44

6112

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: 6112
Page 2: 6112

- ٢ -

لل

هــــــهمع

مع قــقبــب

اتــــــات

אא

Page 3: 6112

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 6112

- ٣ -

- ٧ -.................................................................................روح هائـــــم

- ٩ -.............................................................................................الخروج

- ٢٠ -............................................................................................الواحة

- ٤١ -...........................................................................................الخروج

- ٤٢ -............................................................................................امتنان

- ٤٣ -...........................................................................................المؤلف

Page 5: 6112

- ٤ -

إلـيإلـي

حبيبيحبيبي

صلي اهللا عليه وسلمصلي اهللا عليه وسلم

Page 6: 6112

- ٥ -

ات لهقبن معن ميه بيدي منفظونه خلفه وحي ر منالله أم إن ريغ ال اللها يم محتى بقو

}١١{وال من دونه من لهم وما له مرد فال سوءا بقوم الله أراد وإذا بأنفسهم ما يغيروا

الرعــدالرعــد سورةسورة

Page 7: 6112

- ٦ -

Page 8: 6112

- ٧ -

روح هائـــــمروح هائـــــم

ـ ج و حنانبع قبلة علي جبين أوالده ب ، ط اليومي الطويل طقسه استغرق في يهم ذب عل

مـشمع الخيـام، لـم يـنس رزمـة أوراق في صرة من الضرورية، حاجاتهمع ج ،لحافال

وقصاصات صحف قديمة لخطب وأشعار وصور لزعماء مشهورين، لفها بعناية شـديدة فـي

وتوجه آخرهما فتح ضلفتيه عن ،باب البيت بوقف طويال ورقة ثم وضعها في كيس بالستيك،

لذي في السماء، تقدس اسمك في السماء واألرض،كما رحمتـك ربنا ا : " بعينين مبتهلتين للسماء

"..ربي في السماء فاجعل رحمتك في األرض، أنت رب الطيبين وأنت

قطرات معلقة من أرجلها مثل خفافيش ميتة فوق األشجار الجافة، العصافير ائم،ن الكون

قـال بـاهظ؛ قلق قه رفلتت دمعة واحدة، أ أ انتابه حدس غامض ورغبة في البكاء، ،يابسةالندي

.هواء فاسد: تيقظوهو يفرك عينيه بيدين نائمتين بعد ليال من السهد المريض والنوم المنفسه ل

شواق تحرق ألا ،"نسانإل هي السبيل المفضلة عند اهللا لمخاطبة ا األحالم"؛ نفض رأسه

،يانعات ساءوناشتهاءات وهمية من فاكهة المرء فيخلقسنان أل يخلو الفم من ا تجف،والمنابع

.! أشياء كانت طوع بنانهيبكي ويصاب بغثيان،ف لحقيقة المرعبة؛ يكتشف اأنما يلبث

طاف جوانب البيـت، من الشاي، وكوبا ا صغير خبزرغيف ، تناول ة بخطوات وئيد دخل

تقوده أشواق داخلية عميقة الخالء،صوب ا حمل صرته علي كتفه ميممألقي نظرة أخيرة، قبل أن ي

ـ تحرر، يتكئ علي لت تناضل، واعيةالمزمنة غير ال مناجاةمن العاش حاالت غائمة، ىورؤ صا ع

منذ الناس، سخرياتصلع يواجه ألسه ا أا مقدمة ر الفارع تارك ودهعينحني الرحمة، يكلم العابرين،

كثيـرا عـن تكلـم يجلجل صوته في فضاء الميادين، ا، فارغكيس عيش يحمل السادسة صباحا

صـالح الـدين : أفاض في الزعماء الروحيين ..إبراهيم وموسي وعيسي ومحمد : واحدةالمشكاة ال

لكالم، ومهاتما نصف عار سوي ا حسنون الذي يخلص المغفلين الذين ال ي المنتظر المهديوكينج و

ال يمتلك إال المغزل والعنزة وشواطئ الملح وشبه القارة الهندية، في ظل إمبراطورية ال تغيـب

!..أحد الموتورين من طائفته ينذرها بالخراب بمجرد إعالن الصوم، لكنه قتل بيدعنها الشمس،

.ال شيء يحدث بالمصادفة: لنفسه ابتسم موجوعا وقال

يحسد أولئك الذين يموتون كل يوم تحت مطارق الشر األجوف والعالم مـشغول بالفـستان

!ون أما نحن فال نعرف لماذا نعيشعلي األقل هم يعرفون لماذا يموت: األزرق، قال بسخرية مرة

ينبغي؛ فاختفي بفعل سالطين الليل غير المرئيين ذوي البالطي الـصفر كثر مما أتكلم

: تهامس النـاس بخبـث ،والبدل المنشاة والوجوه الصارمة، عاد شخصا آخر، يطوف بالمقابر

ـ سبحانالوزارة، في الدنيادقكان عملوا له غسيل مخ،جن،ات لرجلا" ".ير األحوالمغ

Page 9: 6112

- ٨ -

ظل عشرين عاما، قبل أن يطلقوا عليه ألقابا مجنونة، يجول في الميـادين والمقـابر

واألنحاء المتطرفة دون أن يمسوه بسوء، قتلوه بالتجاهل؛ يضع نظارات سوداء رخيصة علي

نظراتهم الوقحة التي تخترقه بازدراء، يلتمس لهم أعذارا وهمية؛ يريح بها نفـسه، عينيه اتقاء

المغيبين في الشوارع ومحطات آالف وسط انزاح، يداعبونه بوجوه غليظة، الشفاه نمصمصوي

وحيدا في مهياأيستغرق انفصل تماما، القطارات ومواقف السيارات وتحت الجسور واألنفاق،

ل ، يأنس بالكائنات الترابيـة وعـوالم الخفـاء، قـا ى، يسكن المقابر، يكلم الموت رة الذات قمعا

ـ ا؛ تقبل الصادمة راحته ص لم يحتملوا مخلصا؛ ف اجيا أن تصادف كلماته قلبا ر؛ باستفاضة رألم

، حجرتـه ، حبسوه في ا من الفضائح الزوجة خوف عليهتحفظت اتهموه بالجنون، ، بروح وثابة

فـي المناسـبات قبل أن يفكروا جديا في ربطه بعمود السرير، حين بدأ يفرض نفسه علـيهم

د مثل خيال المآتة، يعود إليهم آخر الليل محمال ببقايا الفاكهـة والعـيش العائلية ديكتاتورا أوح

وأعقاب السجائر والحلوي والشلنات الفضية، يكلم نفسه بصوت عال، ينام واقفـا، يتبـول ال

إراديا؛ تنكروه في أشد حاالته احتياجا، يعاملونه باستخفاف يصل حد االحتقار، يخفونـه فـي

االبن البكر، متصنعا حكمة األب الغائص في متاهات الغياب لـزمن األعياد واألعراس، يتقدم

الذين ال يرحمون، بعد اثنتين وثالثـين وسـتمائة الم الفتوة األول، المحجوب بأمر حكماء الك

وسبعة آالف ليلة من الصبر والتجلد والرحمة الكاذبة ومقاومة ضغط الحبل علي كاحل هـش،

العتيق؛ قرر االنتحار؛ إال أنه تذكر الجار الذي وجد مقتوال حفر فيه خلخاال من الوشم النحاسي

في سريره بضربة مطرقة تزن نصف طن، علي يدها الغليظة شعيرات قاتل مجهول، فضيحة

.مدوية هزت أركان البلد الطيب، ومزقت شمل األسرة في ثالثة أرباع المعمورة

فا نصف نائم أو مقعيا علي بإهمال، يأكل واق من تحت عقب الباب يسربون إليه البقايا

ركبتيه مثل كلب عجوز، دون أن يطرف لهم جفن، عيونهم فحسب تبدي إشـفاقا أبلـه أشـبه

بخناجر مسمومة، عاش أحزان الرجل المريض، صباحات متشابهة، يعيش حـالوة الـروح،

بعدما استولوا بعاطفة كالمية جياشة علي المدخرات، اسـتنفدوه تمامـا؛ وتركـوه نسوه تماما

وحيدا بال عزاء، سقط نهائيا من حياتهم المعلقة في فراغ، نحو هاوية سحيقة من العدم، أحـس

نفق مظلم، اختنق برائحة العفن المنبعثة من حيوانات السلطة والمـال أنه قربة هواء تسبح في

فيها خارقة يكون ةلحظ ا لحظة مواتية، متحينوالجحود؛ فاختار انسحابا هادئا يليق بمعلم قديم؛

لحظة واهمة تـصيب شياء،أليستطيع أن يغير كينونة ا ،، يكون هو نفسه ال شيء آخر امختلف

أخري أكثر ةفي لحظ ، قادر علي تغيير العالم هظن أن في حياته مرة واحدة علي األقل، ي المرء

أو وهن، هو يدرك تمامـا أن صين دون ادعاء خلننا نكون م أ ذلك ؛فعالشفافية نكون قادرين

.دعاء وقراءة أحوال الظالمين لن يؤثرا كثيرا في تغيير الحقائقال

Page 10: 6112

- ٩ -

الخروج الخروج

فـي سـنين، فـي استعاد في ومضة ما ضـاع فتوجه للخالء؛ للخالصتاقت روحه

في رحم التوحد الالنهائي األكثر رحابـة، انسجام حميم حس بارتياح عميق، أولي أل ا خطواته

ـ ا بيديه مكان صلحأ، جانب الطريق في نكبلغ مشارف الصحراء، ارت زاح أ، ي الرمـال و، س

لألكل حـالوة ،الماءتناول قليال من الخبز والجبن وكثيرا من ،كيسهفتح شاله، فرد ، ىالحص

. ونامرأسهتحت ضع حذاءهعلي األرض، و جسمه فرد ،الرضا

ـ حد،عالم ال ي دنيا بكر، ، صحراويا فاتنا اكان صباح ، مبهورا استيقظ ي فـضاء ذهب

قهرتـه الـشمس برهـة؛ فتح عينيه؛ ا علي ظهره، واضعا يديه تحت رأسه ممدد ظلصاف،

الندي فوق ذرات الرمال، آثار لمس ت علي وجهه، راحتيه ثم فتحهما ببطء مظلال ب عينيهأغلق ف

فـي ال يرغب ، جسمه كله مرتاح ما تاما، الأحس س ألرض، دفء منبعث من باطن ا لاستسلم

يـستطع تحمـل لحظـة شـوق يؤذن؛ لم جذبه صوت لذيذ،الخدر إحساس رائع من ال شيء،

حسبي اهللا الذي ال إله إال هو، إلهي : "مغمورا بالجالل يبتهل رجالرأي ،تهناحيفاتجه ؛ صادقة

وإله كل شيء، ربي ورب كل شيء، توكلت علي الحي الذي ال يموت، حـسبي اهللا وكفـي،

.؛ فدخل معه في الصالة" منتهيسمع اهللا لمن دعا، ليس وراء اهللا مرمي، ليس وراء اهللا

شـدته إليـه يـده صالته وسلم، أتم ،وداعةفي حولهأغنامه تلهو كان راعيا فقيرا،

النقي، أخذه جمال الرجولة العربية يئة،لوض طفل ولحيته البيضاء وجبهته ا راحةالصغيرة مثل

.مفتونا بحالوته؛ طلب مزيدان، بعض اللبوناولهابتسم

. ال تعرف الخبثلشياها: بعفويةقال

يـه فـي عين نظـر وراعي بسم ال ؛ ت سؤال محير خاطرهفي جال ،أسرته طيبة الرجل

.أعرف: قالو

.!...إذن :وقالحجاب تعجب

؟ في هذا الخالءعيش وحيداأ كيف -

- ..! ، يحرسنا من الذئاب وعصاي وكلبيمطيتي وحماري قوتي وملبسي وسكني :أغناميهاك -

لكنهـا كذبـة حياة المرء نفسها كذبة كبيـرة، نسان أكثر، إلحتاج ا ي ماذاأنام سليم القلب، هيـأ عـالم وأحبـه و اهللا خلق ال المحنة في قلوب البشر، كل شيء، برغموجميلة صادقة مختلفة،تي كانت نظر في العمر الغض، ،ت فتناحر ؛ ضلت القلوبلكن ، لكل الناس المحبة عارية؛الم الخلود والمكاسب ه علي و حتى سلمت وتغلبت ؛ا وصراعات ا دامس م ظال عشت

.العدم أال تسيطر عليك روحالمهموصالحت الدنيا، فتصالحت مع نفسي

Page 11: 6112

- ١٠ -

؟...لكن -

عليـه محمـد أتعداها، العند منزلة عزيمتي تقف ربماربما أصل و ،طوبي للغرباء -

ـ اللـه "؛من يدري ،الروح األمين يأتيه أنقبل أربعين عاما السالم ظل الصالة و مأعل

".رسالته يجعل حيث

؛ لكنه لم يستطع كبح جيشان نفـسه مسحها بسرعة، ف ؛حجاب الدموع من عيني طفرت

..الرجلرأس ل قبف

طاوعه ي فلم هوأما ،راعي مثل طفل في حضن أمه نام ال نا،لبوا تمرو ا خبز معاتناوال

شوشة الريح يموج بو ،سرمديةصحراء في ليل عريض من الظلمة ال ا بنجوم ال ظل مفتون النوم،

مفتوح العينين، أمـام رقد علي ظهره ،في أذن الكائنات الخرافية العمالقة فوق رءوس الجبال

.الخيمةباب

مراجل بال مرة منذ زمن طويل ينام ول أل ،رعونة صحراوية لساطعة ب الشمس ا أيقظته

لو يموت اآلن؛ تمني في السماء؛ روحه حلقت و رضألباعضائه أل توحدت ك ،تغلي في رأسه

الزوجة، األبناء، فتح كيسه، تملـي صـورهم ،لبيتتذكر ا نظر إلي الشمس، ،ليخالتعادة بس

ـ دفنهما في أوراقه، عبـرت " الرجال الجوف "و"األرض الخراب "بحزن شديد، تعثرت عيناه ب

ي فوقها غـال نار صغيرة، نظر الراعي متربعا حول عمق، ب سنفوجهه سحابة حزن أسيانة، ت

:ترنم بأغنية بدويةي ويقمر العيش، الشاي

وكثيرا ما قال لي أبي...طالما نصحتني أمي

والجلوس في الظـل.. .دع النوم في السرير

،ألغنـام واوالخيمة الراعي حتى اختفي مشيقديم و صفيح الماء في كوز بعضأخذ

دفء نـسمة أسـلم نفـسه ل و فاقعة الصفرة غاص في رمال ناعمة غيرة،صتلة ظل جلس في

ملكه ،بي الذه حيث تحتضن الزرقة الفيروزية الناعم ؛ فقألإلي امتداد ا أرسل بصره ،صباحية

فجأةبعيدا عن بشر يتناحرون، ارتعش قلبه صحراء، يسكن قلب ال اهللا هناك بأن غامرإحساس

وخر قترف ا و أحس أنه تجرأ ا، راكع ي وسـعتن مـا ": اسمع هاتف ؛ ف فاضت عيناه ا،عمال فادح

." عبدي المؤمنووسعني قلب ئي وال سمايأرض

كانت جفف دموعه ورجع إلي الخيمة، أحس بجفاء، ؛ ف نظر في قلبه واستبشر، اطمأن

..الراعي بفرحة عربي وجد راحلته في فالةتلقاه ،مما يظنطول أ الطريق

ـ يه وتمرح غتنا ،لسارحة وراء الكأل أغنامه ا إلي الراعيقام ، اأفطرا مع ا فيعـزف له

.أشواقا خالدة علي ناي المحبة

Page 12: 6112

- ١١ -

ألقي من فوق كاهلـه ،ألول مرة في حياته االنعتاقروح حلب تيس أمام الخيمة ستلقيا

يتلو يبحث عن منابع النور، استعذب الخلوة، الجحود؛ ناءالذل في كهوف السلطة، وأب سنوات

أهـل ،العارفينحوال ، أ رسائل القديسين نواميس الكون، ، والتوراة نجيلإلواآيات من القرآن

علويا ينبع نفسه وتبع نداء فأسلم ؛سئلةاأل أغرقته ؛ لكائنات غير مرئية نابضةيوات ، ح الطريق

.من أعماق الروح

***

أمضي أبو هشيمة البدوي نصف حياته رحالا، حفظ القرآن صغيرا في الكتاب، تعلـم

ظيفة؛ فخلعها وذهـب إلـي باألزهر الشريف، تدرج في مسالك الدعوة حتى صارت مجرد و

المدينة المنورة، وحين استشرفها خلع حذاءه ومشي حافيا فوق الحصي الذي أسال دماءه حارة

في يوم طائفي حزين بال بستان، نظر إليه الناس واستغربوا، ظنوه مجنونا؛ ابتـسم راضـيا؛

!كيف أطأ بحذائي أرضا خطا فوقها الحبيب عليه الصالة والسالم:قال

يل جاءه الرسول الكريم وطاف به البيت الحرام، سقاه من الحـوض؛ ففاضـت في الل

الروح بالنور وتضوعت أعمدة المسجد مسكا، سجد علي األرض وبكي؛ غـاص فـي بحـر

.الحقيقة واختار حرفة األنبياء

من الخطـأ أن نحمـل : قال شاردا وهو يمسح ضرع النعجة؛ لتحن ويتمكن من حلبها

فوق أعمارنا ونسجن أرواحنا في أجسادنا الضيقة؛ فمن غرور اإلنسان أن يقـدم أنفسنا أعمارا

استثنائي ويفترض أنه يعبر من خالل أحكامه الشخصية عن أحكام اهللا، المؤسـف نفسه كمثال

حقا أن هذه ظاهرة شائعة، فالناس يحتكرون الحقيقة المطلقة ألنفسهم، ثمة مخاطرة في حريـة

ه المخاطرة ال يمكن أن يوجد حب حقيقي، اهللا يريد القلوب، إن عملنـا االختيار لكن بدون هذ

يجب أن ينبع من الشعور باألمان والرضي واالنفتاح والتواضع والصدق والقبول والحب غير

...المشروط والغفران

الصالة مفتاح كل ذلك؛ ركز أفكارك في اهللا، اجعله نبراس حياتك، توجه إليـه بكـل

حب، تأمل حنانه ورحمته وغفرانه؛ فهو يقبل الطاعة البـسيطة التـي تـشبه قلبك، تكلم معه ب

...طاعة األطفال؛ اعمل ما في وسعك فحسب وكن علي ثقة أن اهللا يعمل ما ليس بوسعك

غطي رذاذ الحليب لحيته وشاربيه، علت الرغاوي البيض سـطح الحـق، مـد يـده

.اشرب فطرة األنبياء: لحجاب

Page 13: 6112

- ١٢ -

غرور التفرد األحمق، عزل نفسه متعاليا، في عالمه الـصغير؛ كان حجاب غارقا في

سقط تدريجيا في هوة نسيان سحيقة لم ينج منها قط، استسلم لهروب سلمي، مفكرا فـي أبعـد

نقطة في عمق صحراء تحوم حولها غربان العزلة، حين كانـت الواحـات مـأوي للمنفيـين

عربان البوادي الذين يـسكنون الـصحراء وللمعتقلين السياسيين، ومرعي لقطاع الطرق من

ويهاجمون الفالحين في الغيطان التي تفصلها عن العمران مساحات جبلية واسـعة، ينهبـون

بعد غروب الشمس كل خميس، خاصة النـسوة الالتـي " علي أبو رمالة "الشيخ زوار ضريح

لعون حين جفـت يشعلن الشموع ويبتهلن ويغنين ويرقصن حتى يسعد قلب الولي ويمد لهم يد ا

العيون الثالثمائة والثماني والتسعون؛ مات النخيل ونفقت قطعان البقر واألغنام والحمير؛ وأكل

اضطر كثيرون مـنهم إلـي هجـر ؛الناس السعف ونوي البلح؛ انتشرت المالريا واألمراض

ؤقتة منازلهم وأراضيهم متجهين صوب الوادي؛ هربا من الموت؛ فأجبروا علي القيام بأعمال م

في المنازل وبوابين وسعاة، غير مناسبة، ساعد الحظ أولئك الذين كان لديهم أبناء عملوا خدما

البيوت الحقيرة غير الصحية في بركة الفيل بحي الـسيدة زينـب، عاني النازحون الجدد من

التجارة والسفر عبر دروب الصحراء، في رحالت منتظمة علـي ظهـور قليلون برعوا في

تغرق ستة أشهر، يتغنون خاللها بمواويل الغربة والقلب المبتلي، قبـل أن تعـرف الجمال تس

ا تـسعالواحات القطار األسود الذي يشق الصحراء بين المناجم وحلوان، في خط منفرد قاطع

محطات، مرة أسبوعيا، جارا وراءه ثالثا وتسعين عربة مكدسة بالبشر والحيوانات والحديـد

.الخام

الذي أعدم " أبو الحاج علي إبراهيم"جير الثاني سقطت الواحات تحت نير العمدة أثناء الته

كثيرا من األهالي؛ مستمدا قوته من قبائل البدو الصحراويين، والعبيد الذين يجلـبهم مـن سـوق

يمارسون الكسل المرهق، الخوف نائمين، النخاسة ويدججهم ببنادق من النوع القديم، يقضون نهار

من جمار "الالبقي"لظل، يهشون أسراب الذباب الشرس عن وجوههم المكفهرة، يجمعون يطاردون ا

، يطربون ويتـصايحون "مسموعة"النخالت غير المثمرة، يشربونه في قوارير فخارية أمام دكان

حتى " الالبقي"مقابل قوارير "الدحروجة"و" المطوشة"و " المناقرة"بنبرات من الفرح الليلي، يلعبون

".بالمحشات"القمار المخمورة إلي عراك يفضي لقتال صيحاتتنقلب

أجمل عيون الماء المصرية المنسابة من قلب صدع " البشمو"طمح العمدة إلي تحويل مجري

طبيعي في الصخر، تستحم فيها العرائس ليلة الزفاف وتدير طاحونة الغالل الوحيدة في الواحـات،

عبر آالف الكيلومترات تحت الرمال؛ فحرم السهر في الـدكان "الزبو"من الباويطي إلي مزرعته في

الذي تتبعه شهورا طويلة حتى ظفر به بعيـدا عـن " أبو سكوتي "وساقهم إلي مزرعته؛ فاستأجروا

.العمران وانقض عليه بعد أن نزل عن فرسه ليقضي حاجته؛ وهشم رأسه بهراوة من حديد

Page 14: 6112

- ١٣ -

.شكرا يا موالنا -

، تلك عبقرية، ألن الناس عادة يعيشون ما يفرض عليهم، حتـى أن تختار حياة بعينها -

في أكثر أمورهم مصيرية، دون أدني محاولة للفهم، يشكون ويلعنون فحـسب، ذلـك

.سهل بالطبع؛ لكنه ال يقدم شيئا

.ابتسم للمرة األولي

في أقصي العمق تراكمات كثيرة تجثم فوق الصدور، أكوام من الغبار، تعشش . .هناك -

الروح؛ تعمي القلوب، قليلون من ينفضون هـذه الحجـب ويـصلون إلـي روح في

أرواحهم، يتفهمون ذواتهم علي حقيقتها، يحبونها بطريقة أفضل تصلهم بالقلب الكوني،

.يتواصلون، يتقبلون الناس كما هم، وتكون لديهم القدرة علي التحدي والتجاوز

ـم - ؟الرحيل إذن فلـ

. ءارتعشت عيناه بحياء عذرا

.الناس -

!الناس -

.ربما لم أفهم الناس -

.وربما لم تفهم نفسك -

.طاووسية وقسوة تحسدهم عليها الشياطين بمباهاة الناس يقترفون اإلثم -

ثقيل ال يطيق حملـه " قتب"كل يحمل قدره علي ظهره مثل :تنهد الراعي بصبر وقال

نين مربوط فـي سـاقية، أو تركه أو التخفف منه؛ ال يلتفت إلي شيء، مثل ثور معصوب العي

...يدور حتى يسقط مقطوع النفس في حفرة عميقة بطول عمره

!... لن تصدق؟تعرف من قال هذا

فالح لم يعرف في حياته سوي األرض والفأس، لكنه قال أيضا الـدنيا مثـل األرض

البد أن تضربها بفأسك حتى تنال بركتها، فإن لم يسعك هذا، وأشار إلي صدره؛ فلـن تـسعك

.لدنيا كلهاا

اتسعت بداخله مساحات األلم، فراغ من األسي والوهن؛ استأذن الراعـي أن يواصـل

.رحلته إلي الواحات

!الواحات -

.سحب شهيقا خلخل الهواء

.هناك صديق -

Page 15: 6112

- ١٤ -

قام أبو هشيمة متكئا علي عصاه، سحب حماره الوحيد وعنزتين، صحبه حتى تعمقـا

سم بحنو وأمسكه من ذراعه؛ حكـي لـه عـن في الصحراء، وضعه علي طريق القوافل، ابت

بزعبوط ضاف إلي كعبيه، بقريته النائمة في جوف الذي مر ذات ليل عاصف متدثرا المغربي

الصحراء، أيام صباه الباكر، سأل عن كبير البلد، أخذوه إلي العمدة، طلب عشرة رجال أشداء،

ن يحتال للطعام و المبيت، استضافه قلوبهم ميتة، استغرب العمدة وظنه دجالا من الغجر الجوالي

ثالثة أيام، قال الغريب إن كنوز قارون مدفونة هنا وحدد موضعا بعينه، حيث خسف اهللا بداره

األرض، في ليلة من الشهر العربي والقمر محاق، ينزل الرجال ليحضروا الكنوز وهي لكـم،

ورا الكداب لحـد بـاب خلينا: "أما الكتب فهي لي؛ فرحوا وتسابقوا إليه، تعجب العمدة وقال

".الدار

في الليلة المرتقبة غمغم الدرويش بتعاويذ غامضة، انشقت األرض، ونـزل الرجـال

لكنهم توقفوا قبل النهاية بقليل، وقعوا في جب الخوف؛ فرجعوا مذهولين بشعور بيض نـافرة

برغم أنهـم من الرعب، حاول معهم مرة أخري، حاول مع غيرهم، لكنهم خافوا علي حياتهم،

يموتون كل يوم تحت أسراب البعوض والناموس والفقر، يموتون بال سبب؛ لكنهم لم يـصلوا

.الدرجة المناسبة قط

فرشا الصحراء بحكايات عن صديق قديم التقاه مصادفة، حلما معا في مخابئ الرمـال

لة تطفو والماء، عن حب ملتهب فتر سريعا تحت ضغط الحاجة وترك بشاعات الحقائق المجهو

علي السطح تدريجيا، تصدرت العادة حياة الزيف المغلقة بين أربعة جدران أسمنتية مـصمتة

خوفا من عواقب انهيار سريع، يوما بعد يوم، عاما بعد عام، صحوت فجأة، بعد سنوات الغربة

في بداية اإلجبارية وقد أصبحت أبا ألبناء لم يعرفوا من األبوة إال هدايا لم تعد تبهجهم كثيرا،

اإلجازة أحس بالرفض، أتعرف أبنائي من جديد بروح غريبة، يستغربون وجودي، يستنكرون

تدخلي في أبسط أمورهم، أمهم هي كل شيء، بدأت تخنقني بكلمات ناعمة مثل مـشانق مـن

تـشدني مـن ؟ مازلت تحبنـي ؟كم امرأة عرفت :خيوط الحرير؛ أسئلة كثيرة ليس لها إجابات

قـل أي ! تكلـم . . بوجهك عني، أنا جميلة، صحيح، قل لي أنت جميلة، تكلـم؟ ال تشح : ذقني

..!.ممل، أف. .أنت. .أنت. .شيء

مرير بالغربة في بيتـك تنتهي الزيارات، تذوب التهنئات، يبدأ الفراغ سريعا، إحساس

بين أهلك، بعد أسبوعين أو ثالثة يتأصل الغياب؛ أحس بضآلة، أعود في تشريفات من النـدم

!دون أن يلحظ أحد

Page 16: 6112

- ١٥ -

تحملت مضطرا رفاهية العبيد المنذورين للـشقاء وفـواحش االغتـراب والوحـدة،

التلصص علي حيوات اآلخرين وتعقب أشباح العوانس، أعزي نفسي، بكبرياء زائفة، بمدينـة

الخلود والسالم، متناسيا عن سهو أحيانا وعن عمد دائما أن الباب المكسور ال يـصد الـريح،

..ن الهوان يبدأ بزلة واحدة فقط ثم يتوالي الكر مثل كرة الخيطوأ

رجعت في نوبة صحو فاجعة،كانوا قد تسربوا في دروب زلقة مـن الـضياع الفخـم

المقنع، تحجرت الزوجة، جفت منابعها، تحولت إلي شيء قـاس؛ مهمـا حاولـت بالـصدق

... في صباحات الميادين والطرقاتوالبالهة، تماديت في الرضا المقهور واالنفجارات المدوية

لماذا لم تقل لها كلمات الحب البسيطة التي ترغبها، لماذا لم تقل إنهـا : قاطعه الراعي

!أجمل النساء

تملكتني كبرياء مرعبة، أقف علي حافة االنفجار، أريد أن أصـرخ فيهـا أن الرجـل -

. مثل جبل يموت حتى لو كان عندما يصغر في عين المرأة التي يحبها؛ فإنه

!ولماذا لم تصرخ -

كان الوقت قد فات؛ عندما يهان المرء أول مرة وال يحتج؛ يصبح ذلك شيئا عاديـا،لم -

.أعد أومن بشيء، بنفسي علي األقل

.القصة نفسها عبر آالف السنين: له بوجه حالم وتمتم استمع

، دس فـي يـده قطعا شوطا بعيدا، توقف الراعي وأعاد ابتسامته المشرقة، تعانقا بقوة

.حجابا مطويا بعناية وهمس في أذنه

ألقاه في الكيس وتعلق بعيني الراعي، نصحه أن يلزم طريق القوافل حتى ال يغرق في

. .هناك شيء: بحور الرمال وابتسم بوجه العارف ومسد لحيته الخفيفة وقال

.صمت لحظات؛ استعجله حجاب متلهفا

!؟وما هو -

.تخلص نفسك من حظ نفسكأن : قال بنبرة المعلم

.تجهم مستغربا

..مثال. .المرأة: أردف الراعي

. تنهد من أعماقه

. ذاك مبدأ الوصول: قال الراعي

***

Page 17: 6112

- ١٦ -

كان قد نفض يده من كل النساء، منذ زمن ال يحصيه، أصابه قرف عـضال لمـرآي

الـذباب والنـاموس الرجال متلطعين في طوابير ممتدة عبر صحراء الرغبة، تأكلهم أسراب

والبق األسود، يسلخ العرق المالح أقفيتهم وأجسادهم المتسخة، منتظرين دورهم ليتطلعوا إلـي

معتمدين . .طلبة، حرفية، عمال : ذات أفخاذ مهرة لها رنين نحاسي يخلب عقولهم الفقيرة امرأة

ويتنطعون أيامـا علي إعانات الحكومة البعثية زمن الحرب األولي بين النهرين، يعملون يوما

علي أبواب بيوت المؤانسة المرخصة للفواحش، سيقوا مثل الخراف إلي حـرب ال تعنـيهم،

..ورجعوا بال مالمح، عبر جسور من النعوش السوداء الطائرة

.كان قد أدرك مبكرا أن المرأة بغير حب مجرد ثقوب ال أكثر

***

يخ ذي تضاريس غامـضة، سرح بحماره وعنزتيه وراء الماء والعشب، في عمق تار

العرب األوائل في العصور الوسطي؛ محاولين قراءة تفاصيله في النحت األولي لتكوين خاضه

والهفوف، يستظل بحيرات هائلة من الحجر النوبي، عبر جبال الدست والمغرفة ونقب الغرابي

غايـة فـي بالصخور والتالل الصغيرة، وينام الليل تحت النجوم، يتأمل منـاظر في الهاجرة

الروعة والغرابة والرعب، وصل جبل المعيصرة البركاني، الذي يحتضن الجـزء األوسـط

" وليـامز "للواحات بارتفاعات هائلة وأطوال خرافية، عثر في قمته علي أطالل منزل الكابتن

بقيادة الشريف قائد القوات اإلنجليزية بالواحات ضد القبائل الليبية التي جاءت تحارب االحتالل

أحمد السنوسي، نهاية الحرب العالمية األولي، تخير مغارة منحوتة بالجبل ألميرة فرعونية في

تابوت فخاري عليه صورة األميرة من الخارج،لم يجد فيها غير النقوش والتوابيت الفارغـة،

وضع أشياءه علي األرض ومهد جانبا مقابل المدخل لنومه وآخر للعنزتين، وترك الحمار في

.رجالخا

غافلته العنزة الصغري ورجعت إلي أخواتها، حزن كثيرا، ربط األخـري فـي وتـد

بجوار المغارة، مضي أسبوع آخر بسرعة خاطفة، دون منغـصات سـوي هـروب العنـزة

ومرض األخري، روحه ساكنة، يعيش امتنانا عريقا، تسبح كل خلجاته في بحر مـن الرضـا

ن يكون متفردا في حياة رسمتها يد العناية بحكمة بالغة، والثقة الالمحدودة، كان يرغب دائما أ

لكنه لم يكن يتحمل األوجاع؛ خاصة من محبيه؛ فيضعف ويصيبه الدوار، يتخبط ريثما يعـود

إلي سابق عهده، تبعته في سرحاته قطط وكالب، تلعب علي كتفيه، تأكل من يديه برغم خوفه

ول معسكرات الجيش المتناثرة في الـصحراء القديم، تتقافز مرحة فوق ظهر الحمار، تحوم ح

.متحاشية جنود القهر

Page 18: 6112

- ١٧ -

ماتت العنزة األخري؛ ال يدري خنقا بالحبل أم حزنا علي أختها، عافت األكل والثغاء

والمرح، انكسرت نفسها، فزعت القطط والكالب، كفت عن اللعب، ناحـت وتمرغـت فـي

، مات المعني األكثر براءة وثـراء، فقـدت التراب، دفنها في الرمال، ترملت الحياة واكتأبت

واحدة تتكرر بال نهاية، تهب عليه نزعات من ريح الغضب والتمرد الصحراء روعتها، لحظة

الحاقد والمرارة ورثاء النفس؛ يلعن القلوب الحجرية، استيقظ علي كابوس مرعـب، معركـة

اء المختلطة التي ال تعـرف دامية بين القطط والكالب؛ أفزعه منظر البطون المبقورة واألعض

أجسادها، الدماء المتخثرة فوق الرمال، مسح عرقه بكم جلبابه، أطلق الحمار وأغلق علي نفسه

..المقبرة

عاش شهرين قبل أن يري النور أو تمس جلده شمس، يتنفس من كوة في الباب، يتغذي

ات بمنـاقير النـسور الموت مر علي مدخراته الشحيحة من الجبن والمش والعيش المقدد، هزه

األبد؛ خانته نفسه فـي الفرعونية ذات العيون الفسفورية المنقوشة في المقبرة، ظن أنه ارتاح إلي

حب الحياة وتمردت علي الموت، زحف علي بطنه؛ خرج متسلخا في أكثر من مكـان ببطنـه

ينـاه مـع وساقيه وذراعيه، وصل باب المقبرة بصعوبة، ظل ثالثة أيام ال يري حتى تكيفـت ع

النور، رأي الحمار واقفا مدلي األذنين، ينزل من عينيه خطان أسودان مـن الـدمع، أدهـشته

.المفاجأة؛ فتلعق به تعلقه بالحياة، تشممه بخطمه ولعق رأسه بلسانه؛ فمسح جبهته براحة متورمة

امتطي الحمار بجهد شديد، ترك جسده معلقا فوق الحمار في فوضي هزيلـة، هبـت

رهبان دير في قلب وادي الريان، بعد هدوء العاصفة؛ نظر ملية جبارة؛ أطاحت بهما عاصفة ر

القديس صمويل القديم حمارا يهش الذباب عن شيء ما؛ فأقبلوا عليه وحملـوه إلـي الـداخل،

أعطوه كأسا بها ماء، ونصحه األنبا أال يشربه مرة واحدة؛ نظرا لعطشه الشديد، أدخلوه حجرة

وا عليه بالشاي الساخن والخبز؛ وجاء األنبا حامال مياها دافئة في إناء وخلفـه الضيوف، وأقبل

الرهبان يترنمون بالصلوات، أصر علي خلع حذائه بيديه وغسل قدميه بنفسه، إحيـاء لتقاليـد

في الترحيب، أبدي آباء الصحراء الورعـون كـل السيد المسيح عليه السالم، أسرته طريقتهم

لنبـات العـشار، ه، داووا قروحه وتشوهاته، دهنوه بالسائل اللبني عطف وكرم، غسلوا جسد

ليزيل رواسب أمعائه ومعدته، تماثل للـشفاء، واسـتطاع وسقوه منقوع نبات حلفا البر المغلي

القيام والحركة، وفروا له وقتا للصالة والنقاهة، عرضوا عليه البقاء؛ أصر علي الرحيل متعلال

.لم يتركوه إال علي وعد بالعودة، ومنحوه الماء والزادبصديق ينتظره بالواحات؛ ف

***

Page 19: 6112

- ١٨ -

رجع إلي وحدته أكثر دربة بالصحراء، تعلم اقتناص الكائنات الدقيقة والسحالي الجبلية والضفادع الصفراء التي تسقط مع المطر في إبريل من كل عـام، واألعـشاب ذات األوراق

حلقه الناشف، سار برفيقه مسافات طويلة، فوق الشوكية المختزنة للماء، يمتصها بصعوبة ليبل المحفوف بالمخاطر وبحور الرمال المتحركة، يـدور مـع الطريـق دورة الصحراوي المدق

أحد سوي البدو الذين يمدونه بالماء والـبلح واسعة نحو الجنوب إلي منديشة، متحاشيا أن يراه أخر ساعة أو ساعتين علي األكثر؛ كـان والدقيق، تصل الجمال في موعدها تماما، نادرا ما تت

عصر اليوم األول من الواحات البحرية حدثا استثنائيا، ينتظره أهل الواحات وصول البريد إلي كل شهر بفرحة غامرة، يجلس رجل البريد وأربعة موظفين حول مائدة كبيرة، بمكتب البريـد

ائقة، أما في عصر الـسيارات في العاصمة، يفرزون الخطابات والطرود ويوزعونها بسرعة ف !..فال أحد يعرف علي اإلطالق متي يصل البريد

***

وجد نفسه فجأة وسط مجموعة من البشر متبايني األشـكال واللغـات والجنـسيات،

، تركه في حجره متحرجا رغم "باكو شيكوالته "وأعطتهابتسمت امرأة أجنبية ونظرت لرفيقها

شرب حتى ارتوي؛ شكرها بعينيه، نزل المحـصل، أخـذ جوعه القارس، استأذنها في الماء،

؟بطاقتك: الشيكوالته، ونهره بعنف

ارتعب، ولعن المصادفة التي عطلت هذا الشيء، أخرج البطاقة ومدها للرجل، قلبها

:وقرأ

...حجاب الصمدي حـســ -

...مدرس -

الـسيدة رماها في وجهه بقرف، نادي بلغات مختلفة علي الركاب، صعدوا بسرعة، رجعت

.والبطاقة وكل أوراق هويته" الباكو " آخر، وهي تضحك؛ اغتم ورمي" باكو "ورمت في حجره

***

طاردته الكوابيس لدرجة الرعب، يفزعه صفير الريح، يـشعل نـارا صـغيرة مـن األغصان الجافة فوق رمال نظيفة، تحترق بشدة حتى تسخن الرمال تماما، يأخذ الدقيق ويعجنه

، يأكلها ساخنة أو مغموسة "القراصة" ، يفرش العجين بين طبقتين ساخنتين ليخبز بالماء والملح في الماء، يلف نفسه بالبطانية، يضع مداسه تحت رأسه وينام تحت النجـوم، تاركـا الحمـار يعسعس في جيوب الليل، اكتسبت عادة الكالم مع النفس أبعادا أكثر تعقيـدا، يـردد الخـالء

وحشي؛ متغلغال طبقات السموات، متخلال الجبال والصحاري وكائنـات األصوات في ترجيع الخفاء، أما التبول الالإرادي فقد انتهي، منذ زمن شفاء الخلخال النحاسي حول كاحليـه، مـع ذوبان الذكريات الشنيعة عن األهل واألصدقاء وأحالم المستحيل في قاع ذاكرة مثقوبة، رجـع

. الخبز والمرأة: ناوبته أحالم الجوع األبديلفتوته المهدرة بعوده الصلب، ت

Page 20: 6112

- ١٩ -

جن من الوحدة والحنين، بعد صدمة الفرح األولي بنقاء الصحراء واالنفساح الالنهائي

للروح؛ ينهشه فحيح الشياطين في ليالي الخواء والصمت؛ يستحضر سيدات الجحيم إلي مخيلة

في دمه الراكد منذ زمن اإلعـارة قاحلة، يواقعهن بانتقام شرس وأفعال شنيعة تشعل الحرائق

األولي، نبت شيطاني وسط صحراء التيه، يتحسس األشياء بأنامل طفـل، يتـسلي بقـصص

الجنيات واألشباح وقاطعي الطرق وعرائس البحور الطالعات من ليالي شهرزاد، يري أطيافـا

بـسهن المتخفيـات فـي مال نساء الصحراء بعيون سوداء عميقة، تشبه عيون ملثمة تطارده

السوداء المطرزة بخطوط دقيقة متعامدة، ملونة بخيوط الحرير الحمر والخضر والصفر، تزين

الظهر والذراعين والعنق والصدر، صفوف من أقراص معدنيـة صـغيرة تـشبه الجنيهـات

الذهبية، يضوين علي البعد وهن يحلبن النوق، في أيديهن خبز أبيض مـدور؛ يختفـين كمـا

ركات نافورات من اللهب تحرق األخضر واليابس في لحظة أسطورية يظهرن مثل سراب؛ تا

..نظرة واحدة في وجه امرأة تحبها أجمل من كل نساء العالم: خارقة؛ قال لنفسه متحسرا

.امرأة حياته كان في تلك اللحظة يفكر في

Page 21: 6112

- ٢٠ -

الواحةالواحة

نخفض؛ يبحث تبع طريق الجمال؛ دخل واحة الحارة،لم يتوقف عندها طويال، عبر الم

عن صديق قديم في أربعة آالف كليومتر مربع غير آهلة بالبشر سوي منابع الماء، جاب مدن

القصر، طبل آمون، عين العـزة، الجفـارة، الباويطي،: وقري الواحات علي حماره المتعب

حب يسأل عن صا ؛منديشة، الزبو، العجوز، مارود، عين الغرد، عين القصر الجزائر، القبالة

..العواصم كلها متشابهة: يتذكر مالمحه بالكاد، في الباويطي لم ينتبه له أحد؛ قال في نفسه

" تقبله القرويون؛ كدرويش غريب، وجد صديقه القديم عبد العليم سليمان الشهير بــ

، بسهولة عبر صورة شمسية بالية بالبذلة الميري؛ عاونه في بنـاء سـقيفة الخـوص "الظابط

بعدما أصر أن يسكن وحده، كان رسوله إلي القلـوب، اسـتقر بيـنهم، يطلـق بجوار البئر،

المواعظ الطيبة مثل التمر اليانع، يطل علي بيوت الواحات ذات الطابق الواحـد والمـساحات

الرملي، المسقوفة بالجريـد وجـذوع الكبيرة واألبواب المفتوحة ليال ونهارا، المبنية بالطوب

ملفوفات في ضـباب ب النخيل في دوامات مرعبة، النساء يخرجن النخيل، يرقب الريح تداع

الصباحات الندية، يجلبن الماء في البالليص من العيون الفوارة فـي أفنيـة الـدور، الرجـال

ينفضون آثار الليل في اآلبار، قبل أن تجف ويضطرون إلي استخدام مواتير الـسحب، التـي

بوهيمي، أوحي لمرشح الحكومة بتركيب حنفيـة جلبتها الحكومة في موسم انتخابي مفعم بكرم

.مياه واحدة لكل قرية علي نفقة األهالي

تسللوا إليه بحذر؛ علي فترات متباعدة، فهـم ال يحبـون الغربـاء، وال يكرهـونهم،

يشربون معه الشاي وينفضون عنده همومهم الكثيرة، يستمعون إليه بانبهار ودهشة، تعارفـت

ا، عرف المسجد الوحيد بقرية الجزائر، شدتهم أحاديثـه وطريقتـه روحه إليهم وألفتهم سريع

وبساطته، يعلم األطفال، يلقي البيان من طاقة مفتوحة بحائط في بيت أحدهم، حتـى تـسمعه

النساء، سمع حكايات وأسرارا، تأسي لهم موقنا أنهم يأتونه مثلما يـذهبون لطبيـب يحـيطهم

ا؛ حسن اإلصغاء والصدر الرحب والقدرة علي قبولهم شيئ بالحب والثقة، دون أن ينتظر منهم

بدون إدانة هو ما شجعهم أن يفصحوا عما بداخلهم بال تحفظ، يتركونه منشرحين، ألنه أنصت

إليهم فحسب، امتألت سقيفته بالبلح والمشمش والزيتون والليمون والعيش الشمـسي، تجمعـت

ر بصدق وحماس، تخلص من كل عاداته حوله القطط، عرف البئر والغيطان، عاش مثلهم، فك

السيئة التي صحبته منذ شبابه الغض، حين كان عالمة علي الفساد والتمرد، لدرجة أن سيدات

العائلة المحترمات كن يحذرن أحفادهن من مصاحبته؛ لكثرة ارتكابه الفواحش الباطنة علنـا،

.بروح متفانيةحتى إنه ظل عشرين عاما يتلصص علي النساء ويمارس فاحشة اليد

Page 22: 6112

- ٢١ -

أحس بحال غريبة لم تمر به من قبل، راحة في عمق نفسه، ليست استكانة العجـز أو

راحة من رسا علي شاطئ أمان ووجد لنفسه دورا، إنما إحساس خـارق اطمئنان الهروب، أو

مأل كيانه حبورا؛ لوال قلق خفي يمور في أعضائه، جلس فوق ربوة عاليـة، ينظـر وجـوه

حية، بمرايلهم البيض، حقائبهم فوق ظهورهم ثقيلة؛ يبتسمون بفـرح، يتـشبثون األطفال الصبا

بأيدي أمهاتهم، راعه تسرب األطفال من المدارس، لبعد المسافات، وخطورة الطرق الجبليـة،

كان خاطرا سريعا أعاده إلي األحالم، تمني لو يعود طفال، يلعب بجد وينام بعمق وقتما يحب،

ليلية الزمته سنوات طويلة، يظل مسهدا حتى الفجـر، النـور مطفـأ يتخلص من نوبات أرق

وعيناه متوهجتان، وعقله يحترق؟

وعلحظات دهرية، تخيل الثعـابين نظر عبر أكمة النخيل، سكون الفجر المرعب، ر

والحشرات وجيوش النمل األبيض، التي تأكل كتب األطفال وأخـشاب األبـواب والـشبابيك

تسقط علي أصحابها، السواد الحالك، كائنات خرافية بشعة تتحـرك هائجـة واألسقف، البيوت

أمـر من يحفظونه خلفه ومن يديه بين من معقبات له:"مثل الشياطين، ارتعش رغما عنه؛ تذكر

، اقتطع قطعـة ؛ فانتظر الفجر مطمئنا، سحب نفسه بهدوء، أعد مالبسه النظيفة والصابون "الله

من ليف النخلة المجاورة للبئر وغسلها جيدا، دلي رجليه في ماء البئر الساخن المنبثـق مـن

عمق ألف متر تحت األرض، ينزل تدريجيا حتى يألف حرارة الماء ويتجنب الدوخـة، تـرك

نفسه للماء، يبدأ يومه بحمام ساخن، قبل أن يجتمع الشمل في خـص عبـد الحـي، موظـف

ي البئر والحاج محمد والحاج عبد الستار والحاج حسن وعبد الحميـد ومحـروس الحكومة عل

يفطرون معا الفول والطعمية .. .وعابد وشعبان وأنور وإسماعيل ومسعود ومعظم أوالد شويل

المغلي في أكواب صغيرة من المعدن أو والعيش الشمسي والعجوة والرطب، ويشربون الشاي

ويـسرحون " المحشة" أو" البروة "ار الركية، ثم يحمل كل منهم الزجاج، يدفئون أيديهم فوق ن

.إلي الغيطان

دعك جسمه بالليفة والصابون عدة مرات؛ احمر جلده؛ صار ورديا، تحـسس مكـان

الخلخال النحاسي الموشوم في الكاحل عالمة محفورة لسنوات عجاف؛ انشرح باختفائه، تأمـل

."الخالقين نأحس الله فتبارك:"جسده وتمتم

رقد علي ظهره، فرد ذراعيه ورجليه، أغمض عينيه واستغرق وقتا طويال غائبا فـي

الملكوت، لحظات خالدة من النعيم الخالص، فتح عينيه ليكتمل النور، ظل مشدوها ال يـستطيع

ـمـن "الحركة، رأي ودم، تحدق فيه صامتة فاغرة الفم، مشدودة العينين، تمثاال من لحـم " ي

يحمل آثار عز غابر، منحوتة في تناسق بديع، مشروطة العينين بأهداب مسنونة مثـل رمـاح

عربية، لصوتها نضج أنثوي خالب فائض اليناعة، جارفة كشالل، اشتبكت عيونهمـا ثـواني

Page 23: 6112

- ٢٢ -

معدودة، توقف الكون خاللها، تسمرت مكانها مصوبة سهامها نحو قلبه؛ اخترقته، غرق فـي

فيها بعزم ما فيه، أفاقت مـن لرأت عريه وافتضح في الواحات كلها، شخط النشيج، لو خرج

ذهولها وجرت تجر ضحكتها الرفيعة مثل صهيل فرس جامحة، أحرقته فعال، ينـتفض فـي

نوبات سريعة متدفقة، قلبه يضرب بعنف، رعشة أذابت أعصابه وفجرت في دمه بركان النار

.الماءالكامن، نفض رأسه واستغفر وأطفأ ناره في

***

ـمـن "اختفت بين التالل، تجمع شتات نفسها؛ قبل أن تفوح الحكاية؛ هربـت فـي "ي

التي شاع أن نساءها لسن فوق مستوي "العجوز"واحدة من أروع قصص الحب األسطورية إلي

الشبهات وليس لديهن مانع من الترحيب بأولئك الذين يشعرون بالوحدة؛ رحب بهـا األحفـاد

. علي يدهم، لغة األجداد السيويينالذين انقرضت

ـ " عجاب"كانت آخر عنقود الشيخ والد عمدة القصر، لولده األصغر، " بست " الملقب ب

بعد عمر من الجدب، من زوج شابة غريبة األطوار؛ تركتها في قماطها وهربت في التهجيـر

اسم أمه، وجعلها فاكهة الثاني، تلقاها الجد السبعيني بحيوية فائقة، طار بها فرحا وسماها علي

مجالس الطرب والحكمة في ليالي األفراح والذكر، صحبها في روحاته الكثيـرة فـي ربـوع

إليها عبر الصحراء رحم الصحراء بعرق المؤسسين األوائل النازحين التي تولدت في الواحات

الدوايدة : اإلسالمالغربية من ليبيا ومصر العليا، المنتمين آلخر العائالت المسيحية التي اعتنقت

الطريف أنهم فـي ..في الباويطي، أبو صادو في القصر، بدران في منديشة، سوبي في الزبو

.في دخول اإلسالم ؛ لتأخرهم"يا روماني"ساعات الغضب يقولون لبعضهم

شيدوا القري فوق المرتفعات وأحاطوهـا ".الحطايا "وقسموا الحدود و " الفسائل"زرعوا

أبواب خشبية ضخمة، حفروا اآلبار الطبيعية بـالطرق البدائيـة، يـدقون بأسوار عالية ذات

ماسورة قطرها ست بوصات وطولها حسب العمق المطلوب، ويأتون بجذع نخلة ويفرغونـه

من المنتصف، ليحمي جوانب الحفرة من االنهيار، يثبتونه بعروق رأسية وأفقيـة، يـصنعون

واسير قطرها بوصة ونصف البوصة، ينزلونها رافعة يعلقون بها سلسلة، يربطون في أعلي م

في الماسورة األولي، يشدون الرافعة من أسفل؛ فترفع مواسير الحفر إلي أعلي، يقـف الجـد

بجانب هذه المواسير يسدها بكفه وعند نزول الرافعة يرفع كفه عنها؛ فتغوص المواسير فـي

..يطانالرمل، حتى ينبع الماء؛ فيحيطونه في محابس ليندفع إلي الغ

Page 24: 6112

- ٢٣ -

شقوا الطرق الترابية الضيقة وأسسوا المسجد، أقاموا الحوائط والميضة والمحراب من

بالجريد األخضر والعذوق، يؤمهم الجد عجاب بصوته النـدي جذوع النخل والسعف وعرشوه

بـين يديـه، أحبهـا " يمن "ويعقد مجلسه كل مساء في حديقة دواره وحوله المريدون، تلعب

المشع وجمالها األسطوري، استوت بيضاء البشرة جميلـة لجد وكرامة لذكائها الجميع لمحبة ا

مثل ملكة أسطورية بكل خواتمها وأسـاورها "القصر"المالمح آسرة االبتسام، يقصدها وجهاء

وفيض فتنتها، لدرجة أنها لم تكن تستطيع أن تستوي علي قدميها دون مساعدة حبل مثبت في

ضل، أخفاها الجد عن عيون الـشباب، تـسربت فـي ليـالي المف السقف فوق مكان جلوسها

األعراس والمدائح وأولياء اهللا، أغواها مداح يجوب البالد في حب الرسول، رحلت في القري

والنجوع، تساقطت القطع الذهبية من يديها ورجليها؛ قطعة وراء األخري؛ عرضها هي نفسها

لم تستطع العودة بعد أن خـسرت مـن ،للفرجة في سيرك األعاجيب، مات عجاب محسورا

نفيا اختياريا، نصبت عشة مـن الجريـد " العجوز"لحمها الكثير أمارة العز والجمال؛ اختارت

والسعف، تقدم الشاي ألهل الطريق ومحبـي سياحات الخالء، تجـول بالواحـات، تـصاحب

مـسلية وحكايـات الحب والزواج، تحكي بطرق باهرة نوادر البنات وتقدم لهن نصائحها في

تطيل عمر العجائز، تزف العرائس، تحضر لهن األقمشة والعطور ولـوازم الزينـة، تولـد

ـايا " الحوامل، تغسل الموتي، تدور علي البيوت في موسم البلح؛ لتأخذ نصيبها من ، "الـخـنـ

دخلت بيوتهم دون قلوبهم، عاشت علي الحافة دون أن يجرؤ أحد علي عدائها خوفا من كالمها

المكشوف، آخر النهار، تكوم العدة بجوار العشة وتغطيها بمشمع قـديم، تنـام هـي واألرض

.النهاري المزمن سواء؛ تموت من الشقاء

بحـذر؛ رأت حمـارا يـشد انتبهت علي حركة غير مألوفة، كشفت رأسها، تستطلع

م انفجرت في البطانية بقواطعه األمامية ويهزها، اعتدلت بهدوء ولطمت الحمار بظهر يدها؛ ث

والدكك، قامت متكاسلة، هستيريا، تضحك من نفسها، تركها الحمار وراح يتخبط في الكراسي

أطلت األحالم ترسم دنيا حالمة، مسحت وجهها وقرفصت علي الفرشة، تشممت رائحة غريبة،

تبعت أنفها المدرب علي روائح الصحراء، والرمال والكائنات الزاحفة، شدتها رائحـة آدميـة

يبة عن روائح رجال الواحات، زحفت ببطء، تتوقف كل بضع خطوات، حـددت االتجـاه غر

بدقة، اندفعت إليه، اقتربت برفق حتى ال ينتبه، التقط أنفها رائحة مميزة تعرفها جيدا، ركـزت

بصرها تحت الغطاء، صوبت عينيها إليه مباشرة، حبست أنفاسها، ببطء حذر اقتربت وأمسكت

.نافضة نفسا طويال كان مخنوقا في صدرها لحظة نفسها، تنهدت بارتياحالرأس والذيل في ال

Page 25: 6112

- ٢٤ -

تعري حجاب؛ لفحه البرد؛ قام مذعورا، رآها ضبابية، تبتسم وحبات عـرق لؤلؤيـة

تنبت فوق جبينها الحليبي الشاهق وثعبان مفرود بطول ذراعيها؛ كاد يموت رعبا، لملم نفـسه

!.....:أعماق جوفه الجاف همس من ،بمشقة، هدأته، شكرها ممتنا

.رفاعية خدامتك: قالت وهي مشغولة بسلخ الثعبان

تفحصها، بدا في عينيها ضعف إنساني نبيل، نحيلة فارعة ذات مالمح حادة، غـاص

في عينيها؛ رأي انكسارا هز أعماقه، تذكر وجيعته، أبحرت في عينيه؛ اشتعلت في قلبيهمـا،

ت طرفها ربما ألول مرة منذ كان الرجال ال يتحملـون في اللحظة عينها شرارة مقدسة، غض

التطلع إلي وجهها؛ دمعت عيناها، انسحبت إلي عشتها دون كلمة، اعتدل مذهوال عاجزا عـن

الحركة، ارتمي علي فرشته، يحاول النوم، تكشفت الصحراء عن فجـر جديـد، لكنـه ظـل

شا بال منطق إلي اتساع الفراغ؛ متفجرا؛ متقد الذهن؛ مكورا علي نفسه في وضع جنيني، مدهو

قفز فوق الحوض إلي السقيفة، ارتدي مالبسه بسرعة دون أن يجفـف جـسده،كانت المـآذن

الثالث والسبعون تصدح في فضاء الصحراء الرهيب، قرر الهروب نهائيـا قبـل أن تـشيع

كردي حكـم أساسا من جد حكايته علي لسان المفضوحة يمن؛ فحبسه صوت الظابط، المنحدر

الواحات قبل بداية التقويم، درس الحساب والجغرافيا والدين واللغة العربية والقرآن الكريم في

أول مدرسة بنيت بالجهود الذاتية أيام ثورة الوفديين، علي شكل صفوف هرمية متقابلـة مـن

الحجرات الضيقة، يتوسطها صف من أزيار فخارية للشرب والوضوء، يؤمهم فـي الـصالة

.تاذ اللغة العربيةأس

طلع األول وحصل علي عشرة قروش جائزة ظلت حديث الواحات أعوامـا كثيـرة،

وشهادة مزوقة بخاتم المأمور ناظر المدرسة التابعة لحرس الحدود، شارك في شبابه الباكر في

حفر ثماني وتسعين وثالثمئة بئر بالطرق البدائية، وبناء ثالثة وسبعين مـسجدا فـي ربـوع

حات البحرية، وسافر إلي أنحاء البالد متاجرا في البلح والزيتون والمشمش والزبيب بقوافل الوا

وعمـل أجيـرا فـي . الجمال إلي الصعيد والصحراء الغربية و الحمام باإلسكندرية ومريوط

األراضي الزراعية بيومية ثالثة قروش؛ رغم أنه الوحيد ألب ميسور؛ مارس صيد السمك في

ونة من فيضان النيل باأليدي، والعصافير بالنبال، واألرانب في البوادي بالبندقية، الغدران المك

وشملت ١٩٣٩التابعة لسالح الحدود، التي أنشئت عام " سرية العرب الرابعة "وعين قائدا لـ

النطـرون؛ ووادي الواحات البحرية وسيوة والضبعة وفوكه ومرسي مطروح وسيدي برانـي

عزيـز باشـا " اإلنجليز بعد أن كلف بقيادة قوة للقبض علـي اللـواء لكنه هرب من عجرفة

.وبعض الضباط المصريين الذين سببوا الذعر لإلنجليز" المصري

Page 26: 6112

- ٢٥ -

تزوج بنت العمدة وطلقها بعد عام واحد لخفة في عقلها، ونجا من موت محقق أربـع

ته سبعة من البنين مرات، قبل أن يموت بذات الكبد علي صدر مستورة آخر زوجاته، التي وهب

والبنات، في بيت قديم مبني بالطوب اللبن، وسط صفوف من البيوت القديمـة بينهـا مـدقات

ضيقة، يحوطها سور كبير عال به فتحات للحراسة مـن األعـداء والحيوانـات المفترسـة،

واللصوص واألشقياء، الذين يتربصون في الظالم بالبنادق، ويشعلون حرائق هائلة، يصطادون

ناس علي ضيها، قبل أن يأمر الحاكم مناديا يطوف علي حمار، يحذر من الخروج إلطفـاء ال

النجـاة األولـي مـن : الحرائق؛ فتتحول منديشة إلي مدينة أشباح في ليالي الشتاء السرمديـة

الحرائق الليلية، والثانية من الجوع في تيه الصحراء أثناء هروبه من جيش االحـتالل، أنقـذه

يبي الذي عجن، من كيسه الخاص، الدقيق بالماء والملح وسواه علي النـار، كمـا المرجع الل

كانوا يفعلون في حرب الطليان، والثالثة عندما انتشله حجاب بقارب حرس الحدود، في عمـق

قنال السويس كأحد العمالقة الوطنيين الفارين من العسف، أخفاه عن العيـون؛ تقاسـما معـا

سجائر اللف، وأهداه مسبحة بيضاء بمئذنة مفضضة وصورة قديمة الجراية والعدس والشاي و

األرواح جنـود مجنـدة مـا "وشارب مهذب، كتب علي ظهرها العنوان والتاريخ و بطربوش

". تعارف منها ائتلف

بلهارسيا أنهكت كبده؛ مشرفا علي أعمال التطهير لعيـون خاض حروبا ضارية ضد

مجاري والقنوات الرومانية، عبر ثالثمئة وستين فتحـة الماء واآلبار المحفورة في الصخر وال

طمرتها الرمال، بوضع كبريتات النحاس في الماء لقتل القواقع الناقلة للمرض، فـي محاولـة

صبور لتوعية األهالي الذين يعتمدون علي التطبيب البدائي لرجال البدو الليبيـين بوصـفاتهم

بتدائية، وانخرط في معارك سياسية شرسـة، منـذ في مدرسة القبالة اال العجيبة، وعمل معلما

..تفجرت ثورة يوليو، عضوا بارزا في هيئة التحرير واالتحاد االشتراكي

.ظل، آلخر قطرة من حياته، يقرأ بعدسة معظمة، كتب التاريخ المنسوخة بخط اليد

أيقظ الصوت النابض أشواق حجاب، رعشة أبدية ذكرته بلياليهما األولي معـا علـي

في أشواق المستحيل علي شـواطئ الفضفـضة؛ ة القنال، مستحمين بنور القمر، سابحين ضف

.انتفضت روحه لكن جسمه رضخ بال همة، أقاموا الصالة وانتظروا

.يال يا سعد -

.نطق الحاج محمد متأففا؛ يدفع النوم

.اللهم اجعله خيرا: نظر الظابط نحو الباب وقال

Page 27: 6112

- ٢٦ -

لثانية دخل حجاب إلي آخر الصف، سجد معهم، طالت تقدم سعد لإلمامة، في الركعة ا

السجدة، تفجر بداخله بركان نابض لشرارة نور ال تحدث كثيرا، لحظة قد يعيش المرء عمـره

كله يبحث عنها وربما ال ينالها، حين يكون روحا خالصا، غاب علي مشارف الواحات، حـين

ا ومضة حب تشبه الوحي، امتزجـا تعانق نور الصبح وذهب الصحراء المندي؛ جمعتهما مع

بكل كيانهما، لم يكونا بشرا عاديين يتعرفان بعضهما بأفعال الحب المألوفة فحسب، كانا كيانـا

يحلق في سماء حانية، غارقا في فردانية مسبحة؛ متوحدا في نفحة خلـد أبديـة، واحدا شفافا

رخيان فوق وسادة من القطيفة الخضراء، ينعمان بفرح الروح، يأخذهما الحنين إلي الحنين، يست

...تروح عيونهما في وسن ناعم، يريان أحالما ناعسة، تغفو روحهما محلقة في سالم

.هزه الظابط أكثر من مرة؛ ظنه سابحا في إحدي شطحاته البعيدة؛ ففرد ظهره ونام

ء في لحظات خاصة جدا تحس بالشبع، تعاف نفـسك األشـيا : دخل حجاب ذاته وتاه

شيء، امتألت حقدا واحتقارا، يفيض كلها، تكون متخما حد االنفجار، ال تريد إطالقا رؤية أي

بك الكيل قبل أن تأتيك انفراجة كشف حاسمة، يتملكك إحساس يفوق القهر، ال تطيـق مجـرد

الروح ببطء راسخ، تقرر االحتكاكات الضرورية، تكره الصراعات التافهة حول نفايات تخنق

لمـاذا : الفراق؛ بحثا عن الحياة، تصرخ بأنك لست من هذا العالم، لكن أي عالم تريد، تصرخ

؛ تتهشم ألقل بادرة صدام، تغرغر عيناك دمعا حارا؛ تداريه براحتيـك !؟أنا هش إلي هذا الحد

البيضاوين، أألن الدنيا ليست بنقاء الحلم الساكن فيك، أم أن رحابتك ضاقت بأوشاب البـشر؛

جدف عكس التيار؛ تكسرت كل مجاديفك وغرقت قواربك أمام األعاصير؛ هل تموت سريعا ت

مثل كل الحالمين، تتحدث مع نفسك كثيرا، تفتح نوافذك، تحاور الهواء والعصافير واألشجار،

.خالص زهقت: لمصطفاك، وروحك تسفح غما تقول

.الزم نرحل: يحتضنك بعينيه ويربت عليك بقلبه، تصرخ

".البلد دي أحسن من غيرها: "ك بإشفاقيحتوي

كل شيء مزيف، حتى المشاعر؛ كل واحد يعبد نفسه، يصلي ويصوم وربمـا يطلـق -

. لحيته، ويلون الدين علي هواه، الشر مال الدنيا

يبتسم ويدفع صدرك بحنان؛ تنتبه علي ألم خفيف في قلبك ودموع تلسع خديك، تحـن

..في أوحال الدنياإلي الحواريين الحائرين حتى النخاع

Page 28: 6112

- ٢٧ -

فرد ذراعه فارتطمت بجسم آدمي، فرك عينيه ونظر، رأي الظابط غارقا فـي نـوم

الحصير، سحب نفسه بهدوء ومضي خارجا صوب الخـالء، تـرك عميق حتى علم في خده

قابع بداخله، هده التعب فـارتمي علـي الطريق وضرب بعزم يسابق الريح؛ يهرب من شبح

اغتة جاءت كطوفان، اجتاحته رغبة قاهرة نحو امرأة بعينها؛ كأن صاعقا ظهره؛ في لحظة مب

مسه، بواعث تجارب بدائية سحيقة في القدم والعراقة تلتحم بـسنوات التكـوين والتحـوالت،

شيطان يجري في الدماء، تتماهي في النفس، تراقصت أمامه في فـراغ الـصحراء أطيـاف

المزهر بلون النور؛ حملته إلي آفاق الـدنيا وشـواطئ قزحية، ندي الفجر ينضح فوق جبينها

النعيم وسماوات الحب، اقتحمته في البئر بنظرة هامسة، بحضور فذ، ال تخاطب فيه الـشهوة،

ولو كانت عارية، فربما كساها العري بهاء وجالال، الروح الحوائي فيها نبـع إلهـام وتفـان

لة حياة من الماء والنار؛ تـسير فـي دروب مطلق؛ تسقط عنه كل هاالت الحكمة؛ فاجأته شع

الواحات بخفة المالئكة، أجهده حر الشمس والظمأ ومطاردة خياالت الجنون؛ عاد من طريـق

مهجورة، دار حول غيطان النخيل، يحدث األولياء السائحين في أنحاء الواحات، النائمين فـي

ء يحرسونها مـن عبـث أضرحة متواضعة تحت النخيل، عند المصارف، في قلب عيون الما

في " أبو رمالة "في بحري والشيخ " شتات"الشياطين، يسكن كل منهم بئرا تعرف باسمه، الشيخ

اعتمروا مدنا وقري عرفت بأسمائهم، سار علي المدقات الضيقة المحفوفة قبلي، األكثر سلطانا

ص عبد الحي وغيط بأسوار عالية من جريد النخيل، تعمد الخفة واالبتعاد عن بئر الحكومة وخ

ومـا : "الظابط، دخل السقيفة وأغلق علي نفسه، غابت نشوة الروح، فتمتم بلسان قلبه الغائب

يءرنفسي أب ة النفس إناروء ألما إال بالسم حمر يبر ي إنبر حيم غفورر."

***

ن الجالس أمـام بيتـه بمـدخل قريـة خرج الظابط من المسجد، سلم علي الحاج حس

الجزائر يفتل الحبال في ظل المسجد، اتجه إلي خص عبد الحي مباشرة، شطف يديه ووجهـه

ورجع مسرعا إلي السقيفة، تنحنح،لم يسمع ردا، دفع الباب ودخل؛ فزع حجاب وقام مدهوشا؛

حظة مواجهـة يحدق بخجل في عيني صديقه؛ يستشف فيهما أثرا لما حدث، أحس بانقباض، ل

غير منظورة في مرآة روحه وكل دنياه، كيف يرفع عينيه في وجهه؛ رحب به مرتبكا، تجاهل

.قم يا شيخ: الظابط ما يري وقال بفطنة

؟تعبان -

رد وهو يعتصر من الداخل، انتزعه من فرشته؛ فتبعه صامتا، لمحهما عبد الحي وهو

ويسخن الفول المدمس، يدفس كنكة الشاي في يغذي النار بالليف الناشف والسعف، يقمر العيش

.أهال بالمشايخ: جنب الركية ويحيطها بجذور الجريد المشتعلة؛ فقام متهلال علي البعد

Page 29: 6112

- ٢٨ -

اطمأن حجاب، تناول بلحة عجوة وفص خبز شمسي محمصا وكوبا من الشاي، جلس

احكا وهو يغمز للحاج قال عبد الحي ض . شاردا طوال الوقت؛ غائبا تماما؛ يرد ردودا مقتضبة

!عاوزين نفرح بالشيخ: حسن

.هن بهجة الحياة الدنيا: رد الحاج حسن

!واآلخرة وحياتك: قهقه الظابط

اغتم الحاج حسن وانتفض غاضبا، غشيته سحابة ذكري قاتمة، كان شـابا معجبانيـا

مكـة كثيرة ضيعها في عشق النساء، قبـل أن يحـج إلـي "حطايا "يمتلك من أرض الواحات

الصحراء الغربية وسيناء وصحراء الشام في رحلة استغرقت أربعة أشهر المكرمة عن طريق

علي ظهور الجمال، يتحسر علي أيام العز، ويقضي شيخوخة متعبة، يفتل حبال الليف ويصنع

السالل والحصر والديس والزنابل من الخوص والسمر؛ لتعبئتها بالعجوة والصعيدي والقـاقع،

" العجوز"امرأة " مسموعة"ا في حجرة واحدة مسقوفة بالجريد والليف، علي ذكري يعيش وحيد

لها برضاه الكامل، أذله العشق، فأفلس وهرم سـريعا؛ الموهوبة للحب، راهنت أن تجعله عبدا

دكانا صغيرا في إحـدي حجـرات البيـت، خرجت تبيع الوهم في صحراء العطش، فتح لها

الموات قبل أن يحصد أبو سكوتي رأس إبراهيم أبو الحـاج راجت تجارتها خاصة في سنوات

علي، شاع همس كثير عن رجال يمرون بالبيت أوقات الغياب، بعضهم يمكث شهرين أو ثالثة

ضيفا دائما أثناء سفره إلي الوادي في أعمال التجارة، مضت عشرون عاما، ال يدري أحد هل

واحدة من مشاجرات الالبقي المخمورة، تغامزوا في ، لكنهم !كان يتغابي أم أنه ال يعرف أصال

؛ فكنست "مسموعة"فضرب الرجل بالمحشة وطلق " قرني"عليه باستخفاف، عايره أحدهم بأنه

!الدار وتركت له الفقر والمرض والسيرة العطرة

رأيك يا شيخ؟: امتقع حجاب، ضربه الظابط علي كتفه

!في إيه -

.في الحريم -

من الملح؛ متخلصا من نظراتهم، وصل الـسقيفة بـصعوبة، كيسان جر رجليه كأنهما

".اللهم أتم علي سترك في الدنيا واآلخرة:"رقد علي ظهره ناظرا إلي السماء

بدأت الرجل تدب علي الطريق، الرجال يسرحون إلي الغيطـان، يركبـون الحميـر

، األطفـال "الفئـوس "و ،"المناجل"و" المحشات"ويسحبون بقراتهم الهزيلة، يحملون المقاطف و

يلعبون بالرمال في الظل القصير للحوائط، ويستحمون في البئر؛ تأملهم بحزن، وتمطي بداخله

.لماذا ال ينعمون بحظ أفضل: مارد قديم، حدث نفسه

***

Page 30: 6112

- ٢٩ -

وصلت عشتها في نفس واحد، تطاردها النار الغارقة في بئر الحرمان، تـشع وهجـا

ة، رقدت علي ظهرها فوق سريرها الجريد وتدثرت بالكليم الوبر، قاسي يلفحها بحميمية جحيميا

أخذتها رعشة؛ فأطبقت شفتيها، نخرها الوهن، رأته أول مرة مع الفجر؛ دائما الفجـر، وجهـا

دافئا وعينين هزيلتين تحتضنان الحياة بقدسية المحبة، تشعان بريقا متعبا آسرا، أحست يومهـا

ي أفنت عمرها تبحث عنه في مواويل العشق ومدائح عاشـوراء أنها وجدت نصفها اآلخر؛ الذ

أبـدا لمـاذا وليلة النصف من شعبان ومولد النبي، تركت الدنيا كلها وتتبعته، دون أن تعرف

تفعل، تحب سماع أخباره، تطرب لذكر اسمه، تفتعل األسئلة البريئة عن الغريب، تتفـنن فـي

ه، تتسرب في حنايا العجائز، تغمزهن بمهماز جلسات الضحي مع البنات إلثارة فضولهن حول

وفضول الثرثرة، تسمع لهن باهتمام بالغ تداريه بضحكات هازئة، ال تفوتهـا صـغيرة الوحدة

عن حياته، بلغت غايتها بيسر، في مجتمع مغلق يحوي فراغا شاسعا؛ يمـأله النـاس عـادة

حت أستار واهية من الـضباب بالكالم، يعرفون عن بعضهم أخص األشياء، تبعته في الخفاء ت

والليل، تنتظره كل يوم في طقسه الصباحي في البئر، تملي عينيهـا منـه، اطمأنـت تمامـا

نزوله الماء، خروجه، تأمالته تاركـا : حفظت طقوسه جيدا واستغرقت في مشاهدته، بال ملل،

سـابقه دون أن جسده طافيا علي ظهره فوق الماء، تفصيالته الدقيقة، كل يوم تقترب قليال عن

فذابت في تالل الرمال الـصغيرة، تشعر حتى وجدت نفسها في البئر، تحدق بال وعي، نهرها

صعودا وهبوطا، تحولت إلي حبة رمل تائهة في صحراء، لم تشعر بنفسها إال في عشتها فوق

سرير جريد تلملم أنفاسها الهاربة وروحها المنهارة، تحاول أن تـسيطر علـي اضـطرابها،

.تحلب هوس الرغبة وتس

***

هتزت الواحات حتى جمار النخيل؛ ألول جريمة في أزمنة الخصب وقتـل الـشاهد

الوحيد في معركة العمدية؛ مسحت الحكومة أرض الواحات حتى ال تتحول واحـات النخيـل

الوادعة إلي مراع للقتل؛ بحثا عن قاتل من األعيان ذهب لالستشفاء في مستـشفي العاصـمة،

أنه أمل حياته، بعد مـا تـواري جاب إلي سيرته؛ مستغال انشغال الناس، يعمل ما يظن عاد ح

الحلم تحت ركام هائل من العقبات كان عليه أن يجتازها، أعير مدرسا،لم يتحمل طويال حيـاة

رغدة في بالد ينخرها السوس حتى النخاع، يمتلك فيها كل شـيء إال نفـسه، حيـاة متخمـة

نت الزوج من البذخ والفراغ، اتسعت الهوة بينهما؛ فاختنق بتفاهـات حيـاة برفاهية العبيد؛ ج

.خالية من الحب

Page 31: 6112

- ٣٠ -

ذاب فيهم، يحضر األفراح و العزاء، يعلم األطفال في المسجد ويصلي بالناس، يعود إلي

سقيفته مهدودا؛ ينام في الحال، يستيقظ في السحر؛ تسكنه الوحدة القاتلة، يرعبه وشيش الفـراغ

الي الجفاء، يفرش الليل رداء أسود علي الصحراء، تطل أكمة النخيل مثل رءوس شياطين في لي

تمزقها الريح في دوامات تجرف النوم وراحة البال، شجاعته تخونه، اعتاد الصمت المتـوجس،

يتحسس ما حدث في عيون األطفال، يتلمسه في أكف الرجال في سالمهم بعد الصالة؛ خوفا مما

، رغبة في تمحيص نفسه والعودة إلي التخلي، لكنه لم يعد الشخص نفـسه قـط؛ "يمن"قد تشيعه

يطارده في كل شيء، في البئر أثناء الحمام اليومي، يذوبا معا قبل أن تبزغ الـشمس " يمن"وجه

فوق الجبال وقمم النخيل المثقل بعناقيد البلح الصفر والرطب، قبل أن يتـسلل الفالحـون إلـي

ل الخص، طوي جوانجه علي سره الكبير، ما أسهل السقوط، امتلك عالما في غيطانهم ويلتئم شم

إنسانا ينفتح عليه دون خوف؛ يكلمـه كأنـه :قبضته ويخاف أن يفتحها حتى ال يفقده، امتلك حلما

يكلم نفسه، دون أن يعاني شعورا قاسيا، بأنه عدو محتمل، صديق أعـاد إليـه الحـب والثقـة

ذاته، يصارع عاداته القبيحة المترسبة من زمن الرماد، ينام واقفا، يتبول ال واألمان، اختبأ داخل

األسـعار، في المقابر والطرق المنسية، انشغلوا عنه بموسم البلح، فحـش إراديا، يمشي مقهورا

تغليف البلح وتصديره، يصاب الناس بالسعار، تختفي سماحة الكـسل، استغالل أصحاب مصانع

رجع إلي وحدته المعذبة، غاب أكثر األطفال في أفـران ،لحج وموالد األولياء تؤجل الزيجات وا

لم تتفوه بشيء، شمله إحساس بالضياع، يفكر في كل لفتة، " يمن"حاول أن يؤكد لنفسه أن . البلح

اإلنسان هو هو في أي مكان، مجرد دودة تلهو بين فكي الرحي، تـسعي فـي : يكلم نفسه بحزن

لمـا جاء، رجاء سادة متوهمين فوق البشر، وخوف المجهول؛ انتظـارا بين الخوف والر ظالم

نقطة نقطة؛ بانتظام في أفـواه فـاغرة تجود به سماحتهم القاسية في صبر ميت، حنفية ماء تنقط

تكاد تموت من العطش، عطش محسوب في برزخ الحاجة بين االرتـواء و الجفـاف، شـعرة

إلي االنفالت، الخروج من األسر، ارتكاب الخطـأ، معاوية؛ ضربه اليأس، قهر يدفع روحه بقوة

إذا كان ثمة صواب، كسر الشرنقة؛ النفايات تحوطنا في كل مكان وكل شيء، تخفـي رائحتهـا

الحقيقية وتحاول أن تتجمل، تلعق القدم التي فوقها بألسنة الرغبة في حلـزون ال ينتهـي أبـدا،

مون، لهم حيثيات ليست لآلخرين؛ هم طـوال يظلون معلقين في فراغ، يوهمون أنفسهم بأنهم مه

القامة مثال أو يمسكون مسابح طويلة من ذات التسع والتسعين وعالمة كبيـرة فـي الوجـه، أو

يرتدون جالبيب بيضاء قصيرة، يعرفون جيدا وبعفوية حاذقة كيف يجعلون المأثورات متـاريس

كلمون بلسان مقدس، يتناسـون أن وقناصات وشباكا؛ يسيطرون بها علي الناس، بنعومة فائقة، يت

اهللا ينظر إلي القلوب واألعمال ال الصور واألجسام؛ يقدسون أنفسهم طوال الوقـت وينتزعـون

امتيازات ال يستحقونها؛ لن يأخذوا في النهاية سوي لعنات األلسنة التي تلعق أقدامهم، واحتقـار

.. وخسر نفسهاألقدام التي يلعقونها، فماذا يفيد اإلنسان لو كسب العالم

Page 32: 6112

- ٣١ -

تاهت معالمك، تهرب من الوهم إلي الوهم، من الجحيم إلـي الجحـيم، مـن ؛اختنقت

النفايات إلي النفايات، أميال وليال في أتون الصحراء؛ لتصهر روحك وجسدك ويموت الخبث،

تخطيت المقابر وبوابات الجحيم، الجبال الوعرة، الكهوف المسحورة، التالل والوهاد، الـذئاب

ألغنام، لتنام هنا ضائعا تحت أكمة النخيل وحشرات الليل، غريبا، طالت غربتـك ونحلـك وا

.الهم

سكت طويال؛ يبحـث عـن إجابـات .سأله عن الغياب .استبطأه شعبان؛ فاقتحم خلوته

. الفراغ: مقنعة، بعد تفكير عميق صامت، قال

.طبيعة الحياة هنا: ضحك شعبان بفكيه العريضين وقلبه الساذج وقال

.الناس تحتاج المساعدة -

...ال -

تشاغل بأشيائه القليلة المبعثرة في السقيفة، حتى ال تفضحه عيناه، أحس شعبان بحرج

لنفسه، تناوشه المخاوف، يركبه سعار الحلـم مثـل حمـار تركه.فاستأذن متعلال بشغل الغيط

الثعبـان العنب، تسكنه امرأة الجوع، صادفته ذات فجر ندي مغمور برمال متحركـة، قتلـت

وأحيت القلب، دخلته بلطف دون مقاومة، أوهم نفسه بنسيانها، بإرادة هشة، ضحك علي نفـسه

كثيرا، فاجأت عريه الداخلي، وجدتها متربعة في سويدائه، قبع في سقيفة البـردي والـسمار

والخوص، علق آماله فوق مشاجب من الوهم، أوتاد تحمل الزاد اليومي مـن الجـبن واللـبن

المملح والعيش الشمسي واألحالم، يدفن أوجاعه في غالي الشاي األسود المغروس في الرايب

نار السعف الورقية، يغتسل في البئر الضحلة، يعاند رغبة ال تغلب عبر مطاردات جهنمية بين

مروج النخيل الملبدة بالهوام والحشرات وكائنات الخفاء، تتراقص علي جسده األشيب، الـذي

اهتز بقوة غير متوقعة، أذهلته في البداية، ألجمت لسانه في حلقه الناشـف؛ عذبه ببقية رمق،

خوف موته بين يديها في أول اختبارات الـروح، انـتفض "يمن "فلم يستطع النطق، ارتجفت

برغبة عارمة وخبرة قديمة، صفعته بكفها المدرب؛ انقض عليها يمزقها بوحشية جوع كـافر؛

ونة واألشواك المسنونة الموسـومة ببكـارة الرمـال والبئـر تمرغا معا فوق الحشائش الملع

النازف من جـسديهما المتـسربلين النابضة، انتهيا في غفوة واحدة بقاع بئر ارتوت باألحمر

بوصمة عار وليل طويل من اللذة واأللم، انتبها لعريهما الفاضح؛ سترت نفسها بيدها وخرجت

يدها األخري، لبسته في لمحة؛ فنضح بماء دافـق، مسرعة من البئر؛ التقطت جلبابها األسود ب

أخذت روحه وانطلقت دون أن تنظر خلفها، وصلت العشة مدفوعة بجنون اللحظة األبدية لكل

.الكائنات األرضية الباحثة عن سعادة االكتمال

Page 33: 6112

- ٣٢ -

ظل ساكنا غير مستوعب، غطي سوأته بورق الستر مترقبا لعنة الطرد، محموما بالندم

ا بين روعة اللذة وفجيعة الذنب، هاله عريه؛ فشمله سخط عـارم، اختبـأ فـي الخارق، ممزق

الماء، غفا لحظة عابرة؛ فانبعثت رءوس مزروعة عيونا، تحدق فيه بغل واسـتهزاء، نبتـت

للرءوس أعناق، اشرأبت واستطالت ونبتت لها أكتاف وأذرع وجذوع وسوق وأقدام، اسـتوت

جمه بحقد مـدفون وتـصيح صـيحة لة بحجارة مسومة تر خلقا كثيرا، ارتفعت األذرع الطوي

.اقتلوا الغريب. .اقتلوا الزاني: واحدة

تزلزل الفراغ والنخيل والهوام، هاجت العصافير، أفاق مغموما، زحف علـي بطنـه

.حتى وصل السقيفة؛ وانفتح في نحيب مكتوم

***

ائدا من الغيط يحمل فاجأك الظابط، بإطاللة يومية في طريقه إلي البيت قبل الظهر، ع

عرجون بلح كبيرا وبعض الفاكهة والزيتون والليمون، تنحنح، لكنك لم تسمع، دخـل وألقـي

حمله؛ فارتطم باألرض، أطلق سهمه مرة واحدة؛ أجفلت ورفعت عينيك؛ وقعتا فـي عينيـه،

فارتبكت كأنه رآك عاريا، غضضت طرفك سريعا، نفذ إلي أعماقك، ضحك بجسده القـصير

.الزم تتجوز: ك وقالالمدكو

؟عندك عروسة: أخفيت ضعفك بضحكة متكلفة

؟أنت تشاور -

.يال، حسن الختام -

.الدهن في العتاقي: خبطك علي صدرك بظهر يده

!العتاقي بقي: استجمعت هدوءك

ضربك علي فخذك، نفخ في الرماد فأيقظ فتنة نائمة، ومشي دون أن يبـالي، زعقـت

.خد حاجتك: عليه

.كل سنة وأنت طيب: لحيته بيمينه يمسدنظر إليك وهو

أم أنـه يـتكلم علـي ؟هل الحظ شـيئا :أغرقك الظابط في متاهات الشك والتوجس سجيته،لم يقل شيئا صريحا، ولم تلحظ شيئا غير عادي في عيون الناس أو األوالد في الكتاب،

إذا اقتربت . حاولت بكل استطاعتك الحفاظ علي مساحة الوهم، حالة عجزت عن معرفة كنهها تحطم الحلم وتعرت األسطورة بال وهج، وإذا ابتعدت مات رمق الحياة األخير بأعماقك، عشت فوق صراط حاد مضروب بين الحلم والتحقق، حالة وجد عبر إشعاعات عيون مقتحمة تتحدث

.بوله لطيف، اقتحمك ثواني وتركك تكابد الوهن دهرا

***

Page 34: 6112

- ٣٣ -

إلي المسجد، كان خاليا، وصل موسم البلح إلـي في البئر وذهب صحا مبكرا، استحم

في غـيط أحـدهم، النـساء الذروة، الرجال يقطعون البلح في الغيطان، كل مجموعة تتزامل

والبنات يعملن في مفارش البلح في حرم البيوت، أحس ألول مرة باتساعه، حصره المصنوعة

عم، تتدلي من سقفه سعفات نخيـل من السمار معفرة؛ عليها طبقة رقيقة من الغبار األصفر النا

مهترئة، تسقط فوق األرضية األسمنية، ركن ظهره إلي المنبر الخشبي الثالثي الدرجات،سحب

العتيق بغالفه السميك وأوراقه الصفر المتهالكة، من فوق درجات المنبـر، " رياض األحباب "

فس ومعرفة الـدنيا، مـن معرفة اهللا ومعرفة الن : إصالح العبد في ثالثة :" قرأ ، نفض التراب

؛ تيقن أنه لم " ومن عرف نفسه تواضع للعباد، ومن عرف الدنيا زهد فيها ،عرف اهللا خاف اهللا

يعرف شيئا علي اإلطالق، بينه وبين المعرفة بحور وحجب، سرح في التيه؛ فغلبه النوم، رأي

ـ حافلة زجاجية وسط الماء، تطير فوق جسر معلق في الفراغ، يتدحرج رعة فـي بأقصي س

مطبات عميقة ومنحدرات شائكة، يعلو ويهبط مثل كرة الثلج، يترك الجسر ويسير في طريـق

مائية محصورة بين جبلين، استغرق في متابعة شق الجبل والبيوت النائمة في حضنه، األطفال

العراة المشدوهون برؤية الحافلة، يفتشون في النفايات بحثا عن شيء يـسد الرمـق، روحـه

القرب، هلل بفرحة طفـل يـرقص تحـت نتشية بجالل الحزن، السماء تنفتح كأفواه ترفرف م

المطر، يداعب رذاذ الماء بيديه ووجهه، اصطدمت الحافلة بقمة ثلجية مطمورة تحت المـاء؛

اندفع الركاب دفعة واحدة مبعثرين في الهواء، كائن مشوه ظل يأكل بنهم شيئا متحجـرا مـن

بمفتاح صغير، حتى الحواف والجوانب المطبقة، يفـرك الفتـات، علبة كرتونية، يحك العلبة

ويقذفها في فمه، يقضم بعدها قضمة خبز، يضم كفيـه " حفانه"تتساقط صغيرة جافة، يلمها في

من الماء؛ يشرب ويشطف وجهه، يبدو مـتهلال غايـة مـن " حفانين"علي شكل مغرفة، يأخذ

..السعادة والبله

لمعت أسنانه القوية البيض، انتشي بـاهتزازات مركـب ابتسم حجاب ابتسامة حزينة،

...سيدنا. .سيدنا: شراعية تختال فوق ماء هين ويد صغيرة ناعمة تدغدغه برفق وهمس

انتبه مبتهجا، يفكر في الحافلة الزجاجية والمركب المختال، قدم له محبوب طبقا مـن

في يده اليسري، شرب رشفة تمر وكوز لبن، تناول واحدة، مضغها علي مهل واحتفظ بالنوي

أحسن في الإنسان خلقنا لقد الأمين البلد وهذا سينين وطور والزيتون والتين :"لبن، فتح اللوح

فمـا ممنـون غير أجر همفل الصالحات وعملوا آمنوا الذين إلا سافلين أسفل رددناه ثم تقويم

د يكذبكعين ب٧بالد} سكم الله أليبأح اكمينالح.

Page 35: 6112

- ٣٤ -

تهلل وجه حجاب ومسح علي رأ س محبوب وقبل جبينه بأبوة محرومة، هو الوحيـد

ـ ه، تقبلـه الدائم الحضور حتى في موسم البلح، هز رأسه حالما، طفلته الصغري تتعلق برقبت

.بابا أنا بحبك قوي: بفمها الرقيق وتقول

يبتسم متحاشيا الرد عليها، تتمادي وتتهمه بالفوضي، يـداعب .تنهره زوجه بلهجة آمرة

الصغيرة ممعنا في اللعب متفاديا النظر إلي وجهها، شح الهواء، تـصدعت الجـدران؛ يتـنفس

عليه شعور قاهر بعدم الجدوي؛ تتوقـف بصعوبة بالغة؛ مس من المهانة والعقم والتصدع، سيطر

الحياة برغم محاوالته المصرة علي منطقة األحداث في دوامة من التلفيق ليصبح كل شيء علي ما

يرام، تظل في العمق مسحة إحباط؛ عبثا يبحث عن القدر والنصيب وكل مسكنات القهر المدفونة

لي طويلة في خلوته، عازفا عن الناس، يظن في تراث عريق من االستكانة، يظل مسهدا أياما وليا

يأتيه، يستريح بعـض الوقـت، ال نفسه فاتحا حين يتصور ـ في لحظة إلهام وهمية ـ أن وحيا

يلبث أن يفاجئه االنهيار التالي فاجعا؛ فيبدأ رحلة جديدة من الشك والعدمية، يعـود إلـي النقطـة

.! أن نعيش فحسب؛ فما الفرق إذنإذا كان همنا: نفسها، يقف متسائال عن الجدوي

: يشغل نفسه بأشياء عادية، يكلم نفسه بال صوت، تفاجئه أم العيال بـسؤالها المقـتحم

!بتقول حاجة

.أبدا :يرد بشكل آلي

.الرجل اتهبل: تلوي شفتيها متبرمة

يفتح التليفزيون؛ تهاجمه نوبات عاتية من الجثث والحرائق والدماء، يرسخ لديه وعي

، يتبلد، حتى بكاء صغيرته ال يحركه، يتماهي في أفعال صغيرة، يتسلل علـي رءو س مقهور

أنامله؛ هربا من سباقات القتل اليومية ومدافع الشجب االحتفالية، عالم موبوء بسحر االسـتبداد

تتسع كنكة: الراسخ منذ عهود االحتالل السافر، يتلهي بأشياء وهمية، يجهز العدة ببطء متعمد

قهوة واحد، مجمع السكر، برطمان البن المحوج، يغسل الكنكة، يمأل الفنجـان، يعمـل لفنجان

حساب البن والسكر، يفرغه في بطن الكنكة، ملعقة سكر واحدة واثنتان من البن، يقلب بـبطء،

شارد الذهن، يذوب السكر والبن في الماء، علي نار هادئة، تنضج القهوة علي مهـل، تحملـه

حاب، يأخذها علي طبق الفنجان، ينزوي فـي ركـن مظلـم، يرتـشف دون الس رائحتها إلي

إحساس، تأكله الوحشة، يهوي من عليائه تحت طوفان األقنعـة والوجـوه الثلجيـة؛ يـراوده

.الخروج، التمرد إلي الالمحدود، تقتلعه حال من الفيض والجنون

!. إنت بتعيط،سيدنا. .سيدنا.. -

. يا ولدسمع: يمسح وجهه بكفيه بسرعة ويشخط

***

Page 36: 6112

- ٣٥ -

انتهي موسم البلح، تنفس الناس الراحة، بدأت األفراح تغزو الواحات، أحس أنه معلق

بال جذور؛ استعاد توازنه بقدرة فائقة علي اإلذعان والتكيف، قرر أن يمد جـذورا، في الهواء

ة المعششة داخله المرأ متواشجة مع الصورة الخالدة " يمن"ولو في الهواء، ألحت عليه صورة

الحب، لم يقو علي تحمل السر طويال، انفتحت خزائنه من تلقاء نفسها، صـار لقـاء الـسقيفة

مقدسا رغما عنهما وأخذ سمت المودة والرحمة والسكن أكثر منه ساحة قتال لمبارزات ضارية

انتفض انتفاضة موت، وهو يحوطها بذراعين متخشبتين، بعدما انقـض . إلطفاء جحيم الرغبة

.أقتلك: من جوف البئر، محتميا من قيظ الهاجرة، قال لهاعليها فجأة

!إنت بتترعش: نظرت إليه بإشفاق

.م اللي في: خرج صوته مخنوقا

انفلتت بنعومة وتركته يعض الندم ويهش جيوش الذباب الوحشي الذي هاج، لحقها إلي

إليـه وضـمته السقيفة الهثا، دفن رأسه بين نهديها الضاويين كفروة أرنب عجوز، نظـرت

.بجد إنك تكون غير نفسك الشقا: بعذوبة فائقة وقالت

يدرك، بالحدس، أنه لن يصمد طويال، في لحظة منسية ومباغتة تطل عليـه كـرأس

أفعي، يتعري ويسقط مثل جبل انهار فجأة، مخلفا وراءه كثيرا من الضجيج والتـراب، زلـة

الظابط أمام نفسه بـضربة واحـدة؛ رد لسان عابرة، لن يستطيع التخفي طوال الوقت؛ كشفه

.نسوانكم تعلم العفة: مبهوتا

! يا شيخ -

: انتظر برهة وهمس بابتسامة ماكرة

- ــنــم !.؟وي

.قذفها بسرعة وعيناه في عينيه

: صعق حجاب وقال بتسليم

."القلب وما يريد" -

:ضحك الظابط فاهتز جسمه القصير وعبث بلحيته

!وكالم الناس؟ -

.كل واحد حر -

. مش في بلدنا -

***

Page 37: 6112

- ٣٦ -

فناء واسع يحيط به سـياج كبيـر، : اشتغلوا ببناء البيت علي الطراز الواحاتي العتيق

بالداخل غرفتان مبنيتان بالطوب اللبن وبئر بها شادوف لري الحديقة الصغيرة والخـضراوات

لجريد المنزلية، فرشوا األرضية باألسمنت، أحضروا السرير والدوالب وبقية المستلزمات من ا

البيت بالجريد والعذوق، بدا الظابط مهموما يتناول طعامه في صمت، نظرته والسعف، سقفوا

؟خير إن شا اهللا يا خويا: ؛ تبسمت في وجهه وقالت"مستورة"

أفضي لها بهواجسه؛ فانتفضت، احتواها في صدره بحنانه اآلسـر، قالـت بانقبـاض

.ربنا يجملها بالستر: شديد

.سحت علي رأسه فم؛هصر يدها برفق

اليومية بالواحات، تنادي علـي المناديـل والحريـر جاءت يمن في سرحة العصاري

والنايلون والمسك والعنبر والزعفران ولوازم العرائس، طائر طنان ال يستقر علـي غـصن،

أغوارها، انتشر الخبـر بالواحـات صاحبت الجميع، أحبوا جرأتها وخافوا لسانها فلم يسبروا

النساء، زواجها يقفل باب النكد األزلي بين األزواج، وتحسر الرجـال، فاحـت كلها، فرحت

السيرة في دوامات أثيرية، تذوب في الهواء وتتالشي قبل أن تعرف يمن، تحس تغيـرا فـي

والهمسات، الضحكات المكتومة، الوشوشات المبتورة لحظة دخولها، خمنت، الوجوه، الغمزات

توهجة بالحب الطائرة فوق سحابات العشق ملتحفة بـالعراء، ال لكنها عزت ذلك إلي نفسها الم

تري وال تسمع؛ نادتها مستورة داخل البيت الخالي من الرجال وألقت إليها البشارة، أكدت لها

.ما تعرفه بالفعل

***

أصيب الظابط بشوكة نخيل في قدمه، وهو يقطع الجريد؛ نزف بسيط؛ لم يلحظه فـي

مره، تسرب خيط الدم، بدأ من بحري حتى الجهـة القبليـة فـي غمرة فرحه بزواج صديق ع

مـن "البـصباصة "طرف الواحات، ربط كعبه بقطعة قماش وواصل العمل حتى المساء، صنع

قمـاش، : الجريد المتعامد وربطها جيدا، علق عليها عقدا من الطيور والحمام وهدايا العروس

بلغة، مرآة صغيرة، مقص، عقد مـن قميص أبيض، رداء ملون من القطن، لفاع من الحرير،

فـي موكـب النـساء البنور ذهبي اللون، قطعة صابون، فوطة، طبق من الحناء، وحملتهـا

العروس ومداس، في طريق طويل بالطبـل مع وعاء مكشوف عليه قلة فخار ومخدة "التغربيل"

ويغنون حتى " الحجلة"واألرغول، يطلق الرجال األعيرة النارية؛ ابتهاجا بالعرس ويرقصون

:يصلوا إلي بيت العروس

Page 38: 6112

- ٣٧ -

روحـــــو نجامـــــل الحبايـــــب

ــا ــالي الهنــــ ــي ليــــ فــــ

ــي ــسيف الماضــ ــدناها بالــ خــ

ــي ــشيخ العربـــ ــت الـــ بنـــ

ــديل ــت المنـ ــن تحـ ــا مـ عينيهـ

ــل ــي طومبيـ ــزازة فـ ــول جـ تقـ

***

اغتسل حجاب في عين البشمو بصحبة الرجال، واغتسلت يمن في عين قريبـة مثـل

، واتفـق "الشبرية"جهز الظابط . ز وحراسة رجال أشداء بالبنادق عروس بكر، بصحبة العجائ

تماسك أيام الفرح السبعة . السودانية أشهر مغنيات الواحات علي إحياء الفرح " عائشة العبد "مع

بلياليها، اطمأن علي كل شيء وانسحب في هدوء؛ تصفي جسمه، سقط بعلل قديمة، أيام كـان

زبو وعين الغرد، وتركت فيه ندبا صغيرا ظل ينمو حتى قضي يقاوم البلهارسيا في منديشة وال

أخذه عابد بـسيارته . علي كبده تماما، توقف الفرح، تشتتوا جميعا، تركوا كل شيء علي حاله

المتهالكة من زمن الحرب األولي، جلس شعبان بجواره وأسنده إلي صـدره، جلـست " الزل "

الميري علي بعد عشرة كليومترات، وجـدوا مستورة، تنعي البخت األسود، وصلوا المستشفي

غرفة االستقبال خاليا، نبتجي وحيد ينام تحت لمبة صفراء، فز مرعوبا، قابلهم متبرما، أدخلهم

واسعة بأسرة كثيرة مهترئة، وبالط متسخ، استيقظ الطبيب منزعجا، أعطـاه مـسكتا، تركـه

.في آخر بالد المسلمين "ي حدفتهالكوسة الت"ورجع يكمل نومه، في سجنه اإلجباري وهو يلعن

وضعوه فوق سرير بجوار الحائط، في حجرة مستطيلة بأبواب كبيرة مفتوحة وشبابيك

مكسورة الزجاج، رجع عابد وشعبان وتركا مستورة، تقاوم ألما مزمنا يقبض روحها ويرعبها

اجزة؛ لكنهـا من حلم يطاردها منذ سنوات؛ لكنه عاودها بقوة وإلحاح، نظرت حولها، حياة ع

حياة، في هذه الحجرة المعتمة، ذات األسرة المتهالكة، تحمل أشكاال وأنماطا مختلفة من البشر،

شاب صغير بوجه حليبي مشوب لفت نظرها أكثر هذا اإلصرار الصامت الذي يطل من عيني

بصفرة خفيفة ومسحة حزن باسمة، إرادة حياة برغم الرحلة الطويلة لـساقه المعلقـة، لكنهـا

. فوجئت بشخص ينظر إليها ويدخن، تعجبت واستحيت أن تنظر إليه

في اليوم السابع، أخليت الحجرة تماما من كل المرضي ما عدا الظابط الراقد في شـبه

غيبوبة، والرجل المدخن، تنبه الظابط من غيبوبته علي صوت حريمي غيـر مـألوف، دخلـت

ا ذراعيه وغمز بعينه للممرضة، غابت لحظـات المرأة إلي الرجل مباشرة، نهض واستقبلها فارد

ورجعت معها الممرضات والفراشات، أعطاها لفة في يدها، أطبقت عليها، غمز لها مرة ثانيـة،

فردت المرأة مالءة في منتصف الحجرة، ساعدنها في إزاحة األسرة وكنس األوراق والسرنجات

حوا أيديهم في ورق الجرائد، نظر إليهم البالستيكية واألكياس، فرشت الطعام؛ أكلوا بسرعة، مس

...يال: نظرة ملغزة، تخاطفوا األكل وجروا يضحكون، نظر إلي المرأة

Page 39: 6112

- ٣٨ -

!علي األرض -

.علي األرض -

.الرجل يسمع -

!يسمع -

.وقهقه برعونة

.دا هربان من عزرائيل -

.إنت مفتري: صرخت باللذة

أغـرق المـالءة حبس الظابط أنفاسه، تسرب سرسوب ساخن من مثانته المضغوطة؛

برائحة كريهة، تناوم مقاوما انفجار بطنه، انتهي الرجل وفرد جثته علي األرض، رمت عليـه

مالءة بيضاء نظيفة، شالت الهدوم، أطفأت باجور الجاز الوشاش، جهزت المياه، قام متكاسـال

ة، فـي يتثاءب، لف نفسه بالمالءة، غسلته، شطفت يديه ورجليه بإبريق كبير برقبة أوزة طويل

طست نحاسي، نشفت جسمه ولفته بالمالءة، شطفت نفسها بسرعة، وخرجت قبلـه، غيـرت

.مالءة السرير، سرحت شعره وعطرته ولمت الصحون والغيارات المتسخة

.تؤمر بحاجة يا سيد الناس: قالت بانتشاء

.متحرمش: حبك الطاقية فوق رأسه وشد نفسا عميقا من سيجارته

م الظابط إلي الحمام بسرعة؛ فتعثر في الطست ووقع علـي الـبالط خرجت المرأة فقا

.المكسور

***

تعبت مستورة من الذهاب إلي المستشفي ليال والرجوع نهارا، تخدمـه خدمـة العبـد

للسيد، بتفان وإخالص، دون أي إحساس بالمن، اختارته هو، دون كل من تقدموا لها؛ لتمنحـه

اإلغراءات و المعايرات، بقصره وفقره إلي الوسامة وفارق جمالها وفتنتها وبركتها، برغم كل

السن في مجتمع يقيس الرجال بالشبر،لم تشعر لحظة واحدة أنها أخطأت،كان رجـل حياتهـا،

وهبته نفسها عن طيب خاطر، بسعادة مطلقة، أطل عليها ذات حلم من فوهة البئر وهي تستحم

فت النهاية، يغالب الشوق، يرغب فـي قبلـة، في النور فتخلل روحها، بعد أربعين عجافا، أز

تمناها طويال دون أن يصرح، قبلة عرفان، رد الجميل، حضن رحيم، يغيـب فـي أعطافـه؛

امتنانا خالصا، يختزن رائحتها في أعماقه، رائحتها البكر حين دخلت عليه تتعثر فـي فـستان

مفروشة بحصير ومرتبـة زفافها الطويل ذي الكرانيش، تنظر في األرض، في مندرة وحيدة

محشوة مزقا قديمة، ومخدة عروس ذات شراشف ملونة، وجذع نخلة مركـون فـي زاويـة

المندرة لتعليق الهدوم، وقلة مزروعة الحواف بالقمح األخضر والحلبة، بجوارهـا محـل أدب

Page 40: 6112

- ٣٩ -

صغير، ثالثة أحجار منصوبة فوق حفرة في الرمال، وزلعة ماء وكوز، تتالحق أنفاسها فـي

لوجه، تحت سقف واحد وأربعة جدران، كـشف نقابهـا، برهبة التجربة األولي، وجها وجهه

أمسكها من ذقنها ثمرة المانجو اليانعة، رفعها بأصابعه السوداء، ظلت مغمضة، أهدابها تفرش

رغبـة ظالال حانية علي وجهيهما، همس في أذنها؛ شفتاها تختلجـان بـوهج الحـب األول،

في أنهار جنة ذات عـسل مـصفي أليف، تالقت الشفاه وغابا معا احتضان ناعسة تتوق إلي

..وخمر لذة للشاربين؛ لو ذبحا بسكين مثلومة ما أحسا

عاد إلي ذكرياتهما السحيقة معا يوم كان يعد لها فتحات القميص الوردي الوحيد الذي

قبل أن يلمـح، يراأهداه له الضابط اإلنجليزي بمناسبة زفافه؛ تاقت نفسه إلي خمرها؛ تردد كث

مجرد التلميح، ظلت تبكي علي مدي ليال ونهارات كثيرة، جاءت اللحظة الحاسمة، تجـسدت

أمامها رؤيا غائمة، مرت عليها أعوام ال حصر لها من النسيان والترقب، التوجس من لحظـة

الضعف، رأته يقف بعيدا عنها في أرض جدباء، مرتديا جلبابا أبيض وعباءة خضراء، وهـي

المـاء، حتـى طـال واقفة علي بئر ماء عميقة، تسقي الناس، مبتهجة، يحاول أن يصل إلي

انتظاره وعطشه؛ يستعطفها، الناس تشفق عليه وتسخط عليها ألنها تمنعه المـاء، رقـت لـه

وسقته، شرب حتى ارتوي، نظر لها نظرة امتنان طويلة وطار إلي السماء علي فرس بيضاء،

.ظت مفزوعة، تستغفر اهللا وتستعيذ من الشيطان الرجيموسط عرس مالئكي؛ استيق

مع األيام غار الحلم في أعمق زوايا النسيان،، إال أنه يتجسد أمامها بقوة، منـذ تلـك

الليلة البعيدة، أحست أنه قدرها، تعيش من أجله، تقاوم لهفتها إليه، حانت اللحظـة، انهـارت،

كل شعرة في جسمها، كل ذرة في كيانها تحتاج اجتاحها سيل بعثر كيانها، كل نقطة في دمها،

ال تستطيع البوح، أو إبداء القبول في حضرة المرضي، الزوار، . !إليه، تساءلوا عن سر البكاء

أبناء العمومة، خطابها القدامي، تري الشماتة في عيونهم، طامعين في امرأة رجـل مـريض

بـالعطف والـشفقة، دون أن تخلـو يهادن الموت، الكل يسأل بشغف حقيقي أو سخرية تتزيا

الحجرة ليال أو نهارا، أحس دبيب النهاية، الخدر اللذيذ؛ ترك لسانه، قال ما ال يقال، عرفوا في

لحظة واحدة ما حيرهم سنوات، كيف يقبلها أمامهم، زاد بكاؤها، ترغب في تلك اللحظة بالذات

كنها تخشي الحلم المتربص خلـف القـدر، أن تقبله أمام عيون العالم كله، تقبل يديه وقدميه، ل

ضعفت أمام حبها، أصروا علي إخالء الحجرة، أصر علي بقائهم، ليشهدوا رد الجميـل مـن

رجل يمضي لحظاته األخيرة؛ يوقع صك حبه المرأة حياته، يختمه بخاتم األبدية، فـي البيـت

الشغاف، نـسيا العـالم القديم الذي شهد بدايات الحب ونهايات الحلم، احتوته من النخاع حتى

حولهما، غابا في حنين القبلة األولي، أحسا بالرضا والنور الخالص، أضـاء وجهـه براحـة

اليقين، حل عنه سجن الجسد؛ فازدهرت الروح، تخفف من أحماله وأوجاعـه كأنـه لـم يـر

Page 41: 6112

- ٤٠ -

المرض قط، أحس رغبة ملحة في نوم مريح، دون أن يحمل هم صباح آخر يواجهه بال حيلة،

المنكوبين، ظلت خي جفنيه ونام، ارتخت ذراعاه المحيطتان بها، وقعتا في كف حجاب آخر أر

.متوحدة به، بال أهداب ترخي ظال حانيا علي خدين أسيلين

***

قبل الموت بأيام، أعدت نفسها لفرح عمرها،لم تصدق أن الدنيا يمكن أن "يمن "انتعشت

مأتما لم تـشهده الواحـات قـبال، رت وأقامت تصفو، عاشت فرحا منتظرا وخوفا مبهما، انها

زحفت علي الرمال حتى تمزق جلبابها األسود علي عتبة الميت، تقود مناحة من ندابات يشبهن

البوم األسود، سبعة أيام بلياليها، هجرت العشة، وساحت في األرض، تغيـب وتظهـر علـي

أنها عـروس، وتختفـي دون أن فترات متباعدة، تتمسح بالبيت، تدخله، تبيت ليلة أو ليلتين ك

يعرف أحد متي أو كيف وأين تظهر، تهامست النساء في الخدور؛ نحلت حتى أكلت جيـوش

.دفعة واحدة النمل األبيض خشب البيت في هجمات منظمة؛ فانهار فوقها

Page 42: 6112

- ٤١ -

الخروجالخروج

ت بينهما الذوبان، تالش فاض قلبه باألسي؛ كانا صديقين لدرجة . ال تأتي الفرحة خالصة أبدا

كل المسافات، نموذج نادر ال يتكرر، فقد الدنيا كلها، ضاقت مثل ثقب إبرة، برغم اتـساع الكـون

الالنهائي، صدف عن الزاد، تيقن ألول مرة أن الضيق ضيق النفس والسعة سعة النفس، ال الزمـان

يدخل البيت الجديد وال المكان، رجع أسيفا إلي سقيفته بعدما أودع روحه التراب،لم يطاوعه قلبه أن

المزين ببشائر عرس موءود، عادت الحياة إلي طبيعتها، الهدوء المخادع، تغير طعم الهواء، رجعوا

من الدفن مطاطئي الرءوس، اختلف األبناء علي ميراث باهظ التفاهة في سابقة لم تحدث مـن قبـل

ذي الجرارين ومـد اإلرسـال بالواحات، أمارة تحول عاتية باتجاه الوادي، مع بشائر قطار الحديد

التلفزيوني عبر الصحراء، بمحطات تقوية حملت النور والنار إلي أقبية النخيل، تشاءموا من البيـت

الجديد واعتبروه نحسا يجلب الخراب، نسي الناس حكاية العرس وتساءلوا بخبث عن مصير بيـت

؟بيضظل شاهدا علي الزمن، تلعب فيه الهوام والزواحف وجيوش النمل األ

تماسك بصعوبة حتى أنهي بيانه األسبوعي، سادت فترة صـمت، انفرطـت بعـدها

ضحكات النساء، فاضت الدموع، أغرقت الغريب، ترك نفسه للريح، حمل كيـسه ومـضي،

أخفق في أكثر حاالته اكتماال، كان يحس فراغا، يعجز عن معرفة كنهه، ينخر بداخله، يقتـل

يعتاد االنكسارات بسهولة، إنسان بال وجود أنه رجل هش إحساس ب أي فرحة أو أمل، يطارده

حقيقي، تمزقه قدرته الخالقة علي الحلم العاجز، عقب سبحاته الروحيـة وتجاربـه العـامرة

بنشوات االنتصار، تطارده بلعنة قاهرة، حاالت من الفوضي، تأخذه أياما طويلـة متـشابهة؛

مستسلم، ألوهام الزهد والقناعة، تتساوي في واحات االسترخاء ال فتور كامل، يهجر كل شيء

كل األشياء، تنعدم قيمة الحياة بانحطاط الروح، تذكر كلمات الراعي عن رجال أشداء انـشقت

لهم األرض، لكنهم لم يصبروا، خافوا علي حياتهم، فلم ينالوا شيئا، فرد صرته علي األرض،

ـ وقع الكيس، فتحه، أخرج الكبـار، المـصلحين اء، قصاصات كثيرة من الصحف عن الزعم

في لحظة ممعنة في التماهي صـدق المشاهير، ثروة ضخمة من الصور والحكايات المدهشة،

أنه واحد من هؤالء، تراجع بسرعة، لم تكن لديه الجسارة الكافية لفعل ما يرغب، ومواجهـة

لخلـف، الحقائق الداخلية بالوضوح نفسه الذي يراها به، ارتكن إلي صخرة كبيرة ونظر إلي ا

فتح قصاصة عشوائية، كانت قصيدة لشاعر مجهول يتغني بالهجر والكراهية والنار المقدسـة،

بحث في صدره عن أشياء قالها الراعي، وأشياء صادفته في الصحراء حين كان علي موعـد

مع الموت، ألقي القصيدة إلي األرض، وبحث في الكيس، تعثر ت أصابعه بحجاب الراعـي،

الحواف، التقطه بفرح؛ وتعجب كيف نسيه كل ذاك الوقت، فضه بحـرص كان مهترئا ممزق

..... معقبات له: "بالغ وقرأ

Page 43: 6112

- ٤٢ -

امتنان امتنان

.لكل أحبابي الذين شاركوني هذه الرواية لحظة بلحظة -

عبد العليم سليمان وسعد وشعبان عبد اهللا ومحمود :آلل الواحات جميعا خاصة األساتذة -

.الجبالي ويسري المصري

Page 44: 6112

- ٤٣ -

المؤلفالمؤلف

.محمود محمد عواد أبوعيشة -

.بالتلفزيون محرر -

.الكتاب اتحاد عضو -

.عضو نادي القصة -

[email protected]

:: منشورة منشورة أعمالأعمال

.الهيئة العامة المصرية للكتاب/ حضرة الوردة -

.هيئة قصور الثقافة / أحياناالروح تسأم -