751
ة ن مكا ر ع اّ ش ل ا ي ف ع م ت ج م ل اّ ي هل ا ج ل ا1 ةّ ورن ه م ج% ودانّ س ل ا عة م ا ج% نْ يَ ل يّ ن ل ا-

blogs.najah.edu · Web viewوشرعت أدرس هذه المراجع ، وأ دو ن ملاحظات جديدة ، وأراجع أ خر قديمة ، فوجدت عددا غير قليل

  • Upload
    others

  • View
    2

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

مكانة الشّاعر في المجتمع الجاهليّ

إعداد الطّالب :فتحي إِبراهيم أَحمد خضر

إِشراف

الأُستاذ الدُّكتور عبد النّبي محمّد علي

1422 هـ / 2001 م

قُدّمت هذه الرّسالةُ لنَيْلِ درجةِ الدُّكتوراه

5

تصدير

( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي - بِرَحْمَتِكَ - فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (

سورة النمل : آية 19 .

صدق الله العظيم

شُكْرٌ وتقديرٌ 000… وعرفانٌ بالجميلِ

إِنَّ مِنْ حَقِّ الوَفاءِ عَلَيَّ أنْ أَتقدَّمَ بعظيم الشُّكْرِ وجَزيلِ التّقديرِ إلى الحكومةِ السّودانيّةِ الرَّشيدةِ ، التي فَتَحَتْ لأَبناءِ فلسطينَ أبوابَ هذا البلدِ العزيزِ على قلوبنا، لنَرِدَ هذا الموردَ العَذْبَ الصّافيَ ، في وَقْتٍ أَوْصَدَ آخرونَ أَبوابَهم دونَنا. فكان لهذا البَلَدِ العربيّ الشقيقِ يَدٌ علينا، نحن عاجزونَ عَنِ الوفاءِ بحمدِها .

وأتقدّم إلى شِقّ النَّفْسِ ، الشّعْبِ العربيِّ السّودانيِّ الأَصيلِ ، الذي وَقَفَ - وما يزالُ - مَعَ أبناءِ فلسطينَ وِقْفَةَ عزٍّ وشُموخٍ وكبرياءَ، نَزْدَهي بها أَمامَ الأشقّاءِ، ونفاخرُ بها الدّنيا . لقد كان لهذه الوِقْفَةِ المشرّفةِ أَطْيَبُ الأثرِ في النّفْسِ ، والقلْبِ والوُجدانِ ، جَعَلَتْنا نشعُر - دائماً - أَنّنا بَيْنَ أهلِنا وأشقّائِنا ، فأَزالتْ من قلوبنا آلامَ الغربةِ ، والبُعدِ عن الوَطَنِ … فأَتقدّمُ إِلى أَهْلِنا بمشاعرِ الحُبّ والوُدّ ، وفاءً بيسيرٍ من الدَّيْنِ … وعِرْفاناً بقليلٍ من الفَضْلِ …

وأَشكُرُ لإِدارةِ جامعةِ النّيلَيْنِ مواقفَها القوميّةَ الأَصيلةَ في قبولها أبناءَ فلسطينَ ، وتقديمها التّسهيلاتِ الإداريةَ ، لتمكيننا من وُرودِ هذا النّبْعِ الثَرّ والنّهلِ منه .

وأُثني على جُهودِ العالمِ الجليل، الأُستاذِ الوالدِ الدُّكتور عبدالنّبي محمدّ علي، الّذي كانَ لَهُ فَضْلُ رعايةِ هذا البَحْثِ، مُذْ كانَ فكرةً مقترحةً إلى أَن استوى منهجاً ودراسةً. فَقَدْ كانَ لَهُ عَلَيَّ فَضْلُ الأُستاذِ، وحِرْصُ العالمِ، وحنوُّ الأَبِ، وحَدْبُ الصّديق. فقد منحني وقتَهُ، ووهبني فكْرَهُ، فما استغلَقَ عليّ أَمْرٌ إِلاّ أَضاءَ لي جوانبَهُ، وما أُوصِدَ في وجهي بابٌ إِلاّ فتح أَمامي أَبوابا . وأَسْبَغَ عليَّ من المشاعرِ الأَبويّةِ الفيّاضة ما يجعلني غَيْرَ قادرٍ على الوفاء بما هُوَ خليقٌ به من ثناءٍ، وجديرٌ به من شكْر.

وأشيد بجُهودِ الخَيْرِ ، جُهودِ أَعضاءِ لجنةِ المناقشةِ الأَجلاّءِ :

1-

2-

3-

وأَشكُرُ لَهُمْ تفضُّلَهُمْ بقراءةِ هذه الرّسالةِ ، وتلطّفَهُمْ في إِبداء توجيهاتهم الرّشيدةِ ، وآرائهمِ السّديدةِ ، التي كان لها أَعظمُ الأَثرِ في تصويب مواطِنِ الزّللِ ، وتقويم مواضع الخَلَلِ ، لتخرج هذه الرّسالةُ بالصّورةِ اللاّئقةِ ، التي تحرصُ عليها جامعتُنا ، جامعةُ النّيلَيْن الغَرّاءُ .

وأدعو الله - جلّت قدرتُهُ - أن يجزيَهُمْ عنّي ، وعن كُلِّ منتفعٍ بهذه الرّسالةِ خَيْرَ الجزاءِ ، وأَنْ يجعلَ هذا العملَ الصّالحَ في ميزانِ حسناتِهمْ ، إنّه سميعٌ مُجيبٌ .

ولا يفوتُني أَن أشكُرَ لعمادةِ كُليّةِ الدّراساتِ العُلْيا ، وللإِخوةِ الأَساتذةِ العاملينَ في مؤسّساتِ الجامعةِ كافّةً ، جُهودَهُمُ الخيّرةَ الموصولةَ …

الإِهداءُ

إِلى شُهداءِ انتفاضَةِ الأَقْصى المباركِ ؛ درّةِ فلسطينَ، وقَلْبِها النّابضِ - الّذين ارْتَقَوْا إلى عِليّينَ ، وَهُمْ يَهتفونَ : إِنّ لأُمتِنا العَربيّةِ المجيدةِ في فلسطينَ مَوْعِداً .

الكمالُ للهِ وَحْدَهُ

" إِنّي رأَيْتُ أَنَّهُ لا يَكْتُبُ أَحَدٌ كتاباً في يَوْمِهِ ، إِلاّ قالَ في غَدِهِ : لَوْ غُيّرَ هذا لَكانَ أَحْسَنَ ، ولَوْ زيدَ هذا لَكانَ أَفْضَلَ، وَلَوْ تُرِكَ هذا لكانَ أَجْمَلَ ، وهذا مِنْ أَعْظَمِ العِبَرِ ، وَهُوَ دليلٌ على استيلاءِ النّقْصِ على جُمْلَةِ البَشَرِ " .

العِمادُ الأَصْفهاني

F

مقدّمة في أهميّة البحث ، ودوافعي إلى معالجته ، ومنهجي في ذلك

الحمد لله الذي هدى العرب بالقرآن ، وميّزهم على غيرهم من الأُمم بحسْن البيان ، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد خير الأنام ، وبعد :

فلم تكن صلتي بالشّعر الجاهليّ وليد صدْفة ، أملتها ظروف طارئة ، وجّهتْني لدراسته ، والبحث فيه . فقد بدأتْ صلتي بهذا الشّعر حينما كنتُ طالباً في السنة الجامعية الأولى، أدرس لاميّة العرب للشّنفرى الأزْديّ ، التي تعدّ -بحقّ- رائعة من روائع الأدب العربيّ ، فاستهوتْني ، ووقعتْ في نفسي موقعاً حسناً .

وبدأتْ علاقتي بالشّعر الجاهليّ تتعزّز ، حتى غدا اهتمامي بالعصر الجاهليّ جزءاً لا ينفصل عن كياني ووجداني ، لما فيه من قيم إنسانية ، ومُثُل عُلْيا ، تصقل النّفس ، وترهف العاطفة ، وتسمو بالذّوق والوجدان … ممّا دفعني إلى مدّ البَصَر إليه بدراسة علميّة ، عنوانها "حركة الشّعر في بني نهشل من تميم في العصر الجاهليّ" تقدّمتُ بها للحصول على درجة الماجستير .

واطّلعتُ في أثناء دراستي تلك على عدد غير قليل من المصادر والمراجع ، وقد أفزعني ما في كثير منها من مجانبة للصّواب ، ومجافاة للحقيقة ، وافتراء على العلم ، كدْتُ - لولا مُضيّي في البحث - أجنح إلى تغيير مسار البحث الذي سلكتُه ، بَيْدَ أنّني لم أستطع أن أحقّق - يومئذ - رغبة في نفسي .

وشرعتُ أدرس هذه المراجعَ ، وأُدوّن ملاحظاتٍ جديدةً ، وأراجع أُخرَ قديمةً ، فوجدتُ عدداً غير قليل من هؤلاء الباحثين ، قد نظروا في أثناء دراساتهم إلى هذا العصر بعيْن واحدة ، فلم يَرَوْا إلاّ نصف الحقيقة ، فجاءت أحكامهم جائرة بحق هذا العصر ، منافية لروح العلم .

وحاولتُ أن أتتبّع مواقف هؤلاء الباحثين ، فوجدتُ ابن خلدون أكثر الباحثين إساءة إلى هذا العصر ، فرسم للمجتمع العربي في ذلك العصر صورة أقرب ما تكون إلى التوحّش ، وردّدها الأستاذ المرحوم أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" وأضاف إليها إضافات تستحق المناقشة ، ثم تابعه في ذلك مَنْ كتب مادة "جاهليّة" في دائرة المعارف الإسلامية .

وتدفق بعد ذلك سيْلٌ من الكتب والأبحاث والمقالات ، فرّغ فيها كثير من مؤلفيها آراء الأستاذ المرحوم ، وردّدوها في أحايينَ كثيرةٍ ، دونما إشارة - أحياناً - إلى المرجع الذي اسْتَقوْا منه ، فكان صوت الأستاذ المرحوم فيها واضحاً ، وصورته - فيما كتبوا - جليّة .

لقد تعرّض هذا العصر لمحاولات طَمْس وتشويه ، تعدّدتْ بواعثُها ، وتشعّبتْ أسبابها () ، فبدتْ صورة هذا العصر في آثار كثير من الدّارسين لا تعكس الوجه الحضاريّ للأمّة العربية في عصر ما قبل الإسلام .

وتطلّعتُ إلى دراسة "مكانة الشّاعر في المجتمع الجاهليّ" حين وجدْتُ مكتبة ذلك العصر الأدبيةَ تخلو من الدّراسات التي ترصد علاقة الشّاعر الجاهليّ بمجتمعه رصْداً شمولياً ، إذ لم يلتفت كثير من الباحثين إلى الأثر الكبير ، الذي أحدثه الشّاعر الجاهليّ في مجرى الحياة اليوميّة عصرئذ .

ومما حفزني على هذا البحث ، وشجّعني على المضيّ فيه إشارات وردتْ في مصادرنا تدلّ على أن نقادنا القدامى قد فهموا رسالة الشّاعر الجاهليّ فهماً صحيحاً ، ووقفوا على تلك المكانة المرموقة التي حظي بها في مجتمعه () .

وتتبّعتُ صورة الشّاعر الجاهليّ في آثار كثير من الدّارسين ، فوجدتُها لا تقلّ سوءاً عن صورة العصر نفسه . فقد اعتاد كثير من دارسي أدبنا القديم أن يدرسوا طائفة محددّة من شعراء ذلك العصر المكثرين ، الذين كثر دورانُهم في كتب الأدب ، غاضّين أبصارهم عن كثير من شعراء ذلك العصر المقلّين المجيدين ، الذين - كما قال ابن قتيبة - () كانوا "أكثر من أن يحيط بهم محيط ، أو يقف من وراء عددهم واقف ، ولو أنفذ عمره في التنقير عنهم" . وأبرزوا في هؤلاء الشّعراء - محاورِ دراساتهم - جوانبَ دون سواها ، فإذا الشّاعر الجاهليّ لا يعدو أن يكون زير نساء ، أو مقبّل أعتاب ، أو بوق عدوان ، وداعية شرّ () .

وأمام هذه الصّورة القاتمة ، التي ارتسمتْ في كثير من كتب تأريخ الأدب العربي عن هذا العصر والشّاعر ، وجدتُ أنّ ما تمليه عليّ الأمانةُ العلميّةُ أنْ أدرسَ هذا العصرَ دراسة علميّة ، أسعى من خلالها إلى تصحيح ما علق بهذا العصر والشّاعر من أحكام متسرّعة . فعمدتُ إلى المصادر الأصيلة للشّعر الجاهليّ ، فاستقريتُ نصوصه - في حدود مقدرتي - وحلّلتُها ، ووضعت خطة للبحث، معتمداً على المنهج التاريخي الاجتماعي في دراسة الأدب ، وهو منهج يركّز على أهميّة النصّ الأدبيّ "كمرآة تعكس لنا أحوال مكانه وزمانه ، وسجلّ حيّ نابض ، نستقري فيه دقائق الظروف المعاشيّة التي أُنتج فيها ، والتي خضعتْ لشتّى عوامل البيئة الماديّة والثّقافية . حقّاً إنّنا علينا ألاّ ننسى أنّ الأديب نفسه لم يُنتج أدبه بقصد التّسجيل التّاريخيّ ، بل أنتجه في المحلّ الأول لينفّس عن حاجته العاطفيّة والجماليّة التي ثارتْ به ، وهزّتْ وجدانه ، لكنّ الإنتاج الأدبيّ برغم هذا له أهميته التاريخية الكبيرة ، التي تبلغ في بعض الأحيان درجة تزيد على جميع الوثائق التاريخيّة الأخرى … فالقصيدة الشعرية الواحدة ربّما تمكّنك من الدّخول في عصرها ، وفَهم الأحوال التي وجدتْ في مكانها وزمانها، بكيفية أكبر دقة وحيوية ومباشرة مما تستطيع أن تحصل عليه من قراءة عدد من الكتب والبحوث العلمية والتاريخية التي وضعت في دراسة ذلك العصر () .

وجعلتُ معمار هذا البحث تمهيداً وخمسة فصول :

التمهيد : عرَضتُ فيه للنظام الاجتماعي في العصر الجاهليّ ، وبيّنتُ أهميّة الشّعر في حياة ذلك المجتمع ، وأثر الشّاعر في تلك الحياة .

وأوضحتُ علاقة الشّاعر بالقبيلة ؛ إذ كانت علاقة تحكمها قيم نفسية وأخلاقية ، فهو عضو في قبيلة علّقتْ عليه آمالها ، فلم يخيّب رجاءها ، فوهبها فكره وفنّه ، وسخرّهما للدّفاع عنها ، معلناً بذلك أعلى درجات الانتماء والالتزام بقضاياها ، فكان رائداً من روّاد نظرية الفن للحياة .

الفصل الأول : تحدثت فيه عن دور الشّاعر الجاهليّ في ترسيخ مفهوم الوطن والارتباط بالأرض . خلافاً لما انتهى إليه بعض الدّارسين من أنّ فكرة الوطن لم يكن لها حضور في الشّعر القديم ، وأن هذا المفهوم السّياسيّ بدأ يظهر في الأدب الحديث . واستقصيتُ الشّواهد الشعريّة ، في حدود مقدرتي ، التي تعبّر عن الالتصاق بالوطن والأرض . وقادني الحديثُ عن ارتباط الشّاعر الجاهليّ بوطنه إلى دفاعه عنه ، فرأيتُهُ يمتشق الحسام ، ويقود الجيش ، ويفرد جناحَيْه على قبيلته ، ويدافع عن ذمارها .

ويدير الشّاعر الجاهليّ سياسة قبيلته الخارجية بكفاية ، لأنه غدا أبرز شخصية مؤثّرة في مجرى الأحداث ، ومن هنا شعرتِ القبائلُ العربية - عصرئذ - بضرورة اختيار سفراءَ لها تنتدبهم لحلّ الأزمات ، فلا عجب أنْ نجد الشّعراء يقطعون بلاد العرب طولاً وعرضاً ، ينتجعون قصور الأمراء ، ويحضرون مجالس القبائل تمثيلاً لمصالح قبائلهم ودفاعاً عنها .

الفصل الثاني : تحدثتُ فيه عن الانتماء القومي للشّاعر الجاهليّ ، الذي أدرك الأطماع الأجنبية في الأرض العربية ، التي كانت محطّ أطماع ثلاث إمبراطوريات كبيرة : الفرس ، والرّوم ، والأحباش . لقد وعى الشّاعر الجاهليّ طبيعة هذه المرحلة التّاريخية ، فدعا إلى رَأب الصّدع ، وتسوية الشقوق من الجسد العربي . وظل هؤلاء الشّعراء يمثلون طموح العرب إلى التغيير ، فحملوا لواء المقاومة للتّحدي الأجنبي ، وبقيتْ قصائدهم صورة مشرقة من صور الرّفض للوجود الأجنبي ، وصوتاً عالياً يدعو إلى الوحدة والتجمع لجعل طاقات القبائل العربية وأبنائها في خدمة هذا الوجود .

الفصل الثالث : وقفتُ فيه وِقْفَةً متأنيّة عند منظومة القيم الأخلاقية والسّلوكية التي حَرَصَ الشّاعر الجاهليّ على تأصيلها في المجتمع . فقد كان مجرى الحياة اليوميّة حريّا بأنْ يتحوّل فوضى لا نهاية لها ، لولا قيم العرف الأخلاقي التي التزم بها المجتمع العربي التزاماً ، لا نكاد نعرف له وازعاً إلاّ هذه الصّيغ التّربويّة التي توارثتها الأمة ، حتى غدتْ مفرداتها جزءاً من التكوين النفسي لأبنائها ، الذين وضعوها موضع التطبيق اليوميّ، وجعلوا الالتزام بها سبيلاً وحيداً إلى الكرامة الاجتماعيّة المتمثلة في حسْن الثناء ، وعدّوا التخلّي عنها جريمة أخلاقية تؤدي إلى السقوط الأبدي .

الفصل الرابع : عرضتُ فيه جهود الشّاعر الجاهليّ في رأْب الصّدع وإشاعة السّلام بين القبائل المتحاربة . واقتضت الأمانة العلمية أنْ أصحّح كثيراً من المفاهيم الخاطئة عن هذا العصر . فاستقصيْتُ - في حدود مقدرتي - جناياتِ كثير من الباحثين على هذا العصر ، وبيّنتُ دوافعها وناقشتُها مناقشة علمية هادئة .

ووقفتُ عند قضيّة الحرب والسّلام ، التي تعدّ من أهم القضايا الإنسانية العامّة، التي تتحكّم بمصائرِ الشّعوب ، وتفرض نفسها على غيرها من القضايا الأخرى .

وبيّنتُ معاناة الشّاعر الجاهليّ ومجتمعه من الحرب ، فرأيتُهُ على رأس الحكماء الذين عملوا على وقف عجلة الفوضى التاريخية .

الفصل الخامس : ركّزتُ فيه على جهود الشّاعر الجاهليّ في توجيه الفكر ، فقد وعى الشّاعر الجاهليّ دوره في المجتمع ، وأدرك رسالته الإنسانية ، فصاغ للمجتمع فكراً إنسانياً راقياً ، يزخر بالخير ، والبرّ ، والرّحمة ، مما يجعله أدباً إنسانياً عالياً .

وقدّم الشّاعر الجاهليّ لمجتمعه فكراً اجتماعياً متطوراً ، ليخطو بمجتمعه خطوات نحو المثاليّة .

وثار على الأوضاع الدينية الرّاهنة ، التي عجزتْ عن أن تملأ الوجدان العربيّ ممّا جعله يتعرّض - أحياناً - لاضطّهاد ديني عنيف .

وبَعْدُ :

فهذه إشارة سريعة إلى أبعاد هذا البحث ، فما فيه من مواطن إجادة فمن فضل الله - سبحانه وتعالى - وتوفيقه ، وما فيه من قصور فمردّه إلى النفس البشريّة التي تجتهد فتخطئ . وأرجو من العلي القدير أن يكتب لي أجر المجتهد .

وسأظل وفياً لهذا البحث ، حريصاً على تتبّعه ، لسدّ ما فيه نقص ، وتصحيح ما فيه عوج .

تمهيد :

1-النّظام الاجتماعي في العصر الجاهليّ وموقع الشّاعر في ذلك النظام :

القبيلةُ وَحْدةُ الحياةِ في المجتمع الجاهليّ :

يستطيع الدّارس لأحوال المجتمع العربي في عصر ما قبل الإسلام أن يعزوَ الأسباب التي دعتْ إلى تكوين القبيلة ، وإلى أن تكونَ الوَحْدَةَ الاجتماعيّة إلى اضْطّراب الحياة ، وعدم استقرارها ، وإلى عَدَمِ قيام حكومة تحفظ للناس أرواحهم () ، وإلى قسوة الحياة في تلك الصحراء . فقد كان النظام القبليّ في شبه الجزيرة العربية ضرورة اجتماعية، فرضتْها ظروف البيئة بما فيها من جفاف وجدْب ، وشظف عيش ، وصراع دائم حول مواردِ الماءِ والكلأ ، من أجل حفظ الحياة والبقاء () . فلا مقام للفرد مستقلاً ، ولا غنى للقبيلة عن أي فرد من أفرادها ، فقد كان أفراد القبيلة متضامنين أشد ما يكون التّضامن وأوثقه ، وهو تضامن أوثق عراه حرصهم على الشّرف ، وقد تكوّنتْ حولهُ مجموعةٌ من الخِلال الكريمة ، ولعلّ خير كلمة تجمعها هي كلمة "المروءة" التي تضمّ مناقبهم " كالحلم ، والكرم ، والوفاء ، وحماية الجار ، وَسَعَةِ الصّدر ، والإعراض عن شتم اللّئيم ، والغضّ عن العوراء () .

ولعلّ هذه القيمَ الإنسانية التي سادتْ - عصرئذ - كانت الدافع الرّئيسَ الذي دفع الإنسان إلى التمسك بالقبيلة ؛ لأنه وَجدَ في ظلالها ما يروي ظمأه من الحُبّ والعطف والحنان .

وكانت القبيلة أشبه ما تكون بدولة مصغّرة ، هي دولة الأعرابيّ ، وموئلُهُ في تلك الصحراءِ(). وكان على أبناء القبيلة أن يخضعوا لواحد منهم ، يرشّحونه للرّئاسة عليهم ، تكون مهمته الأصلية الإبقاء على وَحدتهم ، وحفظ تماسكهم . وكان على المرء أن يمنح انتماءه وولاءه لهذه الوَحدة الاجتماعيّة السياسية ، بحكم ما تربطه بأبنائها من روابط القربى والدّم ، إذ ينتسب أفرادها إلى أصل مشترك ، وقلّ أن ينتسب إليها مَنْ لم يشاركها في النّسب ، إلاّ إذا كان فرد ما قد دخل القبيلة عن طريق الحِلف أو الولاء .

ويرتبط أبناء القبيلة بمصير مشترك ، وتحكمهم مصالحُ مشتركةٌ ، وتجمعهم شبكةٌ واسعةٌ من الخصائصِ النّفسيّةِ ، والعاطفيّةِ ، والوُجْدانيّةِ ، لأنّ الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أنْ ينأى بنفسه عن الآخرين ، ولا أن يحيا بمعزل عن الجماعة ، لأنه "يعتمد في تحقيق كثير من متطلبات حياته الماديّة ، والمعنويّة ، والطّبيعية على الآخرين ، وهذا يحتّم مشاركته لغيره لإشباعها ، لأن قدرته الفردية تعجز عن الوفاء بها () " .

والانتماء ظاهرة إنسانية يعزّز المرءُ بها كيانه ، ويقوّي وجوده ، وبينها وبين الإنسان علاقة تلازميّة ، تتنوّع بتنوّع العلاقات الإنسانية . وقد يضيق نطاقُ هذه الظاهرة لينحصرَ في الأسرة - بوصفها أصغرَ وَحدةٍ اجتماعيةٍ - وقد يتّسع ليشملَ القبيلةَ كلَّها ، أو الشّعبَ كلّه .

وكان لكل قبيلة نُظُمها وتقاليدُها ودستورُها الأخلاقيُّ ، الذي يجب على كلّ فرد من أفرادها أن يعلن أعلى درجات الانتماءِ إليه ، وأن يُخضعَ فرديّته المتطرّفةَ إلى قانون الجماعة . ويقابل هذا الانتماء التزامُ القبيلةِ بهذا الفردِ ، وتوفيرُ الأمن والحماية له ، والدّفاع عنه ، إذا ما مسّه ضَيْمٌ . ولهذا كان الخلع - إسقاط الجنسية القبلية عن الفرد - الذي تعددت بواعثُهُ عِقابَ منْ يخرق هذا العقدَ الاجتماعيَّ () .

وكانت على سيّد القبيلة واجباتٌ كثيرةٌ ، تتمثّل في قيادته لها في الحروب ، واستقبال وفود القبائل ، وعقْد الصُّلح ، وعقْد المحالفاتِ ، ونَجْدة المستغيث ، وحفظ الجوار ، وتحمّل أكبر قسط من جرائر القبيلة ودياتها . وقد ذكر معاويةُ بنُ مالكٍ هذه الواجباتِ ، حين قال () :

نُعطي العشيرةَ حقّها وحقيقَها وإذا تحمّلنا العشيرةُ ثِقْلَها .

فيها ونغفرُ ذَنْبَها ونَسودُ قُمْنا بهِ وإذا تعودُ نَعُودُ .

وصوّر لقيطُ بنُ يعمُرَ الإياديُّ هذه الواجباتِ في قوله () :

وقلّدوا أمركُمْ - للهِ درّكُمُ - .

رَحْبَ الذّراعِ بأمرِ الحربِ مُضْطّلعا .

إنّ مجتمع القبيلة في العصر الجاهليّ ، بعلاقاته ونُظُمه وعاداته وأعرافه هو المجتمع الذي يولد فيه العربيّ ، ثمّ ينشأ متشرّباً نظمَهُ وعاداتِه وأعرافَه، التي تُبنى على دعامة أساسية هي النّسب . وحينما يفتح المرْء عينيْه على ما حوْله يجد كلّ امرئ في قبيلته يتغنّى بانتمائه ، ويعتدّ بأرومته ، بَدْءاً بأبيه وإخوته ، وانتهاءً برهطه وعشيرته ، فجنسيته جنسيّة القبيلة المنحدر منها ، و "هويته" التي يحملها دائماً - في حلّه وترحاله - هويّة القبيلة ، ذلك الاسم الذي يميّزه من أفراد القبائل الأخرى .

ولعلّنا لا نجانب الصّواب ، إذا قلنا : إنّ الشّعر الجاهليّ يُبرز الانسانَ العربيّ متعصّباً لقبيلته أشدّ التعصّب ، مُلْتحماً بها أشدّ الالتحام ، لأنّه يعي ويدرك أنّ وجوده مرتبط بوجودها ، وفناءه مقرون بفنائها .

تعلّق الشّاعر الجاهليّ بوحدة النّسب - أي وحدة الدّم ، التي تربطه بأفراد القبيلة جميعاً ، والتي تجعله يحسّ إحساساً عميقاً أنّه عضو في جسم القبيلة ، يصيبه ما يصيب القبيلة ، فيفرح لفرحها ، ويحزن لحزنها ، وإذا ما تعرّضتْ لعدوان أو غارة خفّ لنجدتها ، وهبّ للدّفاع عنها ، وأسرع للذّود عن ذمارها - لأنّه مظهر من مظاهر العصبيّة القبليّة ، التي كانت عماد حياتهم الاجتماعيّة . ودارتْ مفاخراتهم ومنافراتهم عليه .

لقد استشعر الشّاعر الجاهليّ عظمة قبيلته ، وعبّر عن ولائه وانتمائه إليها ، فهذا حَرّي بنُ ضَمْرَةَ النّهشليّ يفخر بقومه ، ويراهم فوق العالمين () :

بَنو نَهْشَلٍ قومي ومَنْ يَكُ فاخراً هُمُ خيْرُ مَنْ ساقَ المطيَّ عُصارةً بنو نَهْشَلٍ فرسانُ كلّ قبيلةٍ .

بأيّامِ قومي نَهْشلٍ يَعْلُ مفخرا وأعرفُ معروفاً وأنكرُ منكرا إذا الأُفقُ أَمسى كابيَ اللّونِ أَغْبرا .

وأشاد تميمُ بنُ مقبلٍ بانتسابه إلى بني عامرٍ ، فَهُمْ قومه ، ولا ينبغي لأحد أن يترفع عنه أو يبغي لقومه شرفاً فوق شرف العامريّين ، لذا نراه يتعجب بأسلوب استفهامي مِنَ الذي شارفه بقومه ، واستطال بهم عليه ، أحقّا هو جادٌّ في قوله حين أفرط في الفخر بقومه متجاوزاً قومَ ابنِ مقبل، أم أنّه يمزح ؟ ذلك لأنَ ابن مقبل من بني عامر ، ومَنْ كان العامريون قومَهُ نالَ بهم شَرَفاً عظيماً () :

فَقُلْ للذي يبغي عليّ بقومه بنو عامرٍ قومي ومَنْ يَكُ قومُهُ .

أجدّا تقولُ الحقَّ أَمْ أنتَ تمزحُ؟ كقومي يكنْ فيهمْ لهُ متندّحُ .

لقد عكس شرفُ الانتماء قيماً إنسانيةً ، ونُبْلاً أخلاقياً ، وفضائلَ عُلْيا في نفس الإنسان العربيّ ، وحين "ينتسب الشّاعر إلى القبيلة الفلانية وما عرف عنها من مكارم الأخلاق ، في أصولها الأولى ، فإنّما يؤكّد لنفسه الانتماءَ البطولي () " .

فشرفُ الأصلِ ، ونُبْلُ المحتِد ، وعراقةُ النَّسب كان دافعاً دفع الإنسانَ الجاهليَّ إلى أن يحذوَ حذوَ الآباء ، وأنْ يقتفيَ سيرتهم ، ويسيرَ على خُطاهم ، ليكونَ له إسهامُهُ في بناءِ المجْدِ المتوارثِ . إنّ إحساسَ البطلِ بشرفِ الانتماءِ يعدّ دافعاً من دوافعِ سلوكِهِ البُطوليّ في مختلف جوانب حياتهِ الاجتماعيّة . فهذا ضمرةُ بنُ ضمرةَ النّهشليُّ يتغنى بشرف الأصل ، وطيب المحتد ، والناسُ على اختلافهم يشهدون له بذلك ، لأنه ينتمي إلى أجداد عظماءَ : نهشلٍ ، وعُطاردٍ ، قال () :

وقد علمَ الأقوامُ أنَّ أُرومتي وإنْ يَكُ مَجْدٌ من تميمٍ فإنّهُ وما جَمَعا من آلِ سعدٍ ومالكٍ .

يَفاعٌ إذا عُدّ الرّوابي المواجدُ نماني اليفاعُ نَهْشلٌ وعُطاردُ وبعضُ زنادِ القومِ غَلْثٌ وكاسدُ .

ويزهو عمروُ بنُ الأهتمِ بأُرومته ، وأجداده الذين ورثَ عنهم مجداً () :

نمتني عُروقٌ من زُرارةَ للعلا مكارمُ يجعلْنَ الفتى في أُرومةٍ .

ومِنْ فَدَكيّ والأشدّ عُروقُ يَفاعٍ وبعضُ الوالدينَ دقيقُ .

ويسجل باعتزاز كبير فخره بقومه ، ويشيدُ ببذلهم () :

إنّا بنو منقر قومٌ ذوو حَسَبٍ جُرثومةٌ أُنُفٌ يعتفُّ مقترها والبذلُ من مُعْدَميها إنْ أَلَمَّ بها .

فينا سَراةُ بني سَعْدٍ وناديها عن الخبيثِ ويعطي الخيرَ مُثريها حقٌّ ولا يشتكيها مَنْ يُناديها .

ويختالُ المّرارُ بنُ منقذٍ بانتمائه الذي يحفزه إلى المكرمات () :

أَنا من خندفَ في صُيّابها وليَ النّبعةُ من سُلاّفها .

حيثُ طابَ القِبْصُ منه وكثُرْ وليَ الهامةُ منها والكُبُرْ .

ويربط معاويةُ بنُ مالكٍ ، مُعوّدُ الحكماءِ ، نهوضَه بواجبه الاجتماعيّ بطيب الأصل ، وشرف الانتماء() :

إنّي امرؤٌ من عصبةٍ مشهورةٍ أَلْفَوْا أباهمْ سيّداً وأعانَهُمْ إذْ كلُّ حيٍّ نابتٍ بأرومةٍ .

حُشُدٍ لهم مَجْدٌ أشمُّ تليدُ كَرَمٌ وأعمامٌ لهم وجُدودُ نَبْتَ العِضاهِ فماجدٌ وكَسيدُ .

ويصرح بأن طيبَ الأصلِ يدفعه للنهوض بمسؤولياته تجاه عشيرته () :

وإذا تحمّلنا العشيرةُ ثِقْلَها .

قُمْنا بهِ وإذا تعودُ نعودُ .

ويعتزّ زهيرُ بنُ مسعودٍ الضبيُّ بقومه ، ويفخر بقيمهم الأخلاقية ، فلا يعدلهم عنده أحدٌ : لا يقولون الخنا ، ولا يفعلون السّوءَ ، وهمْ من أصل عريق ، وأرومة طيّبة ، يكرمون الضّيف ، وَيُقرونه في أشدّ الأوقات ضيقا وضَنَكا ، لمّا تجدب الأرض ، ويعمّ الفقر . وهم فرسان اللّقاء ، وأبطالُ الميدان. وهم أهل جود وعطاء ، لا يمنعون المال سائله ، ويرعَوْن وشائج القربى ، وأواصر النّسب ، رأيُهم سديد ، وقولُهم رشيد () :

إنّ بني ضبّة قومي فلن قولُهُمُ برٌّ وجاراتُهم حجرٌ ينمي بهم آباؤهم للعلا ويحمَدُ العافي قِراهم إذا .

أشريَهم ما حنّتِ النّيبُ فلا هُجْرٌ ولا حوبُ ونِسْوَةٌ بيضٌ مَناجيبُ ما لم يكنْ في الحيّ مَحْلوبُ .

ويزهو عمروُ بنُ الاطنابةِ بقومه ، ويشيدُ بقيمهم الإنسانية ، فهو من قوم لو ذهبوا إلى محافلهم وأنديتهم أبرّوا وأعطوا السّائل ، قبل أن يلتفتوا إلى أنفسهم ، خلطوا الغني بالفقير ، وذلك موقف اجتماعي لا ترقى إليه إلاّ النفوسُ السّمحةُ المتحابّةُ . وقومه مثال للقوة والرّفعة ، وهم أبطال الوغى ، ليس من شيمهم التراجعُ ، ولا التهوّرُ في مواطنِ الحروب ، وقولهم فصل () :

إنّي من القوم الذين إذا انتدوْا والمانعينَ من الخنا جيرانَهُمْ والخالطين غنيَّهمْ بفقيرهمْ ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا والقائلين فلا يُعاب خطيبُهمْ .

بدأوا بحقّ اللهِ ثم النائلِ والحاشدينَ على طعام النازلِ والباذلينَ عطاءَهم للسّائلِ ما الحربُ شَبّت أشعلوا بالشّاعلِ يومَ المقالةِ بالكلامِ الفاصلِ .

ويشيدُ سلامةُ بنُ جندلٍ بقومه ، بني سعدٍ ، الذين يَشْرُفونَ بالانتساب إلى تميم . فقد غدتْ بيوتُهمْ ملاذاً لكلّ ذليلٍ ، ومأوى لكل فقير () :

إنّي وجدتُ بني سعدٍ يفضّلهم إلى تميمٍ حماةِ العِزّ نسبتُهُمْ قومٌ إذا صرّحَتْ كَحْلٌ بيوتُهُمُ .

كلُّ شهابٍ على الأعداء مشبوبِ وكلُّ ذي حَسَبٍ في النّاس منسوبِ عِزُّ الذّليلِ ومأوى كلّ قُرضوبِ .

وقد فرض شعور الانتماء على الشّاعر الجاهليّ أن يفاخر بقومه ، ويباهيَ بهم أمام القبائل الأخرى ، ويجعلَهمْ فوق النّاس ، لما يتمتّعون به من عفّة ، ووفاء ، وشجاعة ، وقوْلٍ فَصْل في الخطاب . وهذا ما يطالعنا في نشيد مَعْن بن أوس () :

مزينةُ قومي إنْ سألتَ فإنّهم ولو سِرْتَ حتى مطلعِ الشّمس لم تجدْ أعفُّ وأوفى بالصّباح فوارساً نقولُ فَيُرضى قولُنا ونعينه .

لهم عزّةٌ لا تستطيع لها نقلا لقومٍ على قومي - وإن كرموا - فضلا إذا الخيلُ جالتْ في أعنّتها قُبْلا ونحن أناسٌ نحسنُ القيلَ والعقلا .

ويباهي ربيعةُ بنُ مقرومٍ الضَبيُّ الناسَ بقومه ، ويشيد ببطولتهم الاجتماعيّة والحربية ، ويعزف هذه الألحانَ باعتزاز كبير () :

وقومي فإنْ أنتَ كذّبتني أليسوا الذين إذا أزمةٌ يُهينونَ في الحقّ أموالَهمْ طوالُ الرّماحِ غداةَ الصّباحِ .

بقوليَ فاسألْ بقومي عليما أَلَحّتْ على النّاس تُنسي الحُلوما إذا اللَّزِباتُ الْتحيْنَ المُسيما ذوو نجدةٍ يمنعون الحَريما .

ويشتدّ زَهْوُ حسانَ بنِ ثابتٍ بقومه زَهْواً يُخْرجه عن حدود اللّياقة في معرِضِ فخره بفضْلِ قومه على الإسلام ، ثم تهدأ نفسُهُ ، فيذكر فضل الله عليهم ، لكنّه سَرْعانَ ما ينقلبُ مسرعاً إلى الفخر بالأنساب ، والتغنّي بكريم المآثرِ والفِعالِ ، ويجعل قومه خَيْرَ قوم ، بل يجعلهم أهلاً لكلّ خير () :

وكنّا مُلوكَ النّاس قبلَ محمدٍ وأكرمنَا اللهُ الذي ليسَ غيرَهُ بنصْرِ الإلهِ والنّبيّ ودينه أولئك قومي خيرُ قومٍ بأسْرِهِمْ .

فلمّا أتى الإسلامُ كانَ لنا الفضلُ إلهٌ بأيام مَضَتْ ما لها شَكْلُ وأكرمَنا باسمٍ مَضى ما له مِثْلُ فما عُدّ مِنْ خيرٍ فقوْمي له أهلُ .

وقد أدّى شعور الشّاعر بشرف الانتماء إلى أن يعلن تعلّقه الشّديد بقومه ، على نحو ما يصوّره المتلمّس في قوله () :

تعيّرني أُمّي رجالٌ ولن ترى ومَنْ يَكُ ذا عِرْضٍ كريمٍ فلم يَصُنْ أمنتفلاً مِنْ نَصْرِ بُهْثَةَ خِلْتَني ألا إنّني منهم وعِرضي عرضُهُمْ .

أخا كَرَم إلاّ بأن يتكرّما لَهُ حَسَباً كان اللّئيمَ المذمّما ألا إِنّني منهم وإنْ كنتُ أيْنَما كذي الأنفِ يحمي أنْفَهُ أن يُصلّما .

فهو معنيّ بتَقديم الولاء للقبيلة ، لأنه لا يستطيع البُعْدَ عن ذاته ، إلاّ كما يبتعد الطّفل عن أمّه ، ولذا عاتب أخواله قائلاً () :

فلو غيرُ أخوالي أرادوا نقيصتي وما كنتُ إلاّ مْثلَ قاطعِ كفّهِ فلما استقادَ الكفَّ بالكَفّ لم يجدْ يداهُ أصابتْ هذه حَتْفَ هذه فأطرقَ إطراقَ الشّجاع ولوْ يرى إذا لم يزلْ حبْلُ القرينيْنِ يلتوي إذا ما أديمُ القومِ أنهجه البِلى .

جعلتُ لهمْ فوقَ العرانين ميْسَما بكفّ لها أخرى فأصبحَ أَجذَما له دَرَكاً في أنْ تَبينا فأحجما فلم تجدِ الأخرى عليها مقدّما مساغاً لِنابَيْه الشّجاعُ لَصَمّما فلا بدّ يوماً للقُوى أن تُجذّما تفرّى ولو كتّبتَهُ وتخرّما .

فالشّاعر المتلمّس يقول أحسن ما عنْده ، ويفعل أحسن ما يمكنه فعله من أجل تماسك بني قومه، لأن تماسكهم مظهر قوّتهم ، وقوام وجودهم .

وقد استوحى الشّاعر من هذا الوضع المرير ما يمسّ شغاف القلوب ، ويفتح مغاليق البطولة ؛ فلا شيء يجعل قومه يتعلّقون بأحلام التوحّد أكثر من هذه الصورة الحسيّة ، وخاصّة ما يمثّل تصدّع القوم بتشظّي الجسد الإنساني ، أو تقطيع أوصاله من ذوي لحمته ونسبه .

وصوّر نهشلُ بنُ حرّي النهشليُّ علاقته بقومه ، بأنّها علاقة وُدّ ونُصْح ، قال () :

فإنّي وقومي إنْ رجعتُ إليهم لَوَيْتُ لهم في الصّدر منّي محبّةً .

كذي العِلْق آلى لا ينولُ ولا يشري وودّاً كما تُلْوى اليدانِ إلى النّحْرِ .

لقد نهل الشّاعر الجاهليّ من حُبّ قبيلته حتى غدا لا يلهج إلاّ بذكرها ، وفي كثير من الأحيان لم يكن يرى في قبيلته إلاّ نموذجاً مثالياً للكمال والرّفعة والسّؤدد ؛ فإذا هو ينحت لها تمثالاً بديعاً يجمع فيه كلّ القيم والفضائل .

وليس أدلّ على ذلك الحبّ من معلقة عمرو بن كلثوم ، التي لم يَدَعْ فيها فضيلة من الفضائل إلاّ جعلها لصيقة بقومه بني تغلب ، ولا صفةً من صفات البطولة إلاّ أسبغها عليهم ، ولم يكتفِ بذلك بل تضخّمتْ في نفسه تلك الفضائلُ والصّفاتُ حتى فاضتْ في قوله () :

لنا الدّنيا ومَنْ أضحى عليها إذا بلغَ الفطامَ لنا صَبيٌّ مَلأْنا البَرَّ حتى ضاقَ عنّا .

ونبطشُ حين نبطشُ قادرينا تخرّ له الجبابرُ ساجدينا وماءَ البحرِ نملؤه سفينا .

إِنّ نفْسَ الشّاعر قد امتلأتْ بعظمة القبيلة حتى ذابتْ فيها ذوباناً تامّا ، فلم تَعُدْ تعبّر إلاّ بلسانها، وغابتْ "أنا" الشّاعر ، لتحلّ محلّها "نحن" القبيلة، وظهر ذلك واضحاً في إِسناد الأفعال إلى ضمير "أنا" الدالِّ على الجماعة ، أو إضافةِ الأسماءِ إلى ضمير الجماعة ، وقد ورد ضميرُ "أنا" في معلقته نحو ثمانين مرّةً ، ممّا يؤكّدُ حقيقة انْدماج ذات الشّاعر بذات القبيلة ، "التي كانت تملأ الزمان والمكان () ".

وَيَلْحَظُ قارئُ الشّعر الجاهليّ هذه الظاهرةَ بوضوح عند شعراءِ القبائِل الذين اندمجتْ ذواتُهم بذواتِ قبائلهم ، وانصهرتْ في كيانها الاجتماعيّ . فها هو الحادرةُ الذبيانيُّ يعزف أمامَ صاحبتهِ سُمَيّةَ أجملَ ألحانِ الفخرِ القبليّ ، ويُسبغ على قبيلته قيمَ الوفاء للحليف ، والجود ، والشّجاعة ، والاستقرار بالوطن ، وعدم الرّحيل عنه مسرعين إلى الأماكن الخصبة () :

أسُمَيَّ وَيْحَكِ هلْ سَمِعْتِ بغَدْرَةٍ إِنّا نعفّ فلا نُريبُ حليفَنا ونقي بآمنِ مالِنا أَحْسابَنا ونخوضُ غمرةَ كلِّ يومِ كريهةٍ ونُقيمُ في دارِ الحفاظِ بيوتَنا .

رُفِعَ اللّواءُ لَنا بها في مَجْمَعِ ونكفُّ شُحّ نفوسِنا في المطمعِ ونُجرُّ في الهَيْجا الرّماحَ وندّعي تُرْدي النّفوسَ وغُنْمُها للأشجع زَمناً ويظعن غيرُنا للأمرَعِ .

ونهج عامرٌ المحاربيُّ نهجاً مماثلاً نَحْوَ قبيلته ، فقد دفعه ولاؤُهُ لها ، وانتماؤُهُ إليها ، والتزامُهُ بقضاياها - إلى رَفْعِها إلى مكانةٍ عاليةٍ من الشجاعة في القتال ، وإلى الذِّرْوَةِ الشّامخة من السّيادة والمهابة () :

أولئكَ قومي إنْ يَلُذ ببيوتهم وكم فيهمُ مِنْ سيّدٍ ذي مَهابةٍ لنا العزّةُ القعساءُ نختطمُ العدى .

أَخو حَدَثٍ يوماً فلنْ يُتهضّما يُهابُ إذا ما رائدُ الحربِ أَضْرَما بها ثمّ نستعصي بها أنْ نُخَطّما .

إِنّ علاقة الفرد بالقبيلة في المجتمع الجاهليّ علاقة عضوية ، فكلاهما غير مستغنٍ عن الآخر ، يقوى بقوّته ، ويضعف بضعفه ، ولكن تظلّ القبيلة "قاعدة يستند إليها توازن الشخصية ، ومن ثمّ فإنّ أي اختلال يصيب القاعدةَ يصيب توازن الشخصية بخلل عميق () " .

ويعتمد توازنُ هذه العلاقةِ وصلابتُها وديمومَتُها على قُدْرة الفرد على تعاونه مع الآخرين ، وتعاون الآخرين معه ، وعلى قدرته على التوفيق بين "الأنا" و "النحن" . وقد تضعف هذه العلاقةُ في نفْس الفرد أحياناً ، إلاّ أنّ الحرص على القبيلة ، والنهوضَ بالواجب تجاهها ، وتأدية الحقوق إليها ، يظلّ هاجس الشّاعر ، على نحو ما يصوّر ذلك الأسودُ بنُ يعفرَ النّهشليُّ في قوله () :

فأدِّ حُقوقَ قومِكَ واجْتَنبهُمْ .

ولا يطمعْ بِكَ الغِرُّ الفطيرُ .

وليتجنّب المرءُ طمعَ الأغرار به ، عليه أن يَبْقى بجانب قبيلته ، مُلْتصقاً بها ، ذائداً عنها ، لتذودَ عنه ، وتدفعَ عنه الأخطار . لذا كان الحرصُ على القبيلة من وصايا الآباءِ للأبناء ، على نحوِ ما يصوّر هذا كعبُ بنُ زهيرٍ في قوله () :

وبالعَفْوِ وَصّاني أبي وعشيرتي وقومَكَ فاسْتبقِِ المودّةَ فيهمُ .

وبالدّفعِ عنها في أمورٍ تُريبها ونَفْسَكَ جنّبْها الذي قدْ يَعيبُها .

وكانت العلاقة بين الشّاعر الجاهليّ وقبيلته تحكمها قيمٌ نفسيةٌ وأخلاقيةٌ ، فهو عضو في قبيلة ، علّقتْ عليه آمالها ، فلا بدّ من أن يهبها فكره وفنّه ، ويسخّرهما للدفاع عنها ، لأنّه أملُها المنشود . وقدّر الشّاعرُ موقعه في قبيلته ، وموقعَ قبيلته في قلبه ووجدانه ، فلم يخيّب رجاءها ، ولم يبدّد آمالها ، فتبنّى قضاياها ، ودافع عنها ما وسعه الدّفاع . وقد عبّر الشّاعر الجاهليّ - في شعره - عمّا كان يدور حولَه ، فجاء شعرُهُ مترجماً لأحاسيسه ومشاعره ، وانفعالاته ، وسجّل في شعره أعلى درجات الولاء والانتماء للقبيلة .

لقد كان لدى الشّاعر الجاهليّ إحساسٌ عميقٌ بأنه ينهض بمسؤولية جسيمة ، فافتخر بقبيلته ، وأشاد بها ، ورفعها إلى أعلى درجات المجْد ، ووقفَ في وجه خصومها ، وهجا أعداءها ، وحمل السّيْفَ وشارك في حروبها ، ووصف معاركها ، وأشاد ببطولات رجالاتها وأبطالها ، وتوعّد أعداءها، ورثى قتلاها ، وبثّ أناشيدَ الانتقامِ للأخذ بالثأر لأبنائها .

وكان للشّاعر حضورٌ مميّزٌ ، ودورٌ فاعلٌ في تصريف سياسة القبيلة الخارجية والداخلية ، لِما عُرف به من نُضْجِ الفكرِ ، وسدادِ الرّأي ، وحصافة التفكير . فكان رَجُلَ الأزمات الطارئة ، تلجأ إليه القبيلةُ ، وتوفده إلى الممالك أو القبائل المجاورة ليمثّلها ، ويعرضَ وجهة نظرها ، فكان بصنيعه هذا أشبه ما يكون بوزير الخارجية الذي يدير سياسة دولته الخارجية ، ويرعى مصالحها لدى الدول الأخرى .

وفي الحياة الاجتماعيّة أبدى الشّاعر الجاهليّ انتماءً عالياً لمنظومة القيم الأخلاقيّة ، التي كانت القبيلة تتمسّك بها . وكان يدعو لتطهير الأَخلاقِ ممّا يعلق بها من شوائب ، مبتدئاً بإصلاح نفسه وتهذيبها وصقْلها ؛ ليبدو أمام أبنائه وأسرته وقبيلته ومَنْ يجاورها من قبائلَ بمظهر الرّجل الكريم ، وليكون مَثَلاً أعلى وقدوة للآخرين . وأذاع الفضيلة ونشرها بين أبناء أسرته من خلال حرصه على تأديبهم ، وعمل على إشاعة هذه الأخلاق الفاضلة بين أبناء القبيلة جميعاً . لأن الأخلاق عامل مهمّ من عوامل تماسك القبيلة .

نظر الشّاعر الجاهليّ إلى الفن على أنه رسالة ، يجب على الفنان أن يناضل من أجلها ، محقّقاً بذلك فكرة الفن للمجتمع أصدق تمثيل () ، ولو أدّى ذلك إلى دخوله السّجن ، على نحوْ ما لقي ربيعةُ ابنُ مَقْرومٍ الضبيّ ، الذي حبسه كسرى في حصن المشقّر () . وقد واجه الشّاعر الجاهليّ القتْل أحياناً - في سبيل القبيلة - على نحو ما واجه طَرَفَةُ ، الذي دفع حياته ثمن انتمائه العربيّ ؛ إذ كان على رأس كتيبة يوم خَراز ، وحارب القحطانيين ، مما أثار حفيظة عمرو بن هند عليه ، وقتله -فيما بعد- في قصة يطول شرحها () . ودفع لَقيطُ بنُ يَعْمُرَ الإياديّ حياته ثمن مواقفه القوميّة ، فقد قطع كسرى لسانه ، وقتله - كما سيردُ تفصيل ذلك () - لأنّه رأى فيه بداية لظهور وَعْي قوميّ .

وكانت القبائل تكرّم شعراءها - ممّن تركوا أثراً بيّناً في حياة القبيلة الاجتماعيّة - وتضفي عليهم سماتِ التّقديس 0 فمن ذلك أنّ بني عامر بن صعصعة قدّسوا قبر عامر بن الطّفيل بعد موته ، ونصبوا أنصاباً ميلاً في ميل ، حمى على قبره ، لا تنشر فيه ماشية ولا يُرعى ، ولا يسلكه ماشٍ ولا راكبٌ () . وكان جبّار بن سلمى بن عامر بن مالك بن جعفر غائباً ، فلمّا قدم قال () :

ما هذه الأنصاب ؟

قالوا : نصبناها حمى لقبر عامر بن الطّفيل .

فقال : ضيّقتم على أبي عليّ ، إنّ أبا عليّ بانَ من النّاس بثلاث : كان لا يعطش حتى يعطش الجمل ، وكان لا يضلّ حتى يضلّ النجم ، وكان لا يجبن حتى يجبن السّيل .

ونحن نعلم - ممّا أوردته الرّوايات - أنّ "الحمى" لا يكون إلاّ لإلهٍ أو قدّيس ، وهو في حقيقته وأصله مساحة من الأرض يكون في وسطها الإله أو المعبود ، ثم يكون فوقه المعبد أو البيت ، كالحمى الذي بنتْه غطفان في الجاهليّة ، يضاهون به بيتَ قريش () ،وكحمى الإله الذي اتخذه كليب ابن ربيعة ، فمنع ناقة البسوس التي يقال لها "السّراب" من الدّخول إليه () .

ومثل هذا الموقف يتكرّر عند قبر النّجاشي ، حين وقف رجل فترحّم له ، وقال () :

"لولا أنّ القول لا يحيط بما فيك ، والوصف يقصر دونَكَ ، لأطنبتُ بل لأسهبْتُ ، ثمّ عقر ناقته على قبره ، وقال () :

عَقَرْتُ على قبر النّجاشيّ ناقتي على قبرِ مَنْ لوْ أنّني مُتُّ قبلَهُ .

بأبيضَ عَضْبٍ أخلصتْهُ صَياقلُهْ لهانَتْ عليه عند قبري رواحلُهْ .

وممّن كان يعقر على قبورهم () - أيضاً - الشّاعر ربيعة بن مُكدّم ، فقد مرّ حسّان بن ثابت على قبره ، فنفرتْ ناقته ، فوقف على القبر يرثيه ، ويعتذر عن عدم عقره ناقته بطول سَفَره () :

لا يبعدَنّ ربيعةُ بنُ مُكَدّم نفرتْ قلوصي من حجارة حرّةٍ لا تنفري يا ناق منه فإنّه لولا السّفارُ وطولُ قفْر مَهْمَهٍ .

وسقى الغوادي قبرَه بذَنوبِ نُصبَتْ على طلْق اليديْن وَهوبِ شِرّيبُ خمرٍ مِسْعَرٌ لحروبِ لتركتُها تحبو على العُرْقوبِ .

فلمّا سمعتْ بشعره قبيلةُ ربيعةَ ، قالت : والله لَوْ عقَرها لسقْنا له ألفَ ناقةٍ سود الحدَق () .

ومن مظاهر تأثير هذه العادة في المجتمع الجاهليّ أنّها بقيت سائدة إلى العصر الإسلامي ، على الرّغم من أن الشّريعة الإسلامية قد حرّمتْها، على نحو ما نجد هذا التحريم في قول الرّسول - صلى الله عليه وسلم - :

"لا عقْر في الإسلام () " ، فقد عقر الفرزدق الشّاعر فرسه على قبر صديقه بشْر بن مروان والي العراق () .

2-أهميّة الشّعر في الحياة الاجتماعيّة وأثر الشّاعر في تلك الحياة :

لا تنقل لنا الأخبار أنّ نبوغ شاعر إسلامي أو عباسيّ أو حديث كان يثير صَدى جماعياً ، كالذي كان يثيره نبوغُ شاعر جاهليّ ، لأسباب لعلّ من أهمها أنّ الشّعر كان أنفذ وسيلة للدعاية والإعلام () ، إذ لم تكن هناك وسيلةٌ أبعدُ تأثيراً ، وأسهلُ ذيوعاً بين الناس ، وأسرعُ انتشاراً من شعر منغّم سهل الحفظ والرّواية () . فقد كان الشّاعر صحيفة قبيلته السياسية () ، والاجتماعية () ، وجهازها الإعلامي .

وإذا كانت الحياة العربية ضنينة بولادة البطل السّياسيّ المتميّز ، وذلك لوضوح العلاقات العامّة، وعدم بلوغ أسباب الحياة درجة التعقّد ، ولوجود رمز الوحدة الواقعي متمثلاً في الشّيخ الحصيف الذي آمنتِ القبيلةُ بقيادته ، وألقتْ إليه "بزمام النهوض بقيادتها وتوجيهها في حروبها ، وإكرام ضيفها ، وإعانة المعوز والضعيف من أبنائها ، والفصْل في الخصومات بين أفرادها ، واتّساع صدره لرأي كلّ فرد في القبيلة () ، فهناك الشّاعر صوت القبيلة المتميّز ، يملأ ساحة البطولة بالقيم الإنسانية الأصيلة ، ويندّد بكل قوّة تنزل بالإنسان بطشاً بوجوده ، وهدراً لكيانه . ومن هنا اكتسب الشّاعر في القبيلة مكانة أعلى وأهمّ من أيّ قائد أو زعيم . لقد كان الشّاعر هو القائد المعنوي () ، أو موجّه الوجدان القبلي ، وهو وضع قضتْ به ظروفُ الحياة في ذلك العهد ، ودفعتْ إليه حاجة القبيلة إلى قيادة جماعية وجدانية () تبثّ في أبنائها روح المودّة والنّجدة وإباء الضّيْم ، وتحدوهم في صراعهم من أجل الوجود والبقاء" .

لقد كان للشّاعر الجاهليّ تأثير واسع في مجرى الحياة اليوميّة ، وهذا ما أكّده الشّعراء الذين صوّروا تأثير أشعارهم الكبيرَ في الحياة العامّة ، وبقاء هذا الأثر لمدّة طويلة ، فالشّعر كان ينتشر - عصرئذ - في الآفاق انتشار الرّياح ، كما يبدو ذلك في قول المُسيّب بن عَلَس () :

فَلأهديَنّ مع الرّياح قصيدةً ترِدُ المياهَ فما تزالُ غريبةً .

منّي مغلغلةً إلى القعقاعِ في القوم بين تمثّل وسماعِ .

فالقصيدة كانت في ذلك العصر صورة الإعلام المتنقّل ، الذي كان يتوغّل إلى كلّ نَفْس ، وينفذ إلى كلّ غَوْر ، ويتسرّب إلى كلّ طرف من أطراف الجزيرة العربية ، أو أفق من آفاقها ، لينقل إليهم الكلمة الهادفة ، والصّورة الرّائدة ، والنّشيد البطوليّ ، والقيمة الأخلاقيّة . وهي (القصيدة) الأداة الطيّعة للنّشر ، والسّبيل اليسير للانتقال ، وهذا ما جعلها قناة إعلاميّة رائدة يمكن استخدامها في كل مجال .

وقد نهض الشّاعر الجاهليّ بدور جليل في توجيه الحياة اليومية ، التي قضتْ أن يكون للفنّ الشّعري مكانٌ مرموقٌ في الصّراع القبلي ، فقد كانوا - كما يقول أبو عمرو بن العلاء - يقدّمون الشّاعر على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشّعر ، الذي يقيّد عليهم مآثرهم ، ويفخّم من شأنهم ، ويهوّل على عدوهم ، ويهاجم شاعرَ غيرهم () . ومن هنا كان الشّعر ديوان العرب ، وسِجِلَّ فضائلها . يقول ابن سلاّم : "وكان الشّعر في الجاهلية ديوان علْمهم ، ومُنتهى حكمتهم ، به يأخذون ، وإليه يصيرون"().

وينقل عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قوله : "كان الشّعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه() " ، وفي هذا يقول الجاحظ : " فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضَرْب من الضّروب وشَكْل من الأشكال . وكانتِ العربُ في جاهليّتها تحتال في تخليدها بأنْ تعتمد في ذلك على الشّعر الموزون والكلام المقفّى ، وكان ذلك هو ديوانها () . وقال ابن قتيبة عن الشّعر : "إنّ الله جعله لعلوم العرب مستودعاً ، ولآدابها حافظاً ، ولأنسابها مقيّداً ، ولأخبارها ديواناً لا يرثُّ على الدهر، ولا يبيدُ على مرّ الزمان () " .

وبلغ من عناية القبائل بالشّعر أنّ بني تغلبَ كانوا يُعظّمون قصيدة عمرو بن كلثوم المعلّقةَ ، وكان يرويها صغارهم وكبارهم ، "وكأنّها النّشيد القوميّ للقبيلة ()" ، حتى عيّرهم بذلك أحدُ شعراءِ بكرِ بنِ وائل () :

أَلْهى بَني تغلبٍ عن كلّ مَكْرُمةٍ يَرْوونها أبداً مُذْ كانَ أوّلُهُمْ .

قصيدةٌ قالَها عمروُ بنُ كُلْثومِ يا لَلرّجالِ لِشعْرٍ غيرِ مَسْؤومِ .

وكان للشّعر أثر في نفوس العرب ، وبلغ من تقديرهم له أنْ علّقوا المعلّقاتِ بأستار الكعبة إجلالاً لها ، وتعظيماً لشأنها () .

ونهض الشّعر بدور عظيم في حياة المجتمع الجاهليّ ، فما أكْثَرَ ما رفع وضيعاً ووضَعَ عظيماً! وما أكثرَ ما أشعلَ حرباً ، أو وضعَ أوزارها ! وما أكثر ما هزّ النّفوسَ ، ودفعها إلى المحبّة وعمل الخير ، أو وجّهها نحو الشرّ والكراهية !

وممّا يدلّ على خطر الشّعر في نفوس العرب في العصر الجاهليّ ما قاله أبو عبيدة () :

"كان الرّجل من أَنْف النّاقة ، إِذا قيل له : ممّن الرّجل ؟ قال : مِنْ بني قُريع . فما هو إلاّ أنْ مدحهم الحطيئةُ بقوله :

قومٌ هُمُ الأَنْفُ والأذْنابُ غيرُهُمُ .

وَمَنْ يُسَوّي بأَنْفِ النّاقة الذّنبا ؟ .

فصار الرّجل منهم ، إذا قيل له : ممّن أنت ؟ قال : من بني أنف النّاقة .

وبلغ من تأثير الشّاعر في المجتمع أنْ كان يرفع من أقدار الناس ، ويحطّ منها ، فقد روي أن حسّانَ بنَ ثابتٍ هجا بني عبد المدان ، فتركهم يستحون ممّا يفتخرون به من طولهم وعِظَم جسومهم ، وذلك من قوله فيهم () :

حارِ بنَ كعبٍ ألا الأحلامُ تزجركمْ لا بَأْسَ بالقومِ مِنْ طُولٍ ومن عِظَمٍ .

عنّا وأنتمْ من الجُوفِ الجَماخيرِ جسْمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ .

وألقى بشعره إلى الصّبيةِ ، فحفظوه ، ووصل إلى أسماع بني الحارث ، فأتوْا حسّانَ قائلين : كُنّا نفخر بعظم جسومنا ، ونحن نستحي منها ، وتوسّلوا إليه أنْ يغسل عنهم ذلك العارَ ، فقال () :

وقد كُنّا نقولُ إذا رأيْنا كأنّك أيها المعطى بَياناً .

لذي جسمٍ يُعَدُّ وذي بيانِ وجسْماً من بني عبد المدانِ .

فجدَّدَ قولُهُ هذا لهم فخراً ، وأحيا ذكرا () .

ومن الشّعراء الذين رفعهم شعرهم بين النّاس مكانةً الحارثُ بنُ حلّزةَ اليشكريُّ بقصيدته التي فخر بها لبكْر على تغلبَ ، ومطلعها () :

آذنتنا بِبَيْنها أَسْماءُ .

رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثّواءُ .

والّتي أنشدها الملكَ عمروَ بنَ هند من وراء ستار ، لأن الحارث كان أبرصَ ، ولأنّ الملك كان لا ينظر إلى رجل به بَلاء ، ولمّا سمع القصيدة وسرّتْه، أَمَرَ برفع الحجاب بينه وبين الحارث ، ثم أقعده على طعامه ، وصيّره من سُمّاره () .

ومن خاملي الذّكر الذين رفعهم الشّعر المحلَّقُ الكلابيُّ ، وكان مئناثاً مُمْلقاً ، استضاف الأعشى الكبيرَ ، على رجاء أنْ يصيبه من مدحه خير ، ونحر له ناقته ، وبالغ في إكرامه … وأحاطتْ به بناتُهُ يخدمْنَهُ ، ويتلطّفْن به ، فقال : ما هذه الجواري حولي ؟ قال : بناتُ أخيك ، وَهُنّ ثمانٍ ، فغدا الأعشى على عُكاظ ، ينشد النّاس قصيدته التي مطلعها :

أرقْتُ وما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ .

وما بيَ من سُقَمٍ وما بيَ مَعْشَقُ .

إلى أنْ قال :

لَعَمْري لقدْ لاحَتْ عُيُونٌ كثيرةٌ تُشَبُّ لمقروريْنِ يَصْطَليانها .

إلى ضَوْءِ نارٍ باليَفاعِ تَحرَّقُ وباتَ على النّارِ النّدى والمحلَّقُ .

فما أتمّ القصيدة إلاّ والنّاسُ ينسلون إلى المحلَّق يهنّئونه ، والأشرافُ من كلّ قبيلة يتسابقون إليه جرْيا ، يخطبون بناتِهِ ، لمكان شعر الأعشى ، فلم تُمْسِ واحدةٌ منهنّ إلاّ في عِصْمَةِ رجلٍ خيْرٍ من أبيها أَلْفَ ضِعْف () .

وكان مَدْحُ الشمّاخ لعرّابةَ بنِ أوس سبباً في ارتفاعه ، وعلوّ شأنه ، وذيوع صيته . وكان الرّجل جواداً كريماً ، وسيّداً في قومه () ، مدحه الشمّاخُ بقصائدَ كثيرةٍ خلّد فيها ذكراه ، وأبقى ذكره حيّاً على الدّهر . فمدحه بكثير من الفضائل النفسيّة والإنسانيّة ، وممّا قاله () :

أنتَ الأميرُ الذي تحنو الرّؤوسَ له أنتَ المُجلِّي عن المكروبِ كَرْبَتَهُ والشّاعبُ الصَّدْعَ لا يُرجى تلاؤُمُهُ في بَيْتِ مَأْثُرةٍ عزٍّ ومَكْرُمَةٍ .

قَماقمُ القومِ من بَرّ وآفاقِ والفاتحُ الغُلَّ عنه بَعْدَ إيثاقِ والهَمَّ تفرِجُهُ من بَعْدِ إغلاقِ سَبّاقُ غاياتِ مَجْدٍ وابنُ سبّاقِ .

وما خلّد ذكرَ هرم بن سنان والحارث بن عوف شيءٌ كشعر زهيرٍ فيهما . وما أبقى على الدّهر ذكْر آل جَفْنة إلاّ ما قاله حسّان بن ثابت فيهم .

وما محاولة أبي سفيان ثني عزْم الأعشى عن الإسلام إلاّ إدراك منه لمكانة الشّاعر وتأثيره في الرّأي العام في المجتمع . فقد ورد في أخبار الأعشى أنّه لمّا سمع بالرّسول - صلى الله عليه وسلم - رغب في الوفود عليه بالمدينة ومديحه . فعلم أبو سفيان بذلك ، فجمع رجال قريش ، فقال لهم: "والله لئن أتى محمّداً وأتّبعه ليضرمنّ عليكم نيرانَ العرب بشعره ، فاجمعوا له مئة من الإبل ()". فتعرّضتْ له قريش تمنعه ، وعرضوا عليه الإبل ، وقال له أبو سفيانَ : إنّه - الرسول صلى الله عليه وسلّم - ينهاك عن خِلال ، كلّها بك رافق ، ولك موافق ، فلمّا سأله عنها ، أجابه : الزّنا ، والقّمار ، والخمر . فعدل الأعشى عن وجهته () .

إنّ هذا الجزع الذي أبدتْه قريش إنّما كان - في حقيقة الأمر - خوفاً من سلطان الشّعر ، وأنّ الأعشى لم يكن يعني قريشاً ، لولا أنه شاعر فذّ () .

ولأهميّة الشّعر في حياة المجتمع الجاهليّ عدّه عبْدُ قيس بن خُفاف البَرْجمي سلاحاً حادّاً ، فهدّد أعداءه قائلاً () :

فأصبحتُ أَعْدَدْتُ للنّائبا ووقْعَ لسانٍ كَحدّ السّنانِ .

تِ عِرضاً بَريئاً وعَضْباً صقيلا ورُمْحاً طويلَ القناةِ عسولا .

ونرى حسّان بن ثابت يدرك خطر الشّعر ، فيقدّم هذا السّلاح (الشّعر) على السّيف ، ويتوعّد أعداءه بأنه يبلغ بشعره ما لا يبلغه بسيفه () :

لساني وسيفي صارمان كلاهما .

ويبلغ ما لا يبلغ السّيفُ مذودي .

لقد كان سلاح الشّعر يُخيفُ العربيَّ ، وهذا ما دفعهم إلى أخذ المواثيق على الشّعراء إذا أسروهم ، وربّما عمدوا إلى شدّ ألْسنتهم بِنِسْعَةٍ ، كما صنع بنو تميم بعبد يغوث بن وقّاص الحارثي ، الذي وقع في أسْرهم يوم الكُلاب الثّاني ، وصوّر ما صنعوه به () :

أقولُ وقد شَدّوا لِساني بِنِسْعَة : .

أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلقوا عَنْ لسانيا .

وممّا يدلّ على مبلغ خطر الشّعر وصرامة سلاح اللّسان ما يروى عن أُمّ أوس بن حارثة ، حينما همّ ابنها بإحراق بشر بن أبي خازم - الذي أغراه فريق من قبيلة طيّء بهجاء أوس بن حارثة بدافع الحسد - بعد أن ظفر به ، قائلة : "أما تعلم منزلته في قومه ، أو ما تعلم أنّه هجاك في بني بدر؟ إنّك تحرق رجلاً هجاك ، إذاً فمن يمحو ما قال فيك ؟ فقال لها أَوس : فما أصنع به ؟ قالتْ : أرى أنْ تردّ عليه مالَهُ ، وتعفو عنه ، وتحبوه وتكرمه ، وأنا أفعلُ مثْل ذلك ، فإنّه لا يغسلُ عنك ما صنع غيرُه() " .

الفصل الأَوّل

الشّاعر الجاهليّ محور العلاقات القبليّة

المبحث الأوّل - دَوْرُ الشّاعر الجاهليّ في ترسيخ مفهوم الوطن والارتباط بالأرض:

شَهِدَ العصرُ الجاهليُّ مرحلة متطوّرة من العلاقة بين الإنسان والمكان الذي يعيش عليه ، وهي علاقة تدلّ على وَعْي اجتماعيّ بمكوّنات وجوده .

وقد تمثّل ذلك في اصْطلاح الجاهليين على وجود "حمى" لكل قبيلة ، سواءٌ أكانت من أهل المدَرِ (سكّان القرى) ، أم من أهل الوَبَرِ (سكان البوادي) .

إنّ مفهوم الوطن عند الإنسان الجاهليّ كان ضيّقاً ، فلم يتجاوز هذا المفهومُ (الحيَّ أو الحِمى) الذي يُقيم فيه الإنسان مع عشيرته أو قبيلته () .

لقد أبرز الشّعر الجاهليّ ظاهرة اختصاص كلّ جماعة بمكان محدّد تنتمي إليه ، وحين نتّجه صَوْبَ البَحْثِ عن وَطَنِ القبيلةِ في موضوعات الشّعر نجدُ في بائيّة الأخنس بنِ شهابٍ مفهوماً واضحاً، يحدّد مفهوم الوطن () :

لكلِّ أُناسٍ مِنْ مَعَدّ عِمارةٌ لُكَيْزٌ لها البَحْرانِ والسّيفُ كلُّهُ وبكرٌ لها ظَهْرُ العراقِ وإنْ تَشَأْ وصارتْ تميمٌ بَيْنَ قُفٍّ وَرَمْلَةٍ وكلبٌ لها خَبْتٌ فَرَملةُ عالجٍ وغسّانُ حَيٌّ عِزُّهم في سِواهُمُ وَبَهْراءُ حيٌّ قدْ عَلِمْنا مَكانَهُمْ وغارتْ إيادٌ في السّوادِ ودونَها .

عَرُوضٌ إليها يَلْجأون وجانبُ وإنْ يأتِها بَأْسٌ من الهنْدِ كارِبُ يَحُلْ دونَها من اليَمامةِ حاجبُ لها من حبالٍ منتأى وَمَذاهبُ إلى الحَرَّةِ الرَّجْلاءِ حَيْثُ تُحاربُ يُجالدُ عنهمْ مِقْنَبٌ وكتائِبُ لَهُمْ شَرَكٌ حَوْلَ الرّصافَةِ لاحبُ بَرازيقُ عُجْمٌ تبتغي مَنْ تُضاربُ .

إنّ معرفة الشّاعر الجاهليّ بكلّ شبر في أرضه العربية ، وارتباطه العاطفيّ بها ، "يدلّ على الأهميّة البالغة التي كانت لمواقع القبائل في نفوس أبنائها" () .

وينبغي أن نلاحظ أنّ حدود الوطن (الحمى) كانت واضحة معروفة على نحو ما يصوّر ذلك أبو عبيدةَ البكري () ، والهمذاني () ، في حديثهما عن منازل القبائل العدنانية واليمانية ، فقد حَدّدا تحديداً دقيقاً مواطن الكثرة المطلقة من القبائل .

إِنّ الاستقرار بالمكان لا يقتصر على أهل القرى المشهورة ، بل يتعدّاهم إلى كثير من أهل الوَبَرِ من سكان البوادي ، ومنهم بنو تميم ، وبنو أسد بن خزيمة ، وبنو طيّء . فهؤلاء من أرحاء العرب ، وقد سُمّيتْ بذلك ، لأنها "أحرزت دوراً ومياهاً لم يكن للعرب مثلها ، ولم تبرحْ أوطانها ، ودارتْ في دورها كالأرحاء على أقطابها ، إلاّ أنْ ينتجع بعضُها البُرَحاءَ ، وعام الجدْب ، وذلك قليل منهم ()" .

إنّ تملّك القبائل للأمكنة ، سواء أكانتْ تلك القبائلُ من أهل المدَرِ ، أم كانت منْ أهل الوَبَرِ يعني وجودَ أوطان قبليّة مستقلّة ، ضمن الإطار الجغرافيّ ، الذي تعيش فيه كلّ قبيلة ، ويعني شيوع الاستقرار السُكّاني في العصر الجاهليّ .

لقد تغنّى الشّاعر الجاهليّ بإِقامة قومه في "دار الحِفاظ" وتعلّقهم بها ، ودفاعهم عنها ، وهذا ما نجد له تعبيراً عند غير شاعرٍ من شعراء ذلك العصر ، قال الحادرة () :

ونقيمُ في دارِ الحِفاظِ بُيُوتَنا .

زَمَناً ويظْعَنُ غَيْرُنا للأَمْرَعِ .

فالحادرة يفخر بطول إقامة قومه في ديارهم ، فهم لا يُهرعون إلى البحث عن مكان مخصب ، إذا ما أصاب الجدب ديارهم ، والشّاعر يذمّ أولئك الذين يسرعون إلى ترك ديارهم . ووقف الأستاذ محمد النّويهي طويلاً عند هذا البيت ، ورأى "أن القبائل العربية بدأتْ تعرفُ الصّلة بأَرض الوطن ، وإعزازها على الرّغم ممّا يصيبُها في أوقات الضنك ()" .

لقد غدا الشّاعر الجاهليّ يفتخر بتشبث قومه بوطنهم ، وتعلّقهم بأرضهم ، على نحو ما نجد تعبير ذلك في قول خُراشة بن عمرو العبسي () :

فلا قَوْمَ إلاّ نحنُ خَيْرٌ سياسةً وأطولُ في دارِ الحفاظِ إقامةً .

وَخَيْرُ بقيّاتٍ بقين وأوّلا وأرْبطُ أحلاماً إذا البَقْلُ أجْهلا .

وأبدى الشّاعر الجاهليّ تمسّك الإنسان بالوطن على الرّغم من شُحّ الموارد وضيقها ، وافتخر عمروُ بنُ شأس بعدم تحوّل قومه عن وطنهم مهما كانتِ الشّدائد () :

نقيمُ بدارِ الحزْمِ لَيْسَ مُزيلَنا .

مُقاساتُنا فيها الشّصائصَ والأزْلا .

إنّ استقراء الشّعر الجاهليّ يدلّ دلالة قاطعة على ارتباط العربي - في العصر الجاهليّ - بأرضه ، وتعلّقه بموطنه ، سواءٌ أكان من سكان القرى ، أم كان من سكان البوادي .

وأمّا ما يُشاعُ في بعض كتب تأريخ الأدب العربي من أنّ العرب في العصر الجاهليّ والبدو خاصّة ما كان لهم مقام بأرض () ، وكانوا يعيشون حياة غير مستقرّة ، فهُمْ ينتقلون إلى الأماكن الخصبة، التي يتوافر فيها الكلأ والماء ، فإذا جفّتْ بقعة انتجعوا الكلأ والماء في بقعة أخرى ، لا يقرّ لهم قرار ، ولا يهدأ لهم بال ، فهُمْ على سفَر دائم ، وارتحال مستمرّ () - فتلك دعوى باطلة .

وليس بصحيح - أيضاً - أنّ إقامة البدوي في المكان مرتبطة بالماء والمرعى، "فإذا أعوزاه طوى وطنه ، وأودعه ظهر راحلته ، وجلس فوقه ، وظعن إلى حيث يصفو له العيش ، ويطيب له المقام () " .

لقد أرسى الشّاعر الجاهليّ مفهوم الوطن ، ورسّخ مفهوم الارتباط بالأرض ، وعمّق مفهوم التعلّق بالمكان في نفوس أبناء المجتمع ووجدانهم ، خلافاً لما انتهى إليه بعض الدّارسين من أنّ فكرة الوطن لم يكن لها حضور في الشّعر القديم ، وأنّ هذا المفهومَ السّياسي بدأ يظهر في هذا العصر () .

واعتمد الشّاعر الجاهليّ في ترسيخ هذا المفهوم الحضاريّ في وُجْدان المجتمع وفكْرِهِ على مستويات مختلفة من التعبير :

1- إيراد لفظة "وطن" بصيغة الجمع "أوطان" . وقد وردتْ هذه اللّفظةُ في الشّعر الجاهليّ بدلالات مختلفة . فهي في بَدْء استعمالها في اللغة وردتْ بمعنى أوطان الإبل وديارها () ، كما يبدو ذلك في قول امرئ القيس () :

يُذكّرها أوطانَها تلُّ ماسحٍ .

منازلُها من بَرْبعيصَ ومَيْسَرا .

وقولِ مهلهلٍ في رثاء أخيه كُليْبٍ () :

وحادتْ ناقتي عن ظلّ قبرٍ لدى أوطانِ أروعَ لم يشنْه .

ثوى فيه المكارمُ والفخارُ ولم يحدثْ له في النّاسِ عارُ .

وقول دَوْسَرُ بنُ ذُهلٍ القُريعي () :

وَحَنّتْ قلوصى من عَدانَ إلى نجدِ .

ولم يُنْسِها أوطانَها قِدَمُ العَهْدِ .

وقولِ أبي الطّمحان القَيْني () :

أَلا حنّتِ المِرْقالُ وائتبّ ربُّها .

تذكّرُ أوطاناً وأذكر معشري .

ومعروف أن امرأ القيس ومهلهلاً كانا من أوائل الشّعراء ، وأن كلمة "أوطان" التي وردتْ في شعرهما قد طرأ عليها تطوّر دلاليّ بعد عصرهما (عصرِ حرب البَسوس) . ولا نكاد نصل إلى عصر عنترةَ العبسيِّ : عصرِ داحسَ والغَبْراءِ ، حتى نجدَ كلمةَ "أوطان" يصيبها تطوّر دلاليّ ، وتنصرف لدلالة جديدة ، ويُكسبها عنترة معنى جديداً ، هو ديار الإنسان وأوطانه ، ويبدو هذا واضحاً في قوله():

أَحْرَقتْني نارُ الجَوى والبعادِ شابَ رأسي فصارَ أبيض لوْناً .

بَعْدَ فَقْدِ الأوطانِ والأولادِ بَعْدَ ما كان حالكاً كالسّوادِ .

وقول زاملِ بنِ غُفَيْر الطائي () :

غيْرَ أنّ الأوطانَ يجتذبُ المرْ ليس يستعذبُ الغريبُ مقاما .

ءَ إليها الهوى وإنْ عاشَ كَدّا في سوى أرضِهِ وإِنْ نالَ جَدّا .

وأمّا المزرّد بن ضرار فقد ذكر صراحة أنّ الحنين إلى الوطن شعور ملازم للأحياء ، لأنّه ينبثق من المشاعر الإنسانيّة ، مهما تباعدت الدّيار () .

2- ايراد لفظة "أرض" ، وهي توازي كلمة وطن في الفكر السّياسي المعاصر ، إذ يكثر دورانُ هذه اللفظةِ في أدبنا الحديث للدّلالة على المفهوم ذاته ، الذي قصده الشّاعر الجاهليّ .

لقد أظهر الشّاعر الجاهليّ ارتباطه بأرضه وتعلّقه بها ، مُعْطياً هذه المفردةَ بُعْداً حضارياً ، على نحو ما يُطالعنا هذا المفهومُ في قول كعبِ بنِ زهير () :

تقولُ ابْنتي ألْهى أبي حُبُّ أرضه .

وأعجبَهُ إِلْفٌ لَها ولُزومُها .

وقولِ النابغة () :

إِنّا أُناسٌ لاحقونَ بأرضنا .

فالْحقْ بأصلكَ خارجَ بن سِنانِ .

وقولِ الأخنسِ بنِ شهابٍ التغلبيّ () :

ونحن أُناسٌ لا حِجازَ بأرْضِنا .

مَعَ الغَيْثِ ما نُلقى ومَنْ هُوَ غالبُ .

وقولِ لبيد بن ربيعةَ () :

بكتْنا أرضُنا لمّا ظعنّا .

وحيّتنا سُفَيْرَةُ والغَيَامُ .

وقولِ عمروِ بنِ قميئةَ ، الذي ظلّ قلبُه معلّقاً بهوى الوطن ، وهو في أرض الروم () :

قَدْ سألتْني بِنْتُ عمروٍ عن الـ لمّا رأتْ ساتيدَ ما استعبدتْ تذكّرتْ أرْضاً بها أهلُها .

أرضِ التي تُنكَرُ أعْلامُها لله درّ اليومَ مَنْ لامَها أخوالُها فيها وأعمامُها .

أمّا أُميّة بنُ أبي الصّلْت فيوضّح العلاقة النفسية ، التي تربطه بالأرض ، وذلك في قوله () :

والأرضُ معقلُنا وكانت أُمّنا .

فيها مقابرُنا وفيها نولَدُ .

وتردّ وجيهةُ بنت أوس الضبيّة على مَنْ هبّت بليل تلومها على شوقها إلى أرض عشيرتها بقولها () :

وعاذلةٍ هبّتْ بليلٍ تلومُني فما ليَ إن أحببْتُ أرضَ عشيرتي .

على الشّوْقِ لم تَمْحُ الصّبابة من قلبي وأبغضتُ طرفاء القبيصة من ذَنْبِ .

3- إِيراد لفظة "بلادنا" للدّلالة على المكان الذي تتملّكه القبيلةُ ، وتقيم فيه ، قال حسّانُ بنُ ثابتٍ () :

لعمرُكَ ما المعترّ يأتي بلادنا .

لِنَمنعهُ بالضّائع المتهَضَّمِ .

وقال أوسُ بنُ حجر () :

لنا مَرْجَمٌ نَنْفي به عن بلادِنا .

وكلُّ تميمٍ يرجمونَ بمرْجَم .

وقال لبيدُ بنُ ربيعةَ مفتخراً بإجلاء طيّء عن بلاده () :

ونحنُ أزلْنا طيّئا عن بلادِنا .

وحِلْفَ مُرادٍ من مذانبَ تَحْتَما .

وقال زهيرٌ مخاطباً بني تميم ، وكان قد بلغَهُ أَنّهم يريدون غزو غطفان ، فنهاهم عن ذلك ، ووجّه نهيه لهم في حكمة بليغة () :

فَقَرّي في بلادكِ إنّ قوماً .

متى يَدَعوا بلادَهُمُ يَهونوا .

وحُبُّ الوطن غريزة راسخة في النَّفْس الإنسانية ، تُوجب على الإنسان الدّفاع عن الوطن ، والذّوْد عن شرفه ، لذا وجدنا انتماء العربي للمكان الذي يعيش فيه انتماءً واعياً ، فقد كان لكل قبيلة "حمى" تقيم فيه ، وحمى القبيلة وطنها ، لذا فخر الشّاعر الجاهليّ بالدّفاع عنه ، وعمّق هذا المفهومَ الحضاريَّ ورسّخه في وُجدان المجتمع بشعر ينتشر بين الناس ، مثلما تنتشر الصّحف السيّارة في أيامنا هذه . وفي هذا يقول أوس بن حجر () :

نُبيحُ حِمى ذي العِزِّ حين نريدهُ .

ونَحْمي حِمانا بالوشيج المقوّمِ .

وافتخر شريحُ بنُ الحارثِ اليربوعي بقوة قومه ، بني يربوع ، وقدرتهم على الدفاع عن حماهم، قال () :

حِمانا حمى الأُسد التي لشُبوبها ونرعى حمى الأقوامِ غير محرّمٍ .

تجرّ من الأقرانِ لحما على لَحْمِ علينا ولا يُرعى حمانا الذي نحمي .

وقال معقل بن وهب الضبّي () :

إنّا مَنَعْنا حِمانا أنْ يُحَلَّ بهِ .

والشرّ والعوْد أحْمَتْ ظهرَهُ مُضَرُ .

وتعدّدتْ بواعثُ الفخر بالوطن في الشّعر الجاهليّ ، فهذا حَرْبُ بنُ أميّة يفتخرُ بتوفّر الأمن في مكّة ، ويوجّه دعوة لصديقه أبي مطر الحضرميّ ، يُغريه بالعيش فيها ، إذ كانت حياة أ�