــعبوية انتقلت إلى األحزاب في قارات العالم المختلفة، فلم تعد حكرا على الغرب؛ فقد ظهرت تلك الحركات واألحزاب فــي أفريقيــا وأمريكــا الالتينية. وال تكاد تكشــف عــن أهدافها الحقيقية، غيــر أنها تتبنى التعبير عن إرادة الشــعب، ومــن ثم فإن من حق الشــعب أن يدير مصالحه وفقا إلرادة الجموع أو الجماهير دون التعويل على المؤسسات السياسية التي أنتجتها النظــم الديمقراطية، ودون االلتفات إلى وجهات النظر أو األفكــار النخبويــة، المتهمة بتضليل الشــعب تحت دعاوى الحديث باسم الشــعب، وال تعتد الشــعبوية بطرح برامــج سياسية عقالنية، ويمكن مناقشتها بمنطق سياسي؛، فهي تعتمد ـ بصورة بالغية وحماسية ـ على التالعب بعقول الجماهير، ودغدغة مشــاعرها تحت مسميات الوطنية، وإرادة الشــعب، ومصالح الطبقات الفقيرة، والبسطاء من الناس... إلخ، وهي تنذر بالمخاوف واالنهيار من جراء تعقد العملية السياسية بصورتها الديمقراطية، ومن ثم تطــرح حلوال سهلــة ـ تصل إلــى حــد السذاجة السياسيــة ـ لحل المشكالت، مدعومة باتهامات صارخة ألعداء الوطن من المفكرين والمثقفين أو النخب، الذين يثرثرون بأفكار ومفاهيم سياسية جلبت مشــكالت، سرعان ما تفاقمت وأتاحت الفرصة لمؤامرات تهدد أمــن واستقرار الوطن من وجهة نظر شعبوية، هذا الوطن المفروض حمايته من وجودها كنخبة، ومن ثم فإن الهجوم على النخبة يوازيه حشــد جماهيري مؤيد لتلــك المزاعم، حول دور

النخبة في إضعاف الوطن في وقت يتعرض فيه الوطن لخطر داهم.

135

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

وترفع «الشــعبوية» شعار مسؤوليتها التي تمارس لونا من ألوان التقسيم المجتمعي في حقيقة األمر، حين تشــير إلى النخبة بوصفهم أعداء الشــعب؛ بينما تحمل الشعبوية لواء االنتصار للوطن من خالل العمل على وحدة الشعب وتماسكه، مع توظيف كل المؤثرات االجتماعية لخدمــة نجاحاتها السياسية، خاصة الدين واأليديولوجيا، مبشــرة بالنصر المبين علــى األعداء، وتحقيق التقدم والعدل االجتماعي كما تبدو الشــعبويات خليطــا متنافرا من توجهات سياسية متباينة األهداف والمصالح؛ إذ يذهب بعض الباحثين إلى النظر في الماوية «ماوتسى تونج» ـ بشعبويتها الريفية ـ والنارودنكية الروسية بخطابها الموجه إلى الفالحيــن بوصفيهما حركتين شعبويتين، وفــي اآلن نفسه يمكن

االدعاء لدى باحثين آخرين أن الفاشية اإليطالية ـ في خطها الجماهيري الجــارف لكل ما عداه ـ ذات نزعة شعبوية واضحــة المعالم، وصوال إلى شعبويات االستقــالل وزعاماتهــا الكاريزمية بعد الحرب العالمية الثانيــة: (الناصرية في العالم العربــي أنموذجا) وهنــاك من ربــط بينها وبين

«اإلسالمية»، كما فعل فرانسوا بورغا» 8.وفي أوروبا يمثل ظهور «فاكالف هافيل» رئيسا لجمهورية التشــيك ومشــينيك في بولندا انتصارا للشــعبويات علــى أرض الواقــع، دون أن ترتبــط

بأيديولوجيا محددة المالمح كالماركسية أو الفاشية، كما تعد الشعبوية مناهضة للمد العولمي المتجسد في الليبرالية الجديدة أو الرأسمالية المهيمنة المتطلعة للسيطرة واالحتكار، وهي شعبوية ليس لها قوام ثابت؛ بل تأخذ أشكاال رخوة أو مائعة أو سائلة بتعبير «رافاييل لوجيه»، غير أن الشعبوية ـ بصورتها تلك ـ آخذة فــي احتيــاج أوروبا تحديــدا، حتــى البــالد االسكندنافيــة التي ترفــع شعار

الديمقراطية االشتراكية ـ أو دولة الرعاية ـ مهددة بعدوى الشعبوية !.

ينظر: برتران بادي، دومينيك فيدال، عودة الشعبويات، أوضاع العالم في 2019م، ترجمة: نصير 8 ـ مروة، مؤسسة الفكر العربي، بيروت.

'�=? «ا��� ���o «1#ر �X�� ا�%� '��رس �N%و�� ���ٴ ���%Mأ��ان ا�%:��) ا�� �� ��:�:1 األ��، �= (N9*�� 1 cEا� Zإ� ���' F��' ��E�� أ��اء ا���5؛ا��� �#1 ��اء اال�A%Xر Z�� Fالل ا���I �� �����.B&���'ة ا���5 و�و

136

المحور

ف الشعبوية بوصفها عالقة بين شعب وزعيم يتمتع بكاريزما؛ وعندما تعرفإن لكل عالقة شعبوية سمتهــا الخاصة، والذي ال يقاس عليه بالنسبة لسائر العالقات األخرى بيــن بقية الشــعوب وزعمائهــا الذين يــدورون في الفلك الشــعبوي. ومن هنا يبقى المفهوم تائها، وسط تعدديــة ال تحيلنا إلى وحدة التنوع؛ لكن إلى مأزق التقسيم. ويــزداد المأزق اتساعا وعمقا في ظل تنامي الشــعبوية، وأطروحاتها المقلقة سياسيا واجتماعيا ـ أو أطروحة الشعب ضد

النخبة ـ من اآلن فصاعدا على مستوى الحراك السياسي الشعبوي.

3 ـ ا��#�:�ا��1: أي �2�A� ���:1؟

هل نحيا مع بدايات األلفية الثالثة عصر النهايات؟لعل اإلشارات الفكرية المكثفة ـ التــي وردت إلينا عبر مؤلفات وأحاديث وتعليقات صاحبت نهايــة األلفية الثانيــة ـ طرحت علينا هــذا السؤال سابق الذكر؛ إذ يباغتنا «فرانسيس فوكوياما» بمقال عام 1989، ثم على نحو موسع في عام 1992 بعنوان: «نهاية التاريخ وخاتم البشر». كما يسجل «جان ماري جوينو» عنوانا «نهاية الديمقراطية»، ويضيف «راسل جاكوبي» إلى العناوين جديدا، فيكون مؤلفه «نهاية اليوتوبيا».... غير أن هذه النهايات المتعجلة في ترسيم حدود تاريخية قطعية الداللة مــع ماض ولى، وجديد يفتح الباب على مصراعيه لمفاجآت تطرح سؤاال على عناوين النهايات: أهي النهايات واقعيا أم إنها مصائــر معلقة لمنظومــات فكرية تواجــه أزمة طاحنة؟ ولعــل المصير الديمقراطي في عالمنــا المعاصر ـ في ظــل انتكاسات أو فشــل التطبيقات الديمقراطية يطرح مصيرا معلقا بمدى نجاح التطبيق الديمقراطي ـ في إعادة

الثقة في النظام الديمقراطي واستمراريته.تحت مسمى الدفاع عــن المجتمع الحــر، انتصرت أوروبــا في الحرب العالمية الثانية علــى ألمانيا النازيــة، لتكرس الديمقراطيــة سبيال وحيدا لتحقق هذا المجتمــع. وقد عدت أوروبــا نفسها وريثة للتركــة الديمقراطية األثينية، تلك التركة التي آلت على نفسها إقامة حكم القانون وحماية الملكية

137

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

كا. «وهذه الحقيقة قد رغبت فيها الخاصة، في حالة أن يكون المواطنون مالالطبقات الثرية» 9.

وبوسعنا أن نتوقف عند تلك العبارة السابقة، فلــم يكن الطرح اليوناني لمصطلح ديمقراطية Democracy أو ديموس demos في اليونانية ـ والذي يعنى حرفيا حكم الشــعب (لنفسه وبنفسه) ـ أكثر من كونه حكــم طبقة أو جماعة نفوذ معينــة؛ إذ علينــا إدراك أن المقصد السياسي الحرفي لحكم الشــعب بالمعنى العام الذي يندرج فيه كل األفراد في المجتمع ليس هو المقصود؛ بل المواطنين المالك خاصــة، وهنا تبــدو المساواة فــي الديمقراطية األثينية

ك، دون مساواة بين المواطنين أو المواطنين المالأن تنطبق على أولئك األجانــب ـ أو الغرباء على المجتمــع األثيني ـ حريــة المشــاركة السياسية

بالمعني الديمقراطي.ومن أثينا إلى «الفزيوقراط» أصحاب النزعة النفعية في القرن الثامن عشــر، والذين رأوا أن هناك قوانين طبيعيــة لالقتصاد سابقة على وجود الحكومة، ومن ثــم ليس من حق هــذه الحكومة تعليق تلك القوانين، وهي قوانين العدالة والحرية والملكيــة. وقــد طرح هــؤالء وجهــة نظرهم في

الديمقراطية فكانت أن «تقتصر الديمقراطية ـ أي المشاركة في الحكم ـ على ك؛ إذ إنهم وجدهم الذين يملكون الحقوق المدنية، «وحدهم لهم هؤالء المالوطن»، فالوطن والثروة يجتمعان عندهم» 10. ومن ثم فإنهم وحدهم األحرار، وعلينا أن نفهم ـ من هذا السياق ـ كيف أن الديمقراطية الغربية قديما وحديثا قد تخلت عن مضمونها األصيل والمعلن أيضــا، والقائم في المساواة لصالح

الملكية الخاصة في المقام األول.

د.هـ.م. جونز، الديمقراطية األثينية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976، ص 136. 9 ـ جان توشار، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة د. علي مقلد، الدار العالمية للطباعة والنشــر، 10 ـ

بيروت، 1983، ص 325.

�X�Xح ا����kا� �&# (�����kA د#�:�ا��1 Democracy أو د#��س

1�X�Xا��� �= demos

��=� ZE�# يRـ وا� B�9E�) 5ا��� (& BX�L �� �;Lـ أ (B�9Eو� 1���n 1 أو: � (&.1E��� �9ذX

138

المحور

ومن المتعارف عليه سياسيا أن الرأسمالية جزء ال يتجزأ من الديمقراطية؛ لكن الوقائع تؤكد كيف أن الرأسمالية تزدهر تحت لواء أنظمة مستبدة وقمعية، كمــا أن المؤسسات الرأسمالية العابــرة للقارات أو متعــددة الجنسيات كثيرا ما أسهمت ـ بصــورة أو بأخرى ـ في اإلطاحة بديمقراطيــات العالم الثالث أو النامي، وتولية ديكتاتوريات محلها، من أجل إتاحة الفرصة الستثمارات كبرى لتلك المؤسسات الرأسمالية، «ويركز نظام المشاريع الحرة تركيزا شديدا على القيمة التجارية: كيف تبيع، كيف تنافس وتتفوق. وفي ذلك يقول «رالف نادر»: إن نظام حرية الســوق يحفز قيمة واحدة فقط في المجتمــع، هي قيمة الربح المادي االستحواذي؛ ولكن ماذا عن القيم المتعلقة بالعدالة والصحة والسالمة المهنية وسالمــة المستهلك، وقيم الحــرص على مستقبل األجيــال القادمة، والمساءلة في الحكومــة 11. وهكذا يبدو مصير الديمقراطيــة معلقا بين محور ارتكازها القائم على المســاواة، ورأسمالية نهمة، تبتلع حق تكافؤ الفرص، أو

جوهر المساواة لصالح القلة المصرح لها بممارسة الديمقراطية !إن الخضوع لحكم أسواق المال ومصالح الشركات العالمية الكبرى يهدد استقرار الوضع الديمقراطي؛ إذ إنه يخلق منافســات محتدمة، وتوترات بين الدول، وإن كان هذا السوق يراه المؤيدون له مبشرا بمجتمع حر يسوده العدل واإلنصاف، غير أن أمره يبــدو اآلن مروجا كثيرا للفوضــى االقتصادية، وما ينجم عنها من تجاوزات ومظالم، ومع العلم أنه في الوقت الذي ال يزال لكل مواطن في المجتمعات الديمقراطيــة حق التصويت، وفي السياق الديمقراطي نفسه يسعى السياسيون في هذه المجتمعات إلى محاولة الموازنة بين مصالح الفئات االجتماعية جميعها؛ لكسب ثقة وصوت األغلبيــة؛ إال أنه وبعد أن تتم العملية االنتخابية بصورتهــا الديمقراطية؛ فإن القائمين علــى إدارة األموال يسعون بكل جهدهــم لتحقيق أقصى قدر مــن األربــاح، دون االلتفات لقيمة

التوازن االجتماعي في استمرار العملية الديمقراطية.

مايكل بارتني، ديمقراطية للقلة، ترجمة حصة المنيف، المشروع القومي للترجمة (464)، القاهرة، 11 ـ 2005، ص 63.

139

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

وإذا كانت الديمقراطية قد عانت على مر تاريخها من تعنت السلطة المستبدة أو الديكتاتورية، وهيمنة الثروة، وحكم القلة، وسيطرة الشركات الكبرى؛ فإن رياح التفاؤل ـ من وجهة نظر أخرى ـ تهب على الديمقراطية في عصر شبكات اإلنترنت، وربما كشــفت الحركات السياسية في بلــدان العالم المختلفة عــن أهمية وتأثير اإلنترنت في الحشــد الجماهيري من خالل مواقع الفيسبوك وتويتر؛ لكن سرعان ما سكنت رياح التفاؤل، وحلت محلها خيبة األمــل في إعادة بناء نظام ديمقراطي جديد. وتظل المشــكلة العالقة بيــن استخدام شبكــات اإلنترنــت وتحقق نظام ديمقراطي في بلدان العالم الثالث ـ أو منطقة الشــرق األوسط ـ هي مشــكلة أن

الديمقراطية التي نشأت في الغرب، وأخذت صورتها الشــكلية كديمقراطية نيابية أو تمثيليــه في العالم النامي لم يصاحبها الوعــي السياسي الالزم لضخ الروح الديمقراطية في الهياكل الرسمية؛ لكي تحكم وفقا لإلصالحات التي تتم المناداة بها عبر شبكات الــذي عكستــه والتفــاؤل االجتماعــي، التواصــل التكنولوجيا في موجات ما يسمى بالربيع العربي لم يكن واقعيا في قراءته للوضع الراهن، الذي لم يكن ليسمح بتمرير آمال وطموحات الراغبين في ممارسة

ديمقراطية تعبر عن حرية المشاركة السياسية.إن عملية التحطيم المستمرة ـ من قبل جماعة

المصالح والشركات الكبرى وإدارة رؤوس األموال ـ لمبدأ المساواة أو حق تكافؤ الفرص ترخي بسدولها على الممارسة الديمقراطية؛ لكي تصبح هذه الممارسة ألعوبة في أيدى هؤالء، فتقوم بدفع أنصارهــا أو مؤيديها أو من تم استقطابهم إلى سدة الحكم الديمقراطي لتكون القرارات السياسية وفقا لمصالحها». ولذا يجب أن نكون قادرين على ابتكار طريقة لحماية الحقوق األساسية، التي ال تنزع إلى االنحياز لصالح أصحاب االمتيازات القائمة ضد اإلصالح 12. ومن خالل هذا

Dahl, Democracy in the United States: Promise and Performance, Rand McNally and Co., 1972. 12 ـ p. 428.

إن ا��ecع ��&) أ��اق ا���ل و����A ا����Lت ا������1 ا�& �ى #N�د ?mار ا���%:�ا U�c# BXا��؛ إذ إ�ا��#�:��E=��ت ��%��1، و'�'�ات ��� ا��ول، وإن �Lن �Rا B� ون�# ا���ق #�اه ا���ٴ� #��ده ?�%M�� ا� � �ا���ل واإل�AXف.

140

المحور

التصور تظل المشــكالت المستمــرة للديمقراطية ـ بداخل النظــم السياسية المطبقة للتعددية السياسية (أمريكا أنموذجا) ـ واحدة، كاآلتي:

1 ـ ربما تكون هناك جماعات قادرة على منع قيام مناقشات حول قضايا مهمة، ومن ثم تعوق اتخاذ قرارات من الواجب صدورها.

2 ـ يوجد تحيز لطبقة أو طبقات معينة، وهنا تفرض التعددية نفوذها التخاذ قرارات معينة أو عدم اتخاذها.

3 ـ ال توجد مساواة في عملية اتخاذ القرار السياسي، حتى وإن كانت ثمة إمكانية للوصول إلى صانعي القرار.

4 ـ هناك عدة عوامــل قد تسبق اتخاذ قرارات معينــة من عدمه لصالح جماعات معينة.

5 ـ قد تملك السلطة القديمة قدرا أكبر من الشرعية مما يتوفر لجماعات السلطة الجديدة، من خالل اتخاذ قرارات تحول دون وصول الجماعات األخرى

إلى السلطة.6 ـ قد توجد عوائق بحيث تحكم السلطة قبضتهــا في ظل اتساع وتعقيد

االرتباطات الطوعية ووجود جماعات المصالح.7 ـ ال يوجد إال النذر اليسير من التنسيق والتخطيط للبرامج السياسية.

8 ـ تأتي معظم القــرارات الرئيسة في أي ديمقراطيــة عن طريق إجماع محدود، من خالل جزء مهيمن مــن أعضاء المجتمــع ذوي التأثير السياسي م أمريكا بوصفها أكبــر بلد ديمقراطي في الفعال 13. والمتعارف عليــه أن تقدالغرب؛ ومن ذلك فإنه يوجد اضطــراب قوي في آلية اتخــاذ القرار؛ إذ إن اللوبي Lobby أو جماعات الضغط تعد عائقا للعملية الديمقراطية، من خالل استعمال سمسرة المعلومات بتوصيلها إلى مصالح تمثلها شركة معينة، سواء في

اتخاذ القرار أم عدمه في مجتمع ديمقراطي.

Dahl, Democracy in the United States: p. 226. 13 ـ

141

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

وعندما نقرن الديمقراطية بالمجتمع الحر والحريــة؛ فإننا بإزاء موقف عالق بين حريــة مجموعة من األفراد أو جماعة بشــرية في أن تقرر مصيرها بيدها، وأن تسلم مقاليد حكمها إلى حكومة معبرة عن إرادتها الجماعية، وبين حق كل فرد أو إنسان في الشعور باألمان من سوء استعمال السلطة، بما يكفل له ضمانة أال تــدوس األغلبية حقوق األقلية. لكن في ظــل العولمة أو العصر اإلمبراطوري ـ أي حكم اإلمبراطورية األمريكيــة للعالم في ظل استراتيجيات ومخططات عولمية ـ فإن الحرية الجماعية وحق تقرير المصير في طريقه إلى الزوال. وفي ظل حرية الخيارات البشرية يقبع الناس تحت مظلة وهم الحرية،

«والمفاجأة الكبرى لهذا الزمن أن غالبيتنا يشعر بالرضى، ويساورنا الشعور بأنه لم يسبق أن كنا على مثل هذه الدرجة مــن الحرية، ونتحسر على أسالفنا؛ لكونهم خضعوا لكل أنواع الضغوط التي لم نعهدها... فلماذا تترك مثل هذه الحرية طعم

الرماد في حلوقنا؟ وإلى شيء نحن مقيدون» 14.وأخيــرا يمكن القول: إن المجتمــع الذي يقوم على أسس ديمقراطية يضمن لنفســه استقرارا من حيث مراعــاة حقوق ومصالح الجميــع، ليس حقوق ومصالح األثرياء والمهيمنين اقتصاديا فحسب، ومن

هنا فإن مصيــر الديمقراطية معلق بمــا يمكن أن يبذله السياسيــون في تحقيق التوازن االجتماعي، وتحجيم الحرية الفردية في االستقواء والسيطرة. ومن دون ذلك فــإن فقدان التوجيه للسوق الحــر، وتدفق رؤوس األمــوال دون رقابة يدفع بالديمقراطية إلى أن تكون أداة فــي يد أصحاب رؤوس األموال، ومن هنا تسقط فكرة التالزم بين اقتصاد السوق الحر والديمقراطية؛ بل يتبدى على سطح الوقائع اليومية، كيف أن التالزم أو االنسجــام بينهما يتحول إلى تعارض مستمر، يخلف

وراءه حيرتنا ونحن نسأل: أي مصير يلحق بالديمقراطية اآلن، وفي المستقبل؟

جان ماري جونيو، نهاية الديمقراطية، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن، ليبيا، 1995، 14 ـ ص 16 ـ 17.

�X ���E:�ن ا��#�:�ا��1 ����M%�? ا��� وا���#1؛ U��� rS�� زاءi� �EXi= �� 1���M� 1#� ��� 1#��� 1���n اد أو�األ= ����A� ر�أن ': �=��، وأن '��) �:���� ��� �ة �� 1��& Zإ� �N�&.1����Mا� �N'إراد ��

142

المحور

4 ـ &) ا�:��Xن: ��' �� F�n r#�#�؟

ما القانــون؟ إذا كانــت ثمة أسئلــة تبدو مستغربــة مثل هــذا السؤال: ما القانون؟ فهل ثمــة مؤلفات أخرى فــي اإلجابة عن ســؤال: ما الطب، أو ما الكيمياء؟ ال يوجد بالطبع؛ لكن بالنسبة لسؤال: ما القانون؟ ألفت مجلدات ضخمة لإلجابة عنه؛ حيث إنه لم يفكر أحد في أن ممارسة الطب تعد تعريفا دقيقا لمــا نعنيه بالطب؛ لكن فــي القانون يتم التأكيد علــى حقيقة القانون بصورة بليغة، كما لو كانت هذه الحقيقة سرا دفينا يجب الكشف عن طبيعته 15.تظل إشكالية القانون محل دراســة المتخصص في القانون؛ لكن تتجاوز هذا األمر إلى باقي فروع العلــوم االجتماعية واإلنسانية األخرى، من الفلسفة إلى السياسة، ومن األخالق إلى العمل المهني، وكل أولئك الذين يتعاملون مع القانون تتشكل لديهم وجهات نظر تجاهه، وتمثل عالقة القانون بالسلطة ـ أي أجهزة الدولة، أو تلــك المؤسسات المسوغ لها االستخدام الشــرعي للقوة ـ العالقة األكثر بحثــا ودراسة، ومن ثــم فإنه يمكن القــول: إن القانون ليس ما يصدره الحاكم من أوامر، ويقصد بالحاكم هنا: سلطة الدولة أو حكومتها المنتجة بصورة ديمقراطية؛ لكن، من وجهة نظر أخرى، فإن القانون يمثل حق

الدولة في امتالك السلطة العامة.هذه السلطة التي تحدد طبيعة عمل وأداء مستخدميها أو موظفيها العموميين

من خالل ما تصدره من قوانين.وعندما نحاول أن نضع تصورا لمعنى حكم القانون Rule of Law:؛ فإنه يتبادر إلى الذهن أن حكــم القانون هو سيادة القانــون بقواعده في مقابل نفوذ السلطــة وممارساتها لالستبداد، ومــا تقرره من امتيــازات أو حرية التصرف على نطاق موسع من خالل الحكومة. ومــن هنا ـ حكم القانون ـ يمكن إلزام الحكومة في كل أفعالها بقواعد ثابتــة ومعروفة سلفا؛ أي تلك القواعد التي يمكن توقعهــا من قبل األفراد بصورة مؤكــدة، وبهذا المعنى يتمثل حكم القانون في حماية حرية الفرد، ليس بالتصريح له بفعل ما وفقا

H.L.A. Hart, The Concept of Law, Clarendon Press, Oxford, 1994, p. 1-13. 15 ـ

143

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

لكونه فردا؛ وإنما تبعا لقواعــد عامة مجردة؛ «فقد جــاءت فكرة القانون تتويجا للطموح األخالقي المعقد في تقنين السلطة العامة» 16، ويجب إدراك أن حكم القانون؛ ليس حكما بالقانون؛ لكنه حكم يتعلق بما ينبغي أن يكون عليه مذهب ما وراء القانون Meta-Law ؛ أي: الحديــث عن القانون دونما

الخوض في تفاصيل موضوعاته.إن ثمة خشية أن يفسد النموذج أو النظام الديمقراطي حكم القانون، من خالل سلطة التشــريع المتاحة للمجلــس النيابي أو (البرلمــان)؛ فعلى سبيل المثال: قد يستخدم المجلس النيابي أو التشريعي سلطاته المطلقة في تحقيق

مصالح جماعات معينة. ومن هنــا فإنه قد يكون جــزءا أساسيا مــن تحالف قــوى معينــة، تقدم مكاســب خاصة لمؤيديهــا، «فقد طــرح التصور الحديث للحكومة الديمقراطية ما يسمى بالحكومة الموازيــة، أو تلك المصالح المنظمــة التي تلزم المشــرع بالتدخــل لصالحها بإصدار تشــريعات معينــة، ولزم عن ذلــك فحسب نتيجــة ضرورية ومحتمة، هي إعطاء السلطــة العليا سلطة مطلقة في ممارسة القسر على جماعات أو أفراد معينين

لخدمة غايات خاصة» 17.ومن هنا يعود السؤال من جديــد: ما عالقة الدولة بالقانون؟ هل تحتكر

الدولة وحدها صنع القانون؟إن اإلجابة لدى بعض أصحاب وجهات النظر األخرى قد تعني كون القانون وجها أصيال لكل تنظيم بشري؛ ومن ثم فإنه ليس حكرا على أحد، إن الدولة ذاتها ليست سوى أحد التنظيمات البشــرية، وكل التنظيمات البشــرية داخل

L. I. Harden: The Noble Lie: The British Constitution and Rule of Law, Hutchinson, London, 16 ـ 1986, p. 5.

F. Hayek, New Studies in Philosophy, Politics, Economics and History of Ideas, Chicago Unvi. 17 ـ Press, 1978, p. 100.

'FD إo&���1 ا�:��Xن �Ac%1 ا���درا F��=� ا�:��Xن؛ �&� '%�Mوز �S�� Zإ� �ا األ�R�

1����%nوع ا����م اال�=واإل1�X��X األI�ى، �� ا�19��9 إ�Z ا�����1، Zالق إ�Iو�� األ.�ENا�� Fا���

144

المحور

اإلطار المجتمعي تصنع قوانينها أيضا، ومن هنا يكــون النظام القضائي في الدولة جزءا أصيال من تلك الخبــرات الناتجة عن محاولة الفرد بإرادته أن يجد حلوال لمشــكالته التي يواجهها، وفي محاولته هــذه يضع قواعد تقتضي

عقوبة، قد تمثل في بعض األحيان تمردا أو احتجاجا على وضع معين.ولنقدم مثاال واقعيا عن تراجع دور الدولة في سن قوانينها الملزمة وفقا لرؤيتها التشــريعية، فلم تعد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا هي التي تقرر مستوى الضرائب؛ بل صار القائمون على توجيه تدفقات رأس المال والسلع هم الذين يحددون مقدار المبالغ التي يريدون دفعها؛ لكي تستطيع الدولة أن تؤدي المهام الموكلة إليها، وال ريب في أن الكثير من الالعبين الدوليين قد صــار على وعــي تام بهــذه الحقيقــة. هــذه الحقيقة التي أبــى رئيس ـ بنز» «يورغــن شرمب» إال أن يصرح بها فــي نهاية إبريل من عام «دايملر 1996 للجنة الضرائب في البرلمــان األلماني: لن تدفع مؤسسته أي ضريبة على عوائدها، وزاد «شرمب» في تأكيده، فراح يقول: «إنكم لن تحصلوا على شيء منا، ولم يكن بوسع ممثلى األمة ـ وهم يسمعون ما حدثهم به» «مانفرد غرنتس» المسؤول المالي في قيادة المؤسسة، عن تسوية األرباح مع الفروع الخارجية، وعن االستثمارات في الشق الشــرقي من ألمانيا ـ سوى الصمت

والحيرة إزاء ما يسمعون» 18.إننا أمام رؤية جديدة لحكم القانون، تكشف عن أن حكم القانون ليس إال إدراكا للقوانين بوصفها تنظيمــا للعالقات بين األفراد من جهة، وبين األفراد والدولة من جهة أخرى، ومن ثم فليس من حق السلطة التشريعية أن تفرض ما تراه من تشــريعاتها الضريبية، وبهذه الصورة يقوم حكم القانون بحماية الفرد والمؤسسة مــن أي سلطة بوسعها أن تمس المجــال الفردي الخاص أو الحر، دونما مراجعة مــن السلطة القضائية ذات االستقــالل التام. وفي ظل حكم القانون يتوجب تعويض األفراد عما يلحق بهم من ضرر إزاء حكم جائر لم يكن واردا في توقعات األفراد القانونية، وأن يكــون هذا التعويض مالئما

فخ العولمة، مرجع سبق ذكره، ص 356. 18 ـ

145

الغرب في القانون وحكم الديمقراطية ومصائر والشعبويات العولمة

لحجم الضرر الالحق بهم، كما يشــير حكم القانون ـ في إطار محدد ـ إلى ما يسمى «الكفاالت اإلجرائية»؛ أي إجراء محاكمة عادلة. وينطوي هذا األمر على ضرورة استقالل القضاء. وحيث إن القانون هو نتاج التطور، ويعد تجسيدا للوجود اإلنساني؛ فإن التفاعل التطوري بيــن الظروف المتغيرة، والمحاوالت اإلنسانية لتطبيــق التطور العقلــي المحــدود بإمكانيات المعرفــة اإلنسانية

المحدودة أيضا مطلوب من أجل تأسيس قواعد قانونية.يطرح حكم القانون منطلقا جديدا، وهو كيف أن القانون ليس إال وسيلة تساعد األفراد على تحقيق عدد هائل من األغراض والحاجات، وقد تكون تلك

األغراض غير معلومة لكل إنسان بالضرورة؛ لكن ة في من المتوقع أن تمثــل غرضا أو حاجــة ملحمستقبل قريب أو بعيد. ومن هنا فإن القانون ليس باألساس؛ بل يعــد وسيلة لتحقيق إنسانيا غرضا األغراض اإلنسانية علــى نحو ناجح ومن المرجح أنه ـ ككل الوسائل ذات األغراض المتعددة ـ يأتي بعد اللغة كوسيلة تساعد في تحقيق الكم األعظم

من األغراض اإلنسانية 19.ولعل المعنى المراد حاليــا لحكم القانون العالمية ـ والهيمنــة المتغيــرات ظــل ـ فــي

الرأسمالية، وإعادة النظر في الممارسة الديمقراطية ـ هو وضع حد للسلطة التنفيذية التي يجب أن يتوقف عملها عند منع إفســاد الجهود الفردية في مشــاريعها الخاصة بطريقة ما، والتأكد من ثقة الفرد في ممارسة حريته، وسعيــة وراء غاياته الخاصــة دون أن تحبط السلطــات الحكومية مساعيه

بصورة متعمدة.وعندما نسائل حكــم القانون؛ فإننا كمن يسأل: مــن الذي يحكم؟ وقد تكــون اإلجابة قادمة مــن أمريكا البلــد األكثر صيتــا في العالــم بنظامها

F. Hayek, Rules and Order, Routledge and Kegan Paul, London, 1973, p. 112. 19 ـ

#k�ح &) ا�:��Xن ���n �:�kE�#�ا، وr�L أن ا�:��Xن ��u إال و���1 '���� األ=�اد F2����U�:�' Z ��د �� األ3�اض وا����nت، x�' ن�&' �Sواأل3�اض �3� �����1 �&F إ��Xن ���e�ورة.

146

المحور

الديمقراطي العتيد «لماذا ال تلجأ الطبقة الرأسمالية في الواليات المتحدة ؟ من شأن هذا أن يسهل األمور، فلن تكون هناك معارضة لنظام حكم فاشيمنظمة، وال حماية للبيئة أو حماية مهنية تثير القلق، وال انتخابات أو اتحادات عمالية، يعتمد نجاح حل ديكتاتوري ألزمة الرأسمالية ـ في بلد مثل الواليات المتحــدة ـ على مــا إذا كان يمكــن للطبقــة الحاكمة أن تعيد حشــر جني الديمقراطية في داخل الزجاجة.. ثم إن ما يكبح الدوافع األوتوقراطية لدى النخب الحاكمة هو خوفها من أنها لــن تنجح في مسعاها هذا؛ فدولة تعتمد فقط في حكمها على الحراب هي حكومة مكشــوفة كأداة للسيطرة الطبقية. ومثل هذه الحكومة ستفقــد مصداقيتها، وستولد المقاومــة ال اإلذعان ولين العريكة؛ بل إن من شأنها أن تثير وعيا متمردا قد يصبح ثوريا 20. إن الهيمنة الكاملة لرأس المال تجهز على حكم القانون الذي يعد بمثابة حجر األساس

في النظام الديمقراطي.وتكشف االنتخابات في بالد العالم المختلفة أنها ليست بالضرورة تميط اللثام عن وجه ديمقراطي؛ بل قد تكشف عن وجه غير ديمقراطي بالمرة، وإن ادعى كونه ديمقراطيا؛ إذ ال تعتمد فكرة المساواة أو حق تكافؤ الفرص كسبيل إلى مجتمع أكثر حرية وعدال. فالحكومة المنتخبة من خالل األغلبية ال تخدم مصالح الشعب بالمعنى الديمقراطي بقدر ما تخدم الشركات الكبرى، وتظل اللعبة مستمرة، ليــس في السيطرة على الدولة فحسب؛ بــل بالنسبة للقانون واألحزاب السياسية، والجامعات، واإلعالم. كما تدعي الحكومة أنه ال حكم إال للقانون لتوكيد الشــرعية، ومن ثم فإن تلك المؤسسات االقتصادية العمالقة تظهر بحيادية في المواقف السياسية، خاصة المواقف الحرجة في اللحظات الحاسمة، وهنا تعلن أن الخيار للشــعب كي يتخذ قراره في تصحيح المسار، بينما تظــل انتهاكاتها الصارخــة للمبدأ الديمقراطي، الــذي ال معنى لحكم اال إال في إطار نظام القانون دون ترسيخه، والذي بدوره ال يمكن أن يكون فع

ديمقراطي رشيد.

مايكل بارنتي، ديمقراطية للقلة، ص 459. 20 ـ