118

4162

Embed Size (px)

Citation preview

Page 1: 4162
Page 2: 4162

-٢-

Page 3: 4162

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 4162

-٣-

- ٥ -..................................................................خبز الصغار

- ١٠ -..................................................................طفل الطين

- ١٤ -.......................................................................الفارس

- ٢١ -............................................................الصبي والعانس

- ٢٧ -.......................................................................الضيف

- ٣٩ -......................................................................المحاولة

- ٤٩ -.....................................................................ليل النهر

- ٥٥ -........................................................................التجلي

- ٦٣ -..............................................................الضحى العالي

- ٧٤ -........................................................................المفتاح

- ٧٨ -...................................................................ظل الموت

- ٨٤ -..................................................................بعد الرحيل

- ٨٧ -.......................................................................المنسية

- ٩٤ -.......................................................................بقعة دم

- ٩٨ -...................................................................مكان للنوم - ١١١ -................................................................عباءة الليل

Page 5: 4162

-٤-

سـوداء، في البدء كان النهر يمشي وحيدا فـي األرض ال د إلى النبع، أو ه يعو ه حين كان ال يجد النبت الذي يشرب وماؤ

حدث الملح، وفي مساء ليلة غاب عنها القمر يندفق في بحر سكن إليها، يكون لـي ي قرية أ اخلق من طين : النهر نفسه قال

. منها أبناء وحفدة، يخضرون جدب األرض التي حوليوفوق تل يطل على حافة النهر، تخلقت دار مـن طـين،

عمها رجل ق رنبتت ذات صـبح خضر، وامرأة من طمي أ دسوءة جهـة جاب الرجل المكشوف ال . من تحت إبطه الخشن

اسـم النهر باسمه، وعـرف المرق وجهة المغرب، وسمى ها قد عرفت كل األسـماء، : الشجر والطير والحيوان، وقال

:فالسم قريتي التي أسكنها" الجزيـرة البيضـاء : "صبعه على التراب الناعم وخط بأ هن داري بجيـر أبـيض، كـذلك ذلك أني سأد : وقال لنفسه

. سيدهن أبنائي وحفدتي دورهم بالجير األبيض

Page 6: 4162

-٥-

خبز الصغارخبز الصغارالبنت التي جلست بجوار الفرن شيدت بيتهـا بحجـرين

هـي الفـرن : كبيرين وخشبة عريضة، أنامت الرحى وقالت . الذي سأرمي فيه أرغفتي

جلبت الماء من الطلمبة القريبة، عجنت به الطـين الـذي غفة تقافزت بين يديها في الصـفيحة الصـدئة، سوت منه أر

اشتري لنا غداء من السوق حتى : والولد أعطاها ورقتين قال . أعود من الشغل

وذهب إلى هناك، تحت الشجرة التي تغطي سطح الـدار، . وتنام أغصانها على السور المطل على الشارع الكبير

انحنوا على شـجر القطـن، : أمسك العصا وقال لألوالد . تغفلها عيونكم" لطعة"اكم أن أعثر على يوإ

هكذا كان الخولي يقول لألنفار، لكن المهندس : وقال لنفسه الذي جاءه راكبا فرسا، ضربه في وجهه لما عثر على الدود

. يأكل الورقةما رأيكم لـو خبزنـا بعجـين : جاءت البنت إليهم وقالت

. حقيقي . أنا أحضر الدقيق: رد الولد الواقف

Page 7: 4162

-٦-

. وأنا أحضر الكبريت: د الولد المنحنيورلما دخل من الباب المفتوح على الحوش، رأى أمه جالسة تغني، ظهرها إلى الباب، ووجهها إلى الوابور تنظف ثمـار

.الكوسةغافلها وفتح باب الحجرة المقابلة، المعتمة، نافذتها مسدول عليها الخيش، وبقعة نور ضئيلة تسقط من منور السطح على

الدقيق كانت في الركن مفـرودا عليهـا " قفة"يس الذرة، و كجلباب أبيه القديم، رفعه بحذر، ومد قبضته يمألها ليفرغهـا

. في حجرهالباب واجهته أمه عند الزير تمـأل حين مرق من ضلفتي

كنت أريد لقمـة : قال .الكوز، سألته عما كان يفعل بالحجرة . من المشنة

هم يقيمون الفرن بأحجـار وأسرع إلى الحوش حيث وجد . صغيرة، يلصقونها بطين قطع من بين عنق الطلمبة

والبنت كانت تجمع أعواد الحطب والقش مـن حظيـرة ـ الدجاج، نصفه بجانب اء الجدار، ثم جلست تخلط الدقيق بالم

في صفيحة قديمة، نضربه بكفها الصـغير حتـى صـارت ـ ود لـو له فقاقيع تبقبق طاردة الهواء المحتشـد، كانـت ت

Page 8: 4162

-٧-

ئتسمع له ضربات تهز أركان الدار، كعجين أمها الذي تنكف : فجر، وقالت البنت لنفسـها عليه من أول الليل حتى مطلع ال

العجين لن يخمر، ولن ينتفخ حتـى ينـدفق علـى جوانـب . الصفيحة ألني لم اسم عليه

ة ححركت شفتيها باسم اهللا الرحمن الرحيم، ثم قرأت الفات . بيهاالتي حفظتها عن أ

صنع األوالد للفرن فتحة كبيرة يـدلخون منهـا النـار، وفتحات صغيرة ضيقة يخرج منها الدخان، في النهاية مددوا

ناء، ودعموا منافذها بـالطين الصفيحة الصدئة على سطح الب . والحصىنأتي بالكوز المثقوب من أسـفله، في رمضان س : وفكروا

افة، أو تـوزع كنلرش عليه العجينة خيوطا رفيعة لتكون ا لن . العجينة قطعا صغيرة لتكون القطايف

مسح الولد خيط المخاط الذي سال على شفتيه، وهيأ عود الثقاب الذي يحكه بجانب العلبة فتخرج النار، لتنتشر قوية في القش وأعواد الحطب، لما دسها في الفتحة الكبيـرة اختنـق

. يناللهب وخرج منه الدخان كثيفا يسيل له دمع الع . دعني أنفخها: قال الولد

Page 9: 4162

-٨-

جمع الهواء في شدقيه، ودفعه بقوة على الجذوات الخابية، فاستيقظ لهيبها منتشرا في الوقيد، قربت البنـت الصـفيحة، براحتها رفعت قطعة العجين، أرادت أن تهزها في الهـواء،

. كما تفعل الخبازة لكنها اندلقت مختلطة بالتراببة العريضـة، ورمـت القطعـة نثرت الدقيق على الخش

الطرية، ثم راحت تدفعها ما بين كفيها تحلـق فـي الهـواء بة مفروشة مسترقة، رمتها علـى الفـرن، لتسقط على الخش

ورفعت خصلة الشعر التي سقطت على عينها، أمالوا الوجوه يترقبون، وانتظروا حتى انتفخت قطعة العجين، وانقلب لونها

. حتى صارت مصفرةسنصـنع لكـل منـا . ا هي تستوي كخبز حقيقي ه: قالوا

رغيفا، ندع الفرن لنخبز عليه كل يوم أرغفة نأكلها، ونوزع . منها على أوالد الجيران

: انتفضوا ـ فجأة ـ على الصوت الذي خرج من النافـذة انتظروا .. هكذا تشعلون النار لتحرق الدار .. يا أوالد األبالسة

.حتى أذبحكم جميعالرغيف في كفه، وبقفزة كان يجري أمـامهم، جمع الولد ا

والدجاج من حولهم يجري فزعا، دخلـوا الحظيـرة، ومـن

Page 10: 4162

-٩-

خصاص الباب كانوا يرقبون القدم الكبيرة التي سوت البنـاء . الصغير باألرض، واليد تطوح الصفيحة على سطح الدار

جلس الولد على األرض ليقسم الرغيف، أعطى لكل واحد واهللا كأننا غمسـناه : ا بتلذذ، قالت البنت لقمة، مضوا يلوكونه

. بعسل النحل

Page 11: 4162

-١٠-

طفل الطين طفل الطين الشجرة ذات الظل فردت أوراقها الخضراء فوق البقـرة التي تلف في الساقية، والولد الذي يرقد تحت الجذع، يخطط في التراب، قسمة أحواضا وجعل وسط األحواض قناة واسعة

لكوز مـن الترعـة تنتهي بدائرة هي التي سيدلق فيها ماء ا الكبيرة، امتألت الدائرة، وتدفق الماء في القنـاة المنحـدرة، . وتوزعت بين الخطوط الكثيرة يشربها التراب بعطش حقيقي

وتوزعت بين الخطوط الكثيرة يشربها التـراب بعطـش .حقيقي

وعرف الولد أنه ال التراب وال المـاء يثمـران الزهـرة جمع األرض التي أعـدها الخضراء، ألنه لم يضع البذرة، ف

كتلة من الطين، عجنها بالماء، وصاح في البقرة لتدفع المـاء ألبيه هناك، أعلى الحقل وألنها ال تخضع لصباحه، ضـربها

. بالفرقلة ضربتين على كفلها .." يروي أرض القطن،هكذا تسرع فيجري الماء ألبي"

: قال لنفسه حين عاد لعجن الطين وأكدع مالبسنا لنرتدي الجديدة، ونقلع النعـال يباع القطن فنخل "

". المفتقة لنلبس الجديدة

Page 12: 4162

-١١-

خلق من الطينة جاموسة بأذنين وقرنين، وأربعة سـيقان جاء بين فخذيها الخلفيتين ولصـق كـرة بأربعـة ،بحوافر

هذا ضرعها، لكنه لن يدر : بروزات، وعرضها للشمس، قال قشدة علـى الأمي تحلب جاموستنا الكبيرة، أنال قطعة .. اللبن

بها في اإلناء الواسع، ثم تذهب بها إلـى الرغيف حين تضر ..."السوق كل خميس

.. ضغط الطينة بأصابع يده، فصارت الجاموسة بال شكلوقص ".. منين أجيب ناس لمعناة الكالم يتلوه : "ردد الموال

ـ بالصوت المنغم ـ قصة الولد الذي قاتل األجنبي والظالم، ويـل، يده على هيئة خفير بلبدة، وشارب ط فكانت الطينة في

للشمس، لكن الخفير سـقط على كتفه علق البارود، وعرضه ده، ودار خلف ة في ي على وجهه فطمسه التراب، عجن الطين

. حثها ويضربهاالبقرة ثالث دورات يأقام بالطين جدارا، ألصق به جدرانا ثالثة، وجعـل بهـا

هذه هي الغرفة : لنفسه فتحتين صغيرتين، وفتحة كبيرة، قال األولى، سأقيم بيتا بأربع غرف وردهة وزريبة ومرحـاض، وسأحفر أمام بابه قناة تجري فيها المياه، وأغرس على حافتها

Page 13: 4162

-١٢-

فيكون الشجرة الظليلة، التـي تقعـد تحتهـا أمـي ؛الغصن . والجارات

ى الطينة بيده، فكانـت بـرأس حين انتهى من البناء، سو . ها صنع ساعدين في الخصرين جنبينوساقين وم

بالعصا الرفيعة شق في الوجه عينـين، وثغـرا باسـما . بغمازتين وستر الرأس بالقماشة الملونة

هذه هي العروسة صاحبة الدار التي سترقد على السـرير في غرفة النوم، وفي جانب من الغرفة وضع الحجر الـذي

. فرشه بباقي القماش ..". من عريسولكن العروسة ال بد لها "

أكد لنفسه وبقطعة أخرى من الطين، صنع جسدا بـرأس به شارب ممتد وحاجبان كثيفان، ونقش فـي الصـدر ،كبير

. ليصنع الشعر الغزير . أنام العروسة على الحجر

. مالهادئ ينساب ما بين الجلد والعظشعر بالدم فتمنى لو عاد ضئيال كنملة، ودخل مـن البـاب الضـيق

. خل الغرفة ليتمدد إلى جوارها على الحجر الوثيرللبيت، ود

Page 14: 4162

-١٣-

لكنه في النهاية، أدخل الرجل الذي صنعه، مـدده علـى طرف الحجر، وراح يتأملها بحب، وعزم على أن يدع البيت والعريسين لضوء الشمس، ويحرسهما مـن أقـدام الكبـار

. والصغار

Page 15: 4162

-١٤-

الفارسالفارسكيانـه، لما طلب أبوه ذلك منه، شعر فجأة بالرجولة تمأل

وعبر الردهة، تعثر في الحطب، لكنه لم يقع كما ال ينبغـي للرجل أن يقع، وهش الدجاج المتكاثر عند باب الزريبة، فتح هيكل الباب المرقع بالخشب القديم، وحين وقعت عينه علـى الحمارة في مذودها، شمر جلبابه حتى ال يتسخ بالروث الذي

كفلها، وانحنى على تكثفت رائحته الخصبة في أنفه، ضربها فك القيد، لكنها رفست رجلها بقوة في الهواء، وما كان مـن ي

بخشونة لم تفـت علـى الممكن أن يسكت أو يستغيث، زعق الحمارة تكلفها، فلم تخضع إال بالعصا التـي انهالـت علـى جلدها، انتهز االستكانة المضمرة، وفك القيـد الـذي عـاله

. الوسخغبيط على ظهرها، وعقـد رأسـه أبوه ال هيأ.. عند الباب

بالمنديل الكبير وقاية من عين الشمس التي تضـرب رءوس . الصغار

أوصاه بالسير تحت ظل الشجر، ودس في جيبـه ربطـة . القروش

Page 16: 4162

-١٥-

إال أن وجـه اآلخـر ،جده ضخما بحجم خالـك ست: قالبشارب يحوط شدقيه، سيسألك عن اسمك، فاذكر له اسـمي،

كنت معي أول أمس على مقهى وإن طلب عالمة، أخبره أنك المدينة، وإن لم يكن بالدار فاسأل عنـه زوجـه، وال تعـط

فإن أعطاك الشيء، فاحرص عليه كما .. القروش إال للرجل وهذا القرش لك لتشتري به حالوة من .. تحرص على نفسك

. بقال قريتهملما استوى أمامه الطريق، أدخل قدميه في فتحتي الغبيط،

لى رقبتها ضربتين، فانتفضت لتلقيه عـن ضرب الحمارة ع ظهرها، غير أن الولد تشبث بهـا وأحـس مـن لحظتهـا

. أن الحمارة تضمر له الشرها هنـا تنتهـي ترعتنـا، : قال لنفسه ) الهدار(لما وصل

يتقاطع معها المصرف المـوازي لسـكة الحديـد ويتفـرع طريقان، األول ممتد إلى المدينة، واآلخر يصعد إلـى بلـدة

لرجل، بين الطريقين يتكاثر الشوك الشيطاني الذي تسـكنه ا فتجمع الغبـار حـول حـوافر دخل بداية الطريق، . الفئران

الحمارة، وانتشر حتى وصل وجهه، عن يمينـه المصـرف يغطيه الريم، والطريق الضيق بباطن شريط القطار، وعـن

Page 17: 4162

-١٦-

فتذكر أن أباه كـان يمتلـك ؛)اإلصالح(شماله كانت أرض رآها وهـي ،"حمارة اإلصالح "وب كانوا يدعونها حمارة رك

تموت لما أكلت من ورق القطن المسوم، ورآها وهي نافقـة . في ماء المصرف، فبكى عليها

هنا ترقـد : رأى التراب مكوما على حواف األرض، قال . الثعابين والحشرات القاتلة

ولما قفزت الحمارة فجأة لتعبر القناة المحفورة في الجسر، هكذا يفعل أبوه حـين .. ـ في سره ـ إهمال الفالحين لعن

. يسخر من زرع جيرانهعلى البعد البعيد رأى الدخان يتصاعد من التراب كأفـاع أهلكها العطش، في هذه اللحظة، شعر أن عين الشمس تقصده هو بالذات، فقد تسلطت على قفاه وظهره، حتى طفح جسـمه

. كل العرقة سـوداء تكبـر كالمـارد، على طريق القطار رأى نقط

وسمع صفيرا، عرف أن القادم قطار الظهيرة، وهو أحمـر، حين يمر يكون وقت الغداء، فتخرج األنفـار مـن خطـوط

في ظـل الصفصـافة القطن، تفرغ الديدان في النار، تجتمع .حول مناديل الخبز والجبن والخيار المملح

Page 18: 4162

-١٧-

ـ ي اهتزت األرض لعجالت القطار، والمسافرون كانوا فنهـم إ: اب، أشار لهم بيده، وقـال لنفسـه النوافذ وعلى األبو

. يستعدون للنزول في محطة المدينة، ليركب غيرهم كثيرا ما فكر في السفر البعيد، في الخطوط بين األنفـار،

أو حين يجمع ورق األذرة األخضر للماشية يرى نفسه فـي بمالمح الحلة األنيقة، ويرى وجوها ال يعرفها إال أنها نظيفة

ها هو الولد األعجوبة، في السفر : متناسقة، تبتسم له، وتقول إلى المدن ذات الشوارع المسفلتة والبيوت العالية، ال بد مـن المعجزة، ما هي؟ ال يدري، قد تكون القدرة على ضرب فتية

أرسلوا فـي : حي بكامله، وتكون الجميلة بالشرفة فتشير إليه . طلب هذا البطل للصمت الذي ال يحركه غير حوافر دابتـه، عاد الطريق

. تأملها حين أرخت أذنيها، وشعر بأنه بعيد، وتمنى لو يعودالذي يقطـع المصـرف ) العبل(لما اقترب صف أشجار

بسترته الثقيلة " عكاشة"ليعبر المزلقان، عرف أنه سيجد هناك .الخضراء، ال يقوم إال بفتح البوابة أو يغلقها

ي عليه السالم، تماما كما يفعل الرجال، سألق: وأكد لنفسه فوق المصطبة، وتحت الظل يجري من " عكاشة"ها هو العم

Page 19: 4162

-١٨-

كـم مـن حكايـات . تحته ماء رائق لترعة ال يعرف اسمها سمعها عنه، هو الذي تسعى إليه عفاريت المقتولين بالقطار، ألفها كما ألف كالبه الراقدة تلك، رأى وابور الماء فتأكد لـه

هذا الطريق ينام . الواسع الممتد إلى القرية المنشودة الطريق . ترابه تحت رشاش الماء

قبل أن يدخل بين الدور رأى الصـنابير يغتسـل بمائهـا القرية تنعم بالمـاء، بينمـا : عوراتهم، قال صبية كشفوا عن

ورأى رجـاال . بناتنا يذهبن بالحمير ليمألن من مكان بعيـد منهم، ترقد الخراف والـدجاج يرقدون على األبواب، بالقرب

والجاموس، ورأى شوارع ضيقة، ومنازل بطابقين، وبقـاال في دكانه يطرد الذباب، فتذكر القرش، بعد أن حصل علـى

ها دفعة في فمه، زامت عليه الكالب، فرفع رجله االحالوة ألق . على ظهر الحمارة

الج خشبي ودا، يربطه بالحائط مز مسكان الباب ضخما و ، وفوقه نصف دائرة كبيرة يتوزع فيها الخشب ليتجمـع متين

. حول الدائرة الصغيرة ترقد بينهما حمامة تهدلـ ربط الحمارة في قضيب النافذة، تهب منها رائحة الم ظ

ونوم ورطوبة عطنة، كانت ساكنة بسريرها المفروش بمالءة

Page 20: 4162

-١٩-

عليها بقع دم باهتة، وحصيرها الالمع المنقـوش والـدوالب ى الجدار، تجمعت عليه أشياء كثيـرة، ضـرب المركون عل

. الباب ضربة هينةخرجت العجوز بالوجه المحطم داخل الطرحة البيضـاء،

ما تريد يـا صـبي؟ : وحدثته بالفم الخالي من األسنان، قالت بن فالن جئت أسأل عن صاحب هـذه الـدار، نأنا فال : قال

. أدفع إليه قروش أبي، ليعطيني طلبه الذي لم يبح بهن صاحب الدار قد قبضت عليه شرطة ر أباك إ أخب: قالت

المدينة صباح هذا اليوم، وأخبره أن العجوز أم صاحب الدار تطلب إليك أنت صاحب المكانة أن تتوسط إليه لدى مـأمور

.المدينةأبوك أعطاك القـروش تـدفعها : وفي الطريق قال لنفسه

.. لشرطةللرجل مقابل شيء ال تعرفه، والرجل قبضت عليه ا وللشرطة عيون في كل أرض، ورجال يحملون .. فهو خطير

البنادق المعمرة، وأنا طرقت باب رجل كرهتـه الشـرطة، والليل بدأ خطوته في هذه القرية، وسينتهي في قريتي أسـود

. كوجه العبيد

Page 21: 4162

-٢٠-

لكز الحمارة في جنبيها، فانـدفعت فـي الطريـق بـين التي تفك " عكاشة "األشجار، عند بوابة القطار، تذكر عفاريت

قيد الجاموس، وتدلق آنية اللبن في دواليبهـا، وراح يتسـمع األنفاس تلهث خلف ظهره، ال ينظر إليها فيحرقـه الشـرر المتطاير من األفواه والعيون، بينما تكاثرت األشـباح أمـام

وتنظر إليـه الحمارة، وعلى جانبي الطريق تجري بسرعة، لى أكتافها، وفي اليد سكاكين والبنادق ع بخطواتها المنتظمة،

لو يرى وجه القمـر، لـو يـرى ذبـاالت مطفأة ال تلمع، ـ لكنـه رأى النقطـة ةالمصابيح عبر طاقات الدور المعتم

ما اقتربت منـه، لمـا صـار لكسوداء التي تنمو وتستطيل ال، والعيـون الوجه رأى الشارب الكثيـف المتـدلي جه في وال

حين لطمتـه اليـد القويـة المظلمة كعيون البندقية ذات الرو ـ رخ الصرخة التي اهتزت لهـا فـروع ال صف جر، ومـاء ش

. المصرف، وتراب الطريق

Page 22: 4162

-٢١-

الصبي والعانس الصبي والعانس ) ) أأ((

الصبي الصغير جلس بين النسوة تحـت شـجرة السـنط العالية في هذه الظهيرة التي هجعت فيها الكالب تلهث علـى

. بقع الماء الرطبةضـراء خ الملوخية ال النسوة كن يثرثرن، ويقطفن أوراق

. من عيدانها، يكومونها في الغربالنظر إليها تمضغ العود الريان الخالي من الورق، تتمـدد خلف ظهرها ضفيرتان ثعبانيتان تنبت جذورهما تحت منديلها

تتـدفق قنـاة ،أصفرأحمر و .. بيض الملون بورد صغير األن تي الثديين، بعد أن تنقطع الرجل م صدرها الثمين بين ضف

الشارع، وتغلق األبواب على ظل الدور الرطبة تبقى السنطة . فارهة ووحيدة، تداري نفسها بظلها السخي

.. أن العفاريت قد قيلت "تنهض أمه من بين النسوة معلنة ليرقد معـي "، يصمت هو العارف أنها ستعارضها "هال قيلت ". أنا الوحيدة

. فتمشي النسوة في فوضى دمه الحار

Page 23: 4162

-٢٢-

ة الملوخية بغربالها، ينفضن ثيابهن لتسـقط تذهب صاحب ف الجيران وجـديانهم، العيدان على األرض تنقنق فيها خرا

تغلق من خلفها بابها ذا الصوت الحزين الملـول، الصـبي الصغير في أثرها، في غرفتها التي تتسع للحصير والدوالب الذي تفوح منه رائحة الدسم تعلق الشاش األسود على النافذة

. ئةالمضييجلس في الركن على الوسادة الملونة بـدم البراغيـث،

على ميرقبها وهي تطرد الذباب من الباب إلى الردهة، ليتكو . جدران الزير وحصير الجبن

محمـد (بعصفورة الخشب الكبيرة تغلق الغرفـة، يلحـظ . التي خطها يوما بطباشير المدرسة) الجدع

طيـه ظهرهـا تع تتمدد متأوهة من الركبة والمفاصـل، .العالي، وتأمره بالنوم الساكن فيرقد دون صوت

Page 24: 4162

-٢٣-

))بب((اعرف أنك ال تنام، تظل عيناك مفتوحتين .. يا هذا الصبي

على صورة الرجل البدوي ذي الشارب النابت مـن اللحيـة . الكثة

من السوق بعشرة قروش قـال ابتعتها : قالت ألمك يومها ". علي"نه اإلمام البائع إ

تظار يدها التي تسـحبها إلـى جلبابـك، أنت اآلن في ان فسروالك، فموضع بين فخذيك يوقظ النشوة النائمة في جسمك

. الصغيرها هي ـ بالفعل ـ يدها تصب النار بين فخذيك، بعد أن تفرك أصابعها لبعض الوقت، ستلتصق أنت بها، وتمد بالتالي يدك إلى جلبابها الثقيل تسحبه بنعومة، حتى تلمس الخشـونة

. مبهرةالحينئذ تكون هي في االستسالم المطلق، فما عليـك إال أن تعبث في الجسد المنساب بأفخاذه المرتفعة الممتلئة بالشـحم، بالثديين الراقدين ككلبين أليفين، والسرة ـ فوق الهضـبة ـ

فقط ال تدع لعينيك . يحلو لسبابتك الدوران فيها، تقوم بكل هذا . ين تحت كوعهاترتأخذانك إلى عينيها المسرو

Page 25: 4162

-٢٤-

ط عنـد على الهضبة العالية، إيـاك والسـقو وفي تمددك تين الخصـر الـذي زازة المزلزلة، تحوط بيدك الـدقيق االهت

ال نهاية له، وتدع لنفسك المتعة الطفوليـة التـي ال يسـبقها . شيء، وال تنتهي إلى شيء

وتحمل ضغطها المحموم الذي ال تقابله بفعل، وحين تزفر قطتك لحارة ينبغي أن تهبط من تلقاء نفسك وإال أس بتنهيدتها ا

. إلى جوارها كعلقة ميتةـ وإن حاولت مرة أخرى ستضربك بكوعها في جنبك، م ن

. الم حتى يبرد جسمكسباست.. وال تطل النظر في وجه الشيخ ذي اللحية ألنه سيرعبك

ال تفكر كثيرا في السيف الذي سيحضره يوما ليقطع رقبتـك فيسيل دمك ساخنا على صدرها، أو في أمك التـي عقابا لك،

متـك الملهوفـة، وتجدك في نو ،تكون قد دخلت بطريقة ما . جلدك بالنارفتصفع وجهك أو تكوي

ر حين يرفع عنه الشاش األسود لعيون صـبية لسوال في ا . الشارع عبر قضبان النافذة فترجم بالحجارة

Page 26: 4162

-٢٥-

ولى، فلـن سيذهب ذهنك فقط في محاولة لتذكر المرة األ هل تتذكر رضاعتك من ثدي أمك؟ وهل تتـذكر (تجدها ـ

). البول الذي كنت تدره في قماطك؟هكذا وجدت نفسك معها في ليلـة مـن الليـالي، أو ذات قيلولة كالتي تضطجع فيها اآلن، كما وجدت جسـمك الـذي . تكون بلبن أمك أو مالمحك التي ورثتها عن آبائك وأجدادك

ا التي ماتت، العجوز بشعرها األبيض وإن كنت تذكر أمه . المشوب بصفرة كصفرة الدخان على شارب جدك . وتذكر يوم أن حملتها الخشبة إلى المقبرة البعيدة

.. المسكينة ستعيش وحيدة: يومها قالت أمكبعدها كان من السهل على ذهنك الصغير أال يفاجأ حـين يعثر على جسمك ممـددا علـى أرض غرفتهـا، وتعلقـت

بحصيرها الذي ينطبع على لحمك أكثر من تعلقـك بسـرير . أمك

أليست امرأة مثل .. لماذا هذه المرأة بال رجل؟ (وتندهش ).أمك؟ فلماذا ال يكون لها رجل كأبيك؟

.. هو عريسي: وكانت تقول للنسوة وألمك

Page 27: 4162

-٢٦-

ألنك تتـذكر .. أو تفر بعيدا .. وكنت تخفض رأسك خجال المـرأة الملفوفـة بالطرحـة فعلة األمس، وتعجب من هذه

عين الكمال : البيضاء، والتي يحترمها الناس، ويقولون عنها . والعقل

وتكون غير ذلك معك، ترفع جلبابها حتى الرقبة عن جسد شمعي يحتاج منك أللف فعل، وتقف حياله دون فعل، بينمـا

. مرتفعة، تثور وتنتفضهي حين تلقي بك على هضابها ال

Page 28: 4162

-٢٧-

الضيف الضيف --١١--

رق علينا الباب، قامت أختي وفتحـت لـه، وأمـي لما ط جاءت من آخر الدار، مسحت يدها المبلولـة فـي طـرف طرحتها، وسلمت عليه، فتحت باب حجرة الجلوس، وأدخلته، ثم طلبت مني أن أصعد الكنبة ألفتح الشباك المطـل علـى الحوش، غمر الحجرة ضوء شديد، وبقعة الشـمس سـقطت

. لى الجدارعلى الصورتين المعلقتين ع . الحمد هللا: سألته عن أمه وأخواته البنات قال

وأختي كانت قد جرت إلى الطاحونة، لتنادي على أبـي، وهدومه غبـار الـدقيق، سـلم عليـه الذي جاء على وجهه

بحرارة، وسأله عن أبيه والجماعة، أراد أبي أن يجلس إلـى "قم غيرها .. هدومك وسخة "جواره على الكنبة فزجرته أمي

. وأشارت إليه بعينهاتهامسا في الردهة، ثم أعطـاني أبـي نقـودا ألشـتري

لما ". شرفت.. أهال وسهال "كوكاكوال، وعاد ليرحب بالضيف

Page 29: 4162

-٢٨-

عدت، وجدت أمي وأختي فوق السطح، وسـمعت صـوت . الدجاج يكاكي، ودبدبات األقدام على السقف

دخلت حجرة الجلوس حامال الصينية، وكنت حريصا على . زجاجة الطويلة المنتصبة، حتى ال تنقلـب علـى األرض ال

. ودخلت من الباب بجنبكان أبي جالسا إلى جواره بهدومه المتسخة، قـام ليأخـذ

. مني الصينية المرتعشة، وقدمها للضيفولباسـه . كان وجهه المعا، وحذاؤه كان يبرق في قدميه . ى رأسهفاخرا نظيفا، وشعره الناعم المنسق ينام بنظام عل

. هكذا أبناء المدن: قلت في نفسيوتمنيت أن أكون مثله، وأكدت أنني سـأطلب مـن أبـي قميصا وبنطلونا كاللذين يلبسهما الضيف، وعزمت أن أغسل

.. شعري كل صباحاستأذن أبي ليبص على الطاحونة، وقال إنه سوف يعـود

. حاال، وطلب مني أن أجالس الضيف) األلفة( عن المدرسة ألقول له إنني كنت أريد أن يحادثني

وأن اسمي مكتوب على لوحة معلقة على جدار الفصل وإلى رائد الفصل، وكنت أود أن أحضر لـه كراريسـي، : جواره

Page 30: 4162

-٢٩-

ألريه نمر المدرسة، وألقول له أنني غاوي رسم، ولي رسوم ولكنه فقط سـألني عـن كثيرة معلقة على حوائط المدرسة،

. ال عن نسوان بلدناسني، ثم فاجأني بالسؤالذي قام بالليل، وتسحب مـن ) يعل(فحكيت له عن الولد

السرير يضاجع بنت خاله التي تنام عندهم، وكيف أنه حـين أنا نفسي، أنام مع .. ننيلع سروالها بالت عليه، وقالت له إ خ

علـى )أم محمد (نني نمت مع ، وإ نسوة كثيرات من الجارات ة، وهي التي طلبت ذلك، ألن سريرها المسدول عليه ناموسي

.زوجها كان سهران يروي أرض القطن هنـا )أم محمد (وسألني عما إذا كنت قادرا على إحضار

فكذبت، وأخبرته أنها ليسـت بـدارها اآلن، فقـد ،في دارنا . ذهبت إلى دار أبيها منذ الفجر

زارنـا سـيدنا : لما عاد أبي مرة أخرى، رحب به وقال كلهـم تمـام، .. الحمـد هللا : قال. د بخير؟ الوال: وسأله: النبي

وطلب الضيف أن يقوم برحلة إلى الغـيط، يـرى الـزرع، وقـال خـذ فاستدار أبـي إلـي .. يوما في الشمس ويقضي . اءح األستاذ، على أن تعودا على الغدوفس.. الحمارة

Page 31: 4162

-٣٠-

عبرنا الدار إلى الحوش، رفعت البردعة من على الفرن، وحتين، ترفرفـان وتنثـران الـدم وتحاشيت الدجاجتين المذب

.حولهماسحبت الحمارة من الزريبة المظلمة، المسقوفة بالجريـد والقش، وثبت البردعة على ظهرها، وركب الضيف، وركبت

. أنا أمامه، لنخرج من البلد، إلى طريق المصرف الطويل

Page 32: 4162

-٣١-

-- ٢٢ -- كانت األرض التي نزرعها تمتد مـن وراء دور العزبـة

ح البعيدة، على رأسـها سـاقية وجـرن إلى أرض اإلصال يحوطه سور مشقق، ومصلى تنام عليها الشـجرة العجـوز،

الدار ببابها القديم، ونوافذها المخلعـة، ،وعلى جانب الجرن في جذع الشجرة عقدت مقود الحمارة، واتجهت إلى الـدار،

.هذه الدار عشنا فيها عامين: قلت لهلردهـة المسـقوفة رفعت القفل األسود الثقيل، ودخلنـا ا

. بعدها نتجول في الزرع.. نستريح قليال: بالسماء، قلت لهكانت الدار مسقوفة، سقفها كان مرفوعا على جذع : وقلت

فـي " ةالقراض"شجرة كبير، وكما نسمع مدة العامين صوت نها القراضة الملعونة، سنرفع إ: قلب الجذع، وقال أبي يومها

يد، ولكن الجذع لم يمهلنـا، الجذع الكبير ونبذله بقضيب حد قمنا ذات صبح نفتح باب غرفة النوم، فلم ينفتح، كان السقف قد مأل الردهة، ولـم نشـعر بسـقوطه، ومـن سـتر اهللا،

كانت مشتعلة طول الليل، لم تصل نارها إلـى " السهارة"أن . سقوطه أطفأهاألنالسقف،

Page 33: 4162

-٣٢-

لو اشتعلت، كنا متنا وسط النـار، بعـدها حلفـت أمـي تعيش في هذه الدار أبدا، وقالت ألبي نضيع والدنا هدرا، أال

حتى وافق على تـرك هـذه ؛وألححت أنا وأختي على أبي . الدار، لنعود إلى البلد

. تركني الضيف وراح ينظر إلى داخل الحجراتأما هذه فكانت حجرة الجلـوس، فرشـتها أمـي : قلت له

كـان بإمكاننـا بثالث كنبات، خاصة وأن لها بابا خارجيـا، . استقبال الضيوف دون أن يدخلوا من الباب الكبير

وكنت أريد أن أحكي عن أيامي فيها، ولكنه سد فمي بكفه، أما هـذه الحجـرة : ولما راح ينظر في الحجرة التالية، قلت ا نقضي فيه الشـتاء، نفكان بها فرن، وهذه آثاره كما ترى، ك

نافـذ الحجـرة، كانت أمي كل مغرب توقد الفرن، وتسـد م أدار وجهـه .. لنجتمع كلنا فوق قبوه، وكان أبـي يسـتقبل

فتصلبت في مكاني، وتركته . أنت تتكلم كثيرا : وقال ،المكشريجول في باقي الحجرات، حتى انتهى إلى الزريبة الممتـدة

وقف على كومة التراب .. بعرض الدار، ثم خرج إلى الجرن نمشـي : وسألتهيبص على األرض من تحته، خرجت إليه،

في الزرع؟

Page 34: 4162

-٣٣-

كنت أرغب في تعريفه بأنواع النبات المزروع، وأحكـي له عن جيران األرض وعن أيام الدودة، وسهراتي في الخص أيام زرعة الخيار والطماطم، وعن الذئب الذي يسـعى إلـى الحقول ليال ليبث الرعب في قلوب الرجال، وكنت أسـتطيع

وكنت أود أن أكلمه عـن نني ال أخاف الذئب، إ: أن أقول له .ذئاب كثيرة، سمعت بها من الفالحين

نزل عن كومة التراب، وأمسك كفي، سحبني إلى مـدار .. الساقية، وسألني عن دور العزبة التي تقع تحـت بصـرنا

فذكرت له أسماء أصحاب الدور، سألني عن أعمالهم، فقلـت فهـو متطـوع فـي ) عبد العلـيم (ما عدا كلهم فالحون : لهله حجرة في دار : قلت.. وهل يسكن هنا؟ : وسألني.. يشالج

زوجته مـن المدينـة، : متزوج؟ قلت : وسألني. أبيه الكبيرة تلبس الروب المزركش بالورد الكبير، وتعقص شعرها تحت منديل مزين بالترتر، وهي خياطة تخـيط الهـدوم لنسـوان

. وللسانها لهجة ال تعرفها النسوان هنا،بةزالع .. ولكنها ال تظهر: تفي وقالاستند على ك

.. ل داخل الدار فهي ال تذهب إلى الغيطمربما تع: قلت

Page 35: 4162

-٣٤-

عا، خـبط بطنـي وسألني عن باقي النسوة، فذكرتهن جمي البدوية، ) وهيبة(مل واحدة فيهن، قلت بلطف، وسألني عن أج

وهي رغم جمالها لم تتـزوج، فالبـدو ) سليم العرباوي (بنت لها اتصال بـالجن ) عالية(ين، وأمها ال يزوجون بناتهم لفالح

نها لن إ :وتقدر أن تزوجها أحسن رجل في الدنيا، وهي تقول إال لموظف من أبناء البدو يسكن المدن، ولكن ) وهيبة(تزوج

ويرغبونها زوجة، وهي تدل ) وهيبة(كل الفالحين هنا يحبون عليهم، تسرح بغنماتها مع أبيها من الصبح حتـى المغـرب

. الرجل الغريبوال تكلم سـور الجـرن، نزلنا عن مدار الساقية، وجلسـنا فـوق

أكيد سـمعت .. مين اللذين عشتهما هنا لكن في العا : وسألنيفحكيت له عن زوجـة شـيخ العزبـة، .. عن عالقات خفية

وقلت له هي امرأة نحيلة سـوداء ،)أبو طبيخ (وعالقتها بـ عقد منـديلها جافة، تعمل خبازة، لكنها تهتم بمظهرها، فهي ت

نها تـتكلم إ: تفارق عينيها الكحلة، وتقول أمي على جنب، ال ال يكـف عـن رباليد والحاجب، وشيخ العزبة عجوز أعـو

الكالم يفض النزاعات بين الفالحين، ويصلح بـين الرجـل وامرأته، ويدخل في كل مشكلة، فهو دائم التجوال وواجباتـه

Page 36: 4162

-٣٥-

ي أيام الـدودة، يشرف على األنفار ف كلها من خارج داره، و صعيدي ) أبو طبيخ (ويسجل محاضر المخالفات للفالحين، و

وبنات بيض يعملـن ،حل بالعزبة، له زوجة بيضاء كالشمع معه في حقله الضيق على شريط القطار، وهو مهتم بالنحل، له خاليا يخرج منها العسل كل ربيع، وهو طويل فارع قوي،

وجه أو بناته حين صوته خشن يهز العزبة حين ينادي على ز . يكن بآخر الغيط

وقد سمعت من الناس أنها تطبخ له الحام كـل ظهـر، موتنسحب خفية من وراء الدور، وال تمشي في طريـق، بـل تخترق الزرع حتى تصل إليه في أرضه وينامان معـا فـي خص القش، تحت شريط القطار، وسمعت أنهم عثروا عليها

سرواليها، ولكن شيخ العزبة مرة في حقل الذرة، وقد خطفوا نهم يشـنعون إ :زمجر في وجه الرجال، وسب أمهاتهم، وقال

) وحيـدة (على زوجته، ألنها برقبة نسوانهم، وحكيت عـن وكيف عثروا عليهما يوما عريانين فـي القنـاة ) مكاوي(و

هـي : قلت له ،)وحيدة(الجافة وسط الزرع، ولما سألني عن ).مكاوي(زوجة .أنت كثير الكالم. .اسكت: فقال

Page 37: 4162

-٣٦-

. نقدر نزور شيخ العزبة: وسألني . لو كان أبي معنا: قلت هو صديق أبي، يزوره في الطاحونـة، وكثيـرا : وقلت

ما يأتي معه ساعة الغداء، ولما كنا نسكن هذه الـدار، كـان يقضي معنا ليالي الشتاء، فوق الفرن، ويقص علينا حكايـات

. كثيرة . اسكت: قال

ر لي ظهره ثم قام يمشي في الجـرن، وقـف فسكت، أدا . ينظر إلى الدور

. اسكت: نتجول في الزرع؟ قال: سألتهلم ربطت الحمارة خارج الـدار؟ : وفجأة عاد إلي وسألني

حمارة إلـى لوطلب أن أربطها على مذود الزريبة، سحبت ا ورفعت عنها البردعة، شددت باب الزريبة المرقع .. الردهة

.طتها على مذودها الفارغ، وعدت إليهبقطع الخشب، ورب . ابق هنا: قال

Page 38: 4162

-٣٧-

--٣٣-- قضى أبي صالة العشاء بالدار، افترش المصلى أمامنـا، وكنت أنا والضيف جالسين إليه، وسمع تراتيله، ليختم الصالة وسلم ذات اليمين وذات اليسار، قام يلم المصـلى، قـال لـه

ونادى علـى " إن شاء اهللا .. جمعا"فرد عليه " حرما"الضيف ثـم " جـاهز : "وجاء صوتها من الداخل .. أمي، لتعد العشاء

دخلت علينا أختي بصينية، بعد أن فتحت الضلفتين وضـعت الصينية على منضدة بوسط الحجرة، وعادت بالقلة في طبق، حملق الضيف في وجهها، فارتعشت عيناها، وسـألت أبـي

حتاجها عنا، قد ن فأمرها بأن تجعل أذنها م إن كان يريد شيئا، . تفضل: وأشار إلى الضيف

كان على الصينية طبق قشدة، وجبن وطعميـة وحـالوة طحينية وخبز محمص، شمر أبي كمه وردد البسملة بهمس، ورددها الضيف بالصوت العالي، بعد العشاء شربنا الشـاي

أنتم شباب : يف وقال ضالسخن، وقام أبي لينام، استأذن من ال ، ودخل حجرته بوسط الدار، كذلك دخلت تقدرون على السهر

أمي وأختي الحجرة المواجهة، وأغلقنا البـاب وبقيـت أنـا والضيف في حجرة الجلوس صامتين، ال نتكلم، حتى طلـب

Page 39: 4162

-٣٨-

النوم، وصحبته إلى حجرتي، فخلع قميصه وارتدى جلبـاب أبي الفضفاض، وسحب البنطلون من أسفل، أطفأ النور وتمدد

كيـف تقضـي ليلـك؟ : ة، وسألني إلى جواري، تنهد براح أبوابه على المزلقـان، فهنـاك في المقهى المفتوحة : فأجبته

نشرب الشاي، ونتفرج علـى فـيلم التليفزيـون، ونتسـلى وارنـا، لب، أما الرجال فهم يتحلقـون إلـى ج بالسوداني وال

شـيش، فـي أيـام حيلعبون الطاولة والدومينو، ويدخنون ال لمقهى إال ليلة الجمعة، دفعنـي الدراسة أذاكر وال أسهر في ا

فنمـت، وكنـت . نم.. نم: بيده حتى صدمت بالحائط، وقال . ال أريد النوم

في صمت الليل انتبهت من نومي علـى اليـد المتـوترة . العرقانة تفك أزرار البيجامة وتجول فوق قلبي المنتفض

Page 40: 4162

-٣٩-

المحاولةالمحاولةبعد آذان العصر، تركت الشوارع التي نامت فيها ظـالل

ور، واتجهت إلى الطريـق األسـفلت ألعبـر الكـوبري الد التي تدور من بعيد حول الصغير وأسير على شاطئ الترعة

ذهب إلى الجبانة، هناك الكافورة العالية التي ترمـي البلد، فأ ظلها على مقبرة الجد، على أول الجبانة رأيت الساقية القديمة

ـ بقادوسها الصدئ ى وخشبها الذي فيه السوس، طلعـت علمدارها، ونظرت إلى البئر الجافة، غاصت منه المـاء، فلـم

الريم، ركنت على سور البئـر يتبق من أثرها إال اخضرار أأسير من طريق الترعـة أم مـن طريـق : ت نفسي وحاور

، فأنا أخاف من شوارع الجبانة ومـن أسـوارها ؟المصرفالمهدمة التي يطل منها الشجر الذي يطن بين أوراقه الذباب

. زرق الكبيراأللما رأيته من بعيد استأنست به، واخترت الطريق، كـان

ارز من الفتحة الجانبية، تظهـر حافي القدمين، وذيل جلبابه ب ه المشعرة مشدودة العضالت تحت ثقل الدلو، كان ينقل انقسي

الماء إلى حفتين أمام الشاهدين الكبيرين، ينبت فيهما صـبار سـالم علـيكم، : لت لـه محوط بسور من جريد األقفاص، ق

Page 41: 4162

-٤٠-

احفظ النصوص في ظلة : على فين؟ قلت : رد السالم وسألني . الكافورة عند مقبرة جدي

نظر من الرأس إلى القدمين، ثم اقترب ليطبطـب علـى . اهللا يعينك: صدري قال

لما وصلت مقبرة الجد وقفت فاردا كفـي، ورحـت أردد الفاتحة بهمس ووالمعمـم، شديد، واقتربت مـن شـاهده دجلم أعد أذهب إلى دارك، فأخوالي .. يا جدي : وكلمته، قلت له

الخال األصغر استولى علـى الـدار ،قد دب بينهما الشجار وطرد الكبير الذي أسكن عياله حجرة بدار أصهاره وسـافر ليجمع الفلوس التي تشتري له قطعة أرض يبني عليهـا دارا

تقـرأ لروحـك أمي تبكي عليك وكل ليلة .. جديدة، يا جدي ام راقدا بقميصك األبيض على سرير الفاتحة، وتراك في المن

من الحرير األخضر تحت تكعيبة العنب، وحين تقترب منك، وتبكي، تملس بيدك علـى شـعرها، وتـأمر األوالد الـذين يرفرفون حولك باألجنحة الشفافة، فيجمعـون لهـا العنـب،

.. خـذي : وتمسح لها دموعها بطرف قميصك، وتقول لهـا . خذي العنب لألوالد

Page 42: 4162

-٤١-

انتبهت على وصوت قدمين تدوسان الورق الجاف المنثور بين المقابر، كان هو، يقبل مبتسما ومظهرا، أسنانه الصفراء بين شفتيه الغليظتين اللتين ينبت حولهما شارب كثيف مشتبك بشعر الذقن الخشن، كان يجفف بطرف الجلباب الذي تركـه

، وظلـت الكرمشـة رافعـة ...البفتةينزل ليستر سرواله : لى جواري فوق المصطبة، وقال عن األقدام، جلس إ الجلباب

: ونعم النـاس، وسـأل : قال.. آ: جدك الشيخ عبد اهللا؟ قلت .. آ: قـال . أنا ابـن بنتـه : وأنت ابن مين من األوالد؟ قلت

.ال: ما شفتش جدك لما كان شيخا للخفراء؟ قلتد يده يخرج العلبة الصـفيح مـن تنهد تنهديدة طويلة، وم

تدخن؟ : صداره، وراح يضع التبغ في الورقة الخفيفة وسألني وأبوك كان صاحبه، .. جدك كان صاحب أبي : قال.. ال: قلت

أنت ال تعرفني؟: وسألني . ال: قلت

انتهت بكحة أدمعت عينيـه، مـد . ضحك ضحكة طويلة : نيأيام بعيـدة، وسـأل : إصبعيه وعصر جانب العينين وقال

عندك كام سنة؟ . ما شاء اهللا: قال. أذاكر اإلعدادية: قلت له

Page 43: 4162

-٤٢-

ودلك فخذي بنعومة حركت دبيبا خفيفا في دمي، انتظرت ـ رج، أن يرفع كفه، ولكنه لم يفعل، وحين نظـرت إليـه بح

. لي بابتسام خبيثواجهتني عينه الجريئة، تنظر إانتفضت العضالت تحت سخونة كفه، فزحـزت سـاقي

رفع كفه وأمسك بها السـيجارة الملفوفـة : من قبضته لتنفلت. ال أدخن : رددت بحسم وبخوف . خذ نفسا : وقدمها إلي، قال

. فلم أرد. دخنت الجوزة وأنا أصغر منك: قالنه تاجر القطن الشهير الذي لم وبدأ يحكي عن أبيه، قال إ

تعرفه أيامي، وإن كان يعرفه جيل أبي، كان ثريا جدا، يملك ر الكبيرة المسورة بسور عال، تطل منه أشجار المـانجو الدا

والجوافة التي تظلل حديقة واسعة في مدخل الدار، وتكعيبـة العنب، تحتها الطلمبة وسط الحوض، ماؤها يـرد الـروح،

، وأخوته وأخواته وأمـه والمضيفة الواسعة المفروشة بكنب لقى كانت ت . الطيبة التي ال ترفع الطرحة البيضاء عن رأسها

برغم أنها لم تحج، .." الحجة"االحترام من الجميع، ويدعونها وأبوه الرجل النزيه كان يرتدي المعـاطف الكشـمير علـى الجالبيب الصوف، وطربوشه األحمر، وأدمعت عيناه حتـى

لهذا ستجدني قـد حرصـت : سالت الدمعة على شاربه، قال

Page 44: 4162

-٤٣-

على أن أجعل لشاهده طربوشا أحمر، وأحـرص علـى أن ر مقبرته هو والحاجة بالنزاهة التي تليق بمقامها، وكنت أظه

: ايـة، وسـألته بشـغف قد نسيت فعلته، واندمجت في الحك ...فأنا.. وبعدين

.. آ: ورد علي وهو يمسح دمعته بكـم جلبابـه المتسـخ أعرف أنك تريد أن تسأل ولكن مظهرك ال يدل على أنك ابن

ناس أغنياء؟ع ثروة أبيه، وانهيـار وبدأ يحكي عن الموسم الذي أضا

بينهم، وموت الرجل الكبير بالسكتة وموت أمه الذي أعقبـه بفترة قصيرة، وحياته في القطار يبيع الناس الكـازوزة فـي الصيف واللب والسوداني في الشتاء، وهجرتـه للبلـد، ثـم

مقبـرة فيها قيراطا غير هذه ال عودته إليها برغم أنه ال يملك . ة والديهلى جوار مقبرالفارغة إ يعني تبيت هنا؟: سألته

تعال أريك : لف ذراعه حول ظهري، وشدني ألقوم، وقال بيتي، وقمت معه، ولم يرفع ذراعه أبدا، حتى وصـلنا عنـد

. الحفرتين الممتلئتين بالماء

Page 45: 4162

-٤٤-

كانت الشمس قد غابت عن السماء، وانعقدت فـي الجـو كتل الغبار، والحقول من بعيد بدت فارغة والـزرع صـار

. في وحدته، والشواهد صارت موحشة ومخيفةممتدا أال تخاف عفاريت الليل؟ قال ما عفريـت : سألت الرجل

وطلب مني الدخول إلى المقبرة الفارغة، كانـت . إال ابن آدم مبنية بالطوب األحمر ومفتوحـة أرضـها علـى السـماء

. ومفروشة بالرمل النظيفن تدخل ستشـعر حي.. ال: إنني أراها من هنا، قال : قلت

وأشـرت . وضعت الكتاب على السور . أنك في بيت حقيقي توا خوة صغار ما وإ: هنا أبوك وأمك؟ أضاف : لشاهدينإلى ا

. من زمانخوة تعلموا مثلـك، واحـد لي إ : كلهم ماتوا؟ قال : وسألته

منهم لم أره من عشرين سنة، حصل على شـهادة الجامعـة لبـه، ولكنـه النـاكر وسافر إلى الخارج، دفع أبي عليه دم ق

. للجميل، لم يسأل عني مرة: وزحزح الكتاب من على السور فسقط في الداخل، وقال

انحنيت ألمرق من الفتحـة المبنيـة بشـكل . ادخل.. ادخلمحراب الجامع، غاصت قدمي في الرمل فتراجعت، ولكنـه

Page 46: 4162

-٤٥-

. ادخـل : دفعني من خلف، فكدت أسقط على وجهي، وقـال . بات معي الليلة: قال.. ملضتمسيت والدنيا ح: قلت

. قال أعمل لك شايا. ال أقدر: قلتورأيت مقطفا مركونا إلى جوار الحجارة التـي يجعلهـا

كنت أتمنى لو تزوجت وأنجبت ولدا مثلك، : وسادة للنوم، قال ولكني لم أتزوج أبدا، كان أبي قد قرر تزويجي فـي نفـس

ال تتمنى أن تتـزوج؟ الموسم الذي خسر فيه صفقته، وأنت أ . أفكر في الزواج.. لما أنهي دراستي: قلت

عمرك ما نمت مع امرأة؟ : وسألنيفاجأني السؤال، فملت برأسي إلى األرض، رفـع ذقنـي ــة، ــالنظرة الجريئ ــي ب ــة، وواجهن ــبعه الملموم بإص

ألـح . أبدا.. ال واهللا : قلت. قل الصراحة .. ال تنكسف : وقالوال : قال. أبدا.. أبدا: ك، قلت مؤكدا بذمتك ودين : في السؤال

نمت مع أوالد صغار؟انتفض جسمي، وبدأ العرق يتسرب من مسامي فرفعـت

. إصبعي ألمسح جبهتي فواجهتني نظرته الثابتـة الشـغوق .. هـه .. لسه بدري : أمسكني من ذراعي وقال .. أمشي: قلت

. عيني في عينك: قال. ال واهللا: وال أوالد صغار؟ قلت

Page 47: 4162

-٤٦-

أرفع وجهي إليه، وهو مال برأسه، وأطل علـي مـن لم أسفل مبتسما، قرب وجهه مني حتى شممت رائحـة فمـه،

وال مع حمارة؟ أو كلبة؟ : وسألني وهو على حالته . أريد أن أمشي: قلت . أجب على سؤال أوال: قال . أبدا واهللا: قلت ..عمري ما عملتها.. زي حاالتي: قال يه؟ عملت إ: ألتهس . النوم مع أحد: بأجا

في إيه؟: ما رأيك؟ سألته: ثم واصل كالمه . ننام مع بعض الليلة: قال

انسحبت بجسمي إلى الوراء، وحاولت أن أملص ذراعـي منه ولكن أصابعه كانت قد ماتت على زندي، وبيده األخرى

ـ أخرج مطواة من صداره، فردها بنطرة واحدة، وقربها ن م قلت إيه؟ : قال. عنقي

قلبي يخبط بعنف على صدري، والعرق سال من كل كان . حدبحك.. مفيش فايدة: قال. حرام عليك: جسمي، قلت له

. حاول: قال. ال أقدر: قلت له

Page 48: 4162

-٤٧-

سكت فترة طويلة، والمطواة تحوم حول وجهي، وهو قـد أمي تسـأل : هه؟؟ قلت : عض على أسنانه الصفراء، وسأل

. قل لها كنت أذاكر مع زميل: قال. عنيتى بالطوب الذي يجعل منه وسادة للنوم، وسد به فتحة وأ

منها المقبرة، وشد المقطف، أخرج منه خلقات قديمة، وكون وسادة لرأسه، ثم أخرج وابور الجاز والكنكة، التفـت إلـي

.أعمل لك شاي: وقالركن عدة الشاي، وذهب إلى الركن اآلخر كاشـفا عـن

جزه في خـط مؤخرة يتناثر عليها شعر خشن، يخرج من ع أسود إلى ظهره، حتى يختفي تحت الجلباب المشلوح، لـوى

. هنا الكنيف: رأسه نحوي وقالوقفت منتصبا، ورأيت في وقفتي رؤوس الشواهد تطل في تطفل وطربوش أبيه األحمر كان قريبا ودافق الحمرة مخفيـا

اآلن هـو مشـغول : رأس الشاهد المجاور، وقلت في نفسي رصتك وفي قفزة واحدة كنت ممسكا بطرف وهذه ف .. بخرائه

الطربوش، قافزا أمامه، داست قدمي الحفرة المبتلة، فرفعتها من الطين، وارتميت على األرض، وشعرت بحريـق النـار

أجـري فـي . في صدغي، ولكن قمت شادا كل عضـالتي

Page 49: 4162

-٤٨-

منعرجات شوارع الجبانة الضيقة، وهو كان في عفرة التراب . حدبحك.. ك يا ابن الكلبحدبح: يصرخ من ورائي

والمطواة في كانت في قبضته، وسـرواله السـاقط بـين واآلخر، وكنت ال أرى شيئا أمامي، لقد صفرت الريح الحين

ريق كان الناموس الذي هاج مـع في أذني، وعلى طول الط . قدوم الليل يضرب وجهي

Page 50: 4162

-٤٩-

ليل النهرليل النهرسمعت األصوات الخافتة تأتي من وراء ظهري قلت فـي

رأيت أشباحا سوداء في الحافة، بيـد أحـدهم . وصل: سينفكانوا يحملقون بصمت وحذر في الماء .. فتيل تتراقص شعلته

قرب الحافة، قمت إلى الجهة األخرى، ورأيت شبحه بيـنهم، ورأيت جسما طافيا على سطح النهر، يقبل جهتـي بـبطء، أمسكت حديد السور وأملت رأسي ألنظر، وأقبل الجسم ليمر من تحتي، كان وجها مستديرا ينساب وراءه شـعر طويـل يتماوج في الماء، باقي الجسم كان غاطسا في العمق، فقـط

الطويل المتماوج، وجزء من ساق متخشبة في الوجه والشعر ثنيتها، والجلباب كان منسحبا إلى أسفل، يبدو في الماء بعيدا

. كطيف لما وصلت الكوبري واألشباح التي رأيتها على نور الفتيل

صعدت إلى الجسر، لتستقبل الجسـم الطـافي مـن الجهـة األخرى، اتجهت إليهم، فبدت وجوههم المذعورة على نـور عمود الشارع، امرأة بجلباب النوم محلولة الشعر، تنوح نوحا خافتا ومكبوتا، تمسك أطراف جلبابها بقبضة مشدودة متوترة،

عقوف، يقـبض علـى وراءها رجل بعنق طويل وشارب م

Page 51: 4162

-٥٠-

زندها، يدب بأقدامه الحافية علـى األرض بعنـف، وشـال لـة ا على كتفه، ورجل يلبس جاكتـة البد عمامته كان مفكوك

فوق بيجامته المخططة، ونظارته الطبية التي كان يرفعها من حين آلخر وحبات العرق المتشبثة بجبينه لمعت في الضوء،

ى وجهـي بسـرعة، رآني حين ظهرت عليهم فجأة، التفت إل ت بكف صديقي المبلولة كوأهملني لينضم إلى الجماعة، أمس

فيه إيه؟ : وسألتهشدني لننزل تحت الشجرة الكثيفة األوراق وهمـس فـي

. غريق: أذنيأفلت الرجل الطويل العنق يده من ذراع المرأة وانحنـى على غصن جاف ملقى تحت الشجرة، ضرب به سطح الماء

. د يا طالب الدفنةوح: بصوت ضعيفونادى على الغريق . حود يا طالب الدفنة: وتابعت المرأة نداءه

والرأس فوق الماء انعكست عليه ألوان مصابيح النـادي، وسار في اتجاه واحد كان على بعد مترين من الحافة يسـير

. بنت: قالالظاهر بنت،: الهادي، قلت لصديقيمع التيارر، عدل الرجـل النظـارة وصعدنا مرة أخرى إلى الجس

. أكيد حيقف هناك.. ية البحرادوننتظر عند ح: وقال

Page 52: 4162

-٥١-

ومشينا نحو انحناءة النهر خـارج دور البلـد، وأقبلـت كان يسـحبها : الدراجة عليها الرجل السمين مقطوع الساقين

: قلت ،محمد النص : ولد سقط شعره على عينه، قال صديقي . ما تقلوش ه؟ فيه إي: ل محمد النصسأ

. غريق: قال الرجل الذي يلبس النظارة الطبيةوأمر محمد النص الولد أن يعود بالدراجة ليلحق بنا، دسنا التراب الناعم فوق الجسر، حين بدت قبة المسجد بيضاء بين خوص النخيل، أضاء مصباحها المعلق في الهـالل اآلخـر

يا شيخة آمنة : اتجهت المرأة جهة القبة، ومدت يدها: بنتها؟ قـال : سألته. فاكرة أن الغريقة بنتها : صديقيقال

: سأل النص من فـوق دراجتـه . سابت لهم الدار من أسبوع لمـا : وأكمل فـي أذنـي . معرفش: بنت مين؟ قال صديقي

. ضربوها ولعت في هدومها . كارهة عريسها: ضربوها ليه؟ قال: سألته

جمع الرجل الطويل العنق أطراف قميصه األبيض بيـده، حافة، مد الغصن حتى وصل الوجه الطافي، الونزل في وحل

التـف الشـعر . حول يا طالب الدفنة : وهتف بصوت مرتفع

Page 53: 4162

-٥٢-

ليه الغصن ملفوفـا ول رأس الغصن، وشده الرجل، فعاد إ حقـال . مفيش فايـدة : عليه الشعر األسود المبتل، نفخ بضيق

. حتقف عند الحوداية: الرجل الذي يلبس النظارةس جهة انحناءة النهر، طلب الولد الذي يمسـك وسار الرأ

الدراجة أن أسند مكانه ليقف هـو عنـد االنحنـاءة ينتظـر الغريق، أمسكت يد الدرجة من الناحيتين وشمر الولد أطراف البنطلون إلى الركبتين، وخلع النعلين أعطاهما للمرأة وسـار أمامنا ليقف على جذور الشجرة التي تنبت من النهر، سألني

من بلدنا؟ قلـت : سألني. ما أعرفش : بنت مين؟ قلت : لنصاودفعت الدراجة الثقيلة فوق التـراب النـاعم، . اهللا أعلم : له

لنقترب من الشجرة المنتصبة بين سور المصلى، الولد غاص في الماء ليستقبل الجسم الذي يقبل جهته في خط مستقيم، لما

أخـرى، واستدار ليخرج مرة وصل عند الحافة اصطدم بها ليه، ومد يده على آخرهـا، وأمسـك بالشـعر فأسرع الولد إ

الطافي، لمه في قبضته، وشده جهة الجسر تدحرجت المـرأة جهة الجسم المكشوف الساقين، قربت بالفتيل مـن الوجـه،

. ضنى أمك: مسحته بأصابعها، وحملقت فيه طويال . دي غريبة: تعرفيها؟ قالت: سأل النص

Page 54: 4162

-٥٣-

نا، وراحت تنظر م الحافة، واقتربت زفرت براحة، تسلقت . الحمد هللا. الحمد هللا: إلى القبة وتردد

ـ ب: ونادت على رجلها الذي انحنى على الوجه يتأملـه ا ينقام الرجل، وتـرك الجثـة مكشـوفة . بقينا الفجر . يا راجل

الساقين والولد وقف على أحجار المصـلى يغسـل قدميـه، طلعوهـا فـي طـب .. حرام عليكو : وصرخ محمد النص

لدراجـة، ش الجميع، وتشبثت قبضتي على يد ا مانك. المصلىطلب الرجـل . للي أنزل أشيلها يعني أنا إ : صرخ مرة أخرى

الذي يلبس النظارة من الولد أن يرفع الجثة إلـى المصـلى، : قال الرجـل . ما تشيولها انتو .. مش كفاية : شخر الولد وقال

. نشيلها كلنانزل الولد عن أحجـار . وح معاهم ر: ة لرجلها أقالت المر

المصلى ورفع الساقين وأمسك الرجالن الكتفين مددوها على وانحنت عليها، يءلمصلى، والمرأة عبرت السور الواط قش ا

فردت ثوبها على الساقين العريانين ولمت صدرها المفتـوح، والولد رفع القش وغطى به الجسم، وترك الوجه مكشـوفا،

. فرصت النهار المركز يلما يطلع: قال النص

Page 55: 4162

-٥٤-

وعدنا نحو الدوار، سار الولد ساندا الدراجة في المقدمـة، ومن خلفه كانت المرأة مع رجلها منهمكين في حوار خافت، وبالقرب منهما كان الرجل اآلخر يمسح زجاج نظارته فـي

حنـروح : منديله، وأنا وصديقي سرنا في المؤخرة، سـألني . أي مكان. فين؟ قلت

Page 56: 4162

-٥٥-

التجليالتجليحين طردت النفس األخير، وسكن صدرها، انسحب ضوء العين، صرخت النسوة ومدت واحدة منهن إصبعين يسـبالن الجفنين، ويسدالن الطرحة البيضاء على الوجه الذي صـار

. أصفر بلون المصباح المعلق على الجدار.. يا عيني يا اختي : مسح الخال دمعتين بطرف كمه وقال

كان بقلبي شـوق . د مساء لحين وصلت الب قبل ذلك بيومين و خالتـك : شديد للقاء البنت التي أحبهـا، لكـن أمـي قالـت

. واجب تزورها.. مريضة . عمرها ما غلطت فيك: قالت. ال أحبها: قلت

دفعت الباب الموارب، ودخلت عليها غرفتها، كانت وحيدة وشـعرها منكـوش ،في فراشها، الغطاء على نصف ساقيها

عر عليه بقايا صـبغة شلشعر المصبوغ بالحناء ب يختلط فيه ا سوداء، التفتت على دفعة الباب، وكانـت عيناهـا قـائمتين

. أنـا يـا خالـة : من؟ قلـت : ال تريان غير الدخان، سألت يـا خالـة : ألم تعثر على ابن خالتك في مصر؟ قلت : قالت

قالت وهي تبكي وكانـت ترفـع . غدا يجيء .. مصر واسعة وترميها بعيـدا، ثـم ،ا على شعرها ووجهها ذراعا تملس به

Page 57: 4162

-٥٦-

: ترفع األخرى تملس بها شعرها ووجههـا وترميهـا بعيـدا .. هات لنا الغرايب من بالد بعيد .. يا وابور يابو عجل حديد

، افترشت الحصير، وأسندت ظهرها على الكنبة، دخلت أمي ناولها ربما تأخذ : شقت برتقالة نصفين وناولتني نصفا، قالت

.يدكمن أخذت نصف البرتقالة، قربته من شفتيها، فاصطدمت به،

مصيها، قالت وقد أدارت وجهها جهـة : برتقال؟ قلت : قالتتركتهـا مـع أمـي، . نفسي ال تقبله .. ال أريد .. ال: الحائط

وخرجت أبحث عن الصحاب، لنقضي سهرتنا ـ كالعادة ـ ـ : خالتي مريضة، قالوا : قلت لهم ،"العربي"على غرزة ا ربن

. يشفيهاحضرت زوجات عمـي والجـارات البسـات الهـدوم السوداء، بحثت بينهن عن العيون التي أحبها، واشتاق إليهـا في بالد الغربة، صوتن كثيرا وبكين قليال نوحن فـي نفـس

. يا خراب بيتك يا حبيبتي: واحدوكانت أمي قد قامت تجمع هدوم الخالة، تعقدها في صرة

ب بها إلى دارنا، لما عادت جمعـت مـع ناولتها ألختي لتذه أمي الدجاج الذي تكوم في ركن مظلم عند الفرن، ورفعا معا

Page 58: 4162

-٥٧-

كانت تبتسم بوجه أبيض بلون الحليـب (صورتها عن الجدار ملفوف في طرحة خفيفة شفافة يظهر من تحتها منديل رأسها

النسوة سكتن مرة واحدة، وانتشرن على الحصـير ) األسود منهن أصـوات مكتومـة كانت تخرج يمصمصن شفاههن،

م عمتشنجة، ثم بدأن يحكين عن أمواتهن، ويذكرن أنها كانت ن الجارة، نظيفة طول عمرها، عايقة، تحب الثيـاب الملونـة، ولم ترفع طرحة الصالة عن رأسها منذ أن مـات زوجهـا،

ن ابنها هو الذي كان شرسا تأكل إال اللقمة الحلوة، وقلن إ الخمورجيا، كان يكسر لها الصيني والمرايـا ولـم وحشاشا و

تسترح إال حين غادرها إلى مصر، ودعـين اهللا أن يهذبـه، وأن يرحم أمه الطيبة، لما بدأن يتململن طلبت أمـي مـنهن

. أن يعدن إلى بيوتهن ألن أزواجهن وعيالهن في حاجة لهـن ودعت الرب بأن ال تمشي لهن في ،أما هي فقاعدة وأنا معها

. وهمكرلغطاء مـن بقيت أنا وأمي وحدنا مع الخالة التي سترها ا

نا عند القدم، وجلست أمـي عنـد الرأس إلى القدم، جلست أ الرأس ساندة خدها على كفها، أغفت قليال، ثم انتبهت فجـأة

وطلبت منـي . تنفض عبها وتستعيذ باهللا من الشيطان الرجيم

Page 59: 4162

-٥٨-

ة التي قد تنتشر أن أساعدها في تقليب الجثة خوفا من الرائح رفعت الغطاء فبان وجهها، وانكشف فخذها، قربت أمي . نهام

عينيها من وجه الخالة مدة طويلة، بعدها وجـدت مالمحهـا وانفرطت من عينيها دموع غزيرة، وبكت بصـوت انكمشت

: عال لم تستطع منعه، وراحت تعدد ديري المخدة يمين

ما نتيش غشيمة يا بنتي زاد علي النين

المخدة شمالديري ما نتيش غشيمة يا أختي

. زاد علي الحالأنا الذي حافظت على دموعي بكيت بكاء حقيقيا بـدموع وحزن شديد شعرت معه بأن جسدي يتطهر، ورأيت ـ فجأة ـ أن خالتي في نومتها هذه مظلومة، بـل اكتشـفت مـرة واحدة أنها كانت طيبة جدا، وأنها كانت تحبني كـابن لهـا،

فها التي صارت عروقها زرقاء تتفرغ في جلـدها أمسكت ك . الذي فقد لونه

Page 60: 4162

-٥٩-

نامت خالتي في طاعة على جنبها األيسر، لملمت ثوبها، وسترت فخذيها، وجمعت فتحة الصدر في الدبوس الذي كان

سي رحت في غفـوة شبوكا في جانب واحد، حين ثقلت رأ م . قصيرة

ـ ( ى عرشـه رأيتني صغيرا جدا بين يدي اهللا الجالس علالمضيء، على يساره سور عال تطل منـه ألسـنة اللهـب المرعدة وعلى يمينه سور عال تطل منه أغصـان العنـب

سبحان من : المثقلة بالثمار انتبهت بعدها على صوت المؤذن سبحان من كان عرشه على المـاء، .. تسمى قبل أن يتسمى

. سبحان من علم آدم األسماء نائمة، وأنها سوف تقوم شعرت ـ في الحال ـ أن خالتي

. من نومها حين يطلع نور الصبحة، أدخلوها حجرة الكنب لسغفي الصبح أحضر الرجال الم

بعد أن رفع ووزع في الشـارع يقعـد عليـه المشـيعون، أما النعش فقد ركن أمام الباب في جوفه كان اللحـاف يلمـع

ذابلة ثبتت فـي المقدمـة عـن حريره األحمر، وباقة ورد . الرأس

Page 61: 4162

-٦٠-

خرجت خالتي من بين الضلفتين لفة بيضاء معقودة مـن كل جانب، فاحت قبل أن تطرح في الخشبة رائحـة عطـر عتيق، تركنا أختي وحدها في دار الخالة، بينما سرت أنا في المقدمة مع الرجال يتأبطني صاحب كان معي فـي الغـرزة

ن الباب، وعندما توقفت خشـبة عندما طلت اللفة البيضاء م الميتة، وحرنت من الرجال تريد أن تـدخل الـدار، قالـت

هات لنا الغرايـب مـن .. يا وابور يا بو عجل حديد : النسوة . بالد بعيد

عقب صالة العصر حضر الشـيخان، دخـال المضـيفة، : ووقفت أنا في الصف مع الرجال أستقبل المعزين يقولـون

. شكر اهللا سعيكم:وأرد.. عظم اهللا أجركمبينما النسوة في دارنا قد أوقدن النار، وصففن عليها أوان

. ممتلئة باللحم الذي أحضره الخال من جزار القرية المجاورة . وبالبطاطس التي اشتريتها أنا من السوق

نه حينما وصل مع زوجه الالبسة السواد، صـرخت قلن إ الصبح، فمـا النسوة في وجهه وجددن البكاء الذي نزفته في

كان منه إال أنه سبهن جميعا وطلب منهن أن يخرسـن وأن

Page 62: 4162

-٦١-

لميتة هي أمه وليست أم أحد غيـره، يرحن على دورهن، فا ..وأكدن أن عينه كانت حمراء بلون الدم

أما أنا فقد رأيته في الصف بين الرجال مقـبال عنـد أول . الشارع بوجهه الضاحك ال يظهر عليه حزن

بل لقد كان فرحـا، فهـو . أمه لم يهزه إن موت : وقالواسيرث األرض التي سيبيعها للغريب، ويقعد في الـدار مـع

كثيـرا زوجه التي ال تلد أبدا، وسيرتاح من أمه التي ضربها وطعنها بالسكين حين طالبته بأن يعود وكسر القلل في وجهها

. للوظيفة ويدع لها األرض ترعاهاه، وكيف أكون في مصـر نني قد أوحشت سلم علي، وقال إ وهمس في أذني أن بجيبه تعميرة نظيفة، ،وال أزوره في بيته

وأننا سوف ندخنها عقب هذه الزيطة التـي ال داعـي لهـا، ووقف إلى جواري في الصف يمد يده للرجـال، فـي التـو

ه، فتركت الصـف ودخلـت انتشرت رائحة الكحول من جوف رت بجـوع كل طبق بطاطس أو أرز فقد شـع عند النسوة آ

. شديدهناك عثرت عليها بينهن تخرط البصل، ودموعها غطت العينين الجميلتين، وسألت على خديها اللذين طلع عليها ورد

Page 63: 4162

-٦٢-

أحمر، ابتسمت لي وهي تزيل الـدموع السـاقطة، نسـيت . الجوع، وحاولت أن أصل إليها

في نفـس .. قالت لي حين حطت اإلناء على الفرن، الليلة . المكان

ل الليل أشعلنا النار، وجلسنا في الغرفة التي بـآخر في أو الدار، حين كان يرص الحجارة ويمد لي يده بالغابـة، قـال النكتة التي أضحكتني، وغطت على تشنجات النسوة المتكومة

. في حجرة الكتب .في آخر الليل كنت بين الجدارين المهدومين في انتظارها

Page 64: 4162

-٦٣-

الضحى العاليالضحى العالي-- ١١ --

س أبيك، وكنا قد صلينا العصر، وخرجنا حضر معنا عر من الجامع إلى دار العروس، وصعد معنا السـلم المرتفـع، جلست بين أصحابي، وجلس هو هناك بـين الكبـار حـول المأذون، وخرج في الصورة مع العريس ضاحكا فرحا، وفي الصورة األخرى كان يجلـس قـرب الـدوالب، فالتقطـت

. الصورة جانب وجهه في المرآةوفي دارنا، لما جاءت أمك في السيارة الصاخبة، رفعهـا أبوك بين يديه، وأدخلها في زحام النـاس إلـى الصـالون،

والتقطت له الصـورة بـين أصـحاب فاستدعوه من الصالة . العرس

دك يا أسماء، الذي أشار إلى بطن أمـك بعـد جهذا هو .ولد إن شاء اهللا: خمسة شهور من زفافها وقال

.أسميه باسمك: قالتضحكت أمك و

Page 65: 4162

-٦٤-

-- ٢٢ -- قضى الحاج صالة الفجر، وعاد إلى الدار، دفـع البـاب

ـ الكبير، كانت الدار ة، ساكنة، الجدة نائمة، وحجـرتكم مغلقيشتعل زجاج بابها بالنور األحمر، فتح الباب علـى الجـدة الراقدة على فراشها تئن من أوجاع رجلها، خلع العباءة عـن

: اعة، استدار إليهاكتفه، وعلقها على الشم لسة نايمة؟ -

: نظرت إليه من تحت الغطاء، ولم ترد، سألها حيجهز لي الفطار؟ مين -

. ولم ترد. بحلقت فيه

ما بترديش ليه؟ -

. أنت مش شايف -

. إلهي تبقي عليلة على طول -

...رح يا شيخ إلهي اللي في يجي فيك -

خرج الحاج إلى الصالة، ووقـف حـائرا، فكـر أن - . ى باب حجرتكم، لكنه تردديخبط عل

ن حين يعود من صالته، يجد زوج ابنه قد أشعلت النار كافي الموقد، وجلست في ركن الحجرة، تقسم الرغيف نصفين،

Page 66: 4162

-٦٥-

تضع النصف على الجذوات، وتهب عليه بذيل جلبابها، بعـد الساخن وهـو علـى أن تنتهي تدس براد الشاي في الرماد

دد قرآن الصبح منتظرا الخبـز الكنبة، إلى جواره المذياع ير . والشاي

هذه يا أسماء عادة جدك من زمان، كانت جدتك تعد لـه إفطاره ثم عماتك قبل زواجهن، وها هي أمك تقوم بواجبها،

: ولكن أباك أمرها . ـ طالما أنا في أجازة ال تلتفتي لغيري

حاول الجد أن يعد إفطاره بنفسه، ولم يرد إزعاج أحـد، قد، وها هي زجاجة الجاز، والبراد معلـق فـي ها هو المو

مسماره، ولكن الكوالح فوق السطح، وهو العجوز الضـعيف وحاول صنع . بالش النار : لن يقدر على الصعود، قال لنفسه

الشاي على وابور الجاز، ولكن أين هي علبة الكبريت، وأين يجد علبة السكر، وعلبة الشاي؟

أنا من يومين قعيدة، : ونةعاد إلى الجدة يسألها فردت بخش . معرفش حاجة في الدار

كان ال بد أن يخبط على بابكم، ليوقظ أمك فتحضر له هذه خبط الباب، ونادى بصوت عال، وجاءه صوت أبيك ،األشياء

Page 67: 4162

-٦٦-

الصالة ليزعـق فـي ييسبه من خلف الباب، ثم خرج إليه ف . ال راحة في شغل وال في الدار: وجهه

والده الكبار، ولم يزل الواحد منهم وهو الرجل الذي أدب أ ـ وهو أب ألوالد وبنات ـ يرهب طلعته، انسحب الجد إلى

. حجرته، وقعد على كنبته، ساندا رأسه على كفه، ال يجيب

Page 68: 4162

-٦٧-

--٣٣-- كنا حول الموقد بحجرة الجد، بينما المطر يخـبط شـيش النافذة المغلقة، سمعنا الطرقات القوية على الباب الخـارجي،

البوسطجي بيده مظروف، قرأت ما به للجد فانهار على كان . مره بغلق الطاحونـة ة، كانت إدارة اآلالت البخارية تأ الكنب

ألن الشروط الصحية لم تعد متوافرة لها، فهي تقـع وسـط وابـور المباني، في حين ينبغي أن تكـون المسـافة بـين

. الطاحونة وأقرب دار ال تقل عن خمسين متراة من أحد الجيران؟ ال أحد يدري يا أسـماء، هل هذه نكاي

وما حدث أن الجد خرج رغم الوحل، وسافر ليقضي ليلته في بيت ابنته التي تسكن المدينة، ليقابل المسئول في صباح اليوم

. التاليوسمعنا من عمتك أنها كانت قاعدة بجوار بابها، ووصـل

جـد إليها لهاث ثقيل من جانب السلم، راحت تنظر، كـان ال آبـا إيـه : متربعا على البسطة عاجزا عن الصعود صرخت

اللي جابك الساعة دي؟ ونزلت إليه لترفعه من ذراعه، إلى الدور الخامس، حيث

. الشقة

Page 69: 4162

-٦٨-

مسند كان جدك قد بذل مجهودا كبيرا، فاستند منهارا على د الجد مسك العصا، هو الذي يسخر من أبناء وتعو. الكرسي

نوا للشيخوخة، وكان الجد يقعد على كرسـي جيله الذين انح إيش حـال : الصالة، والعصا بين ساقيه يؤرجحها، ويحادثها

. بقوا ثالثة.. االثنينظل جدك يا أسماء، رغم هيكله الهزيـل يتـردد علـى

اتب وراء األوراق، فكان يكثر من السفر، وفـي مـرة كالمجرح في معصمه، فقد أراد أن يركب األتـوبيس، ومـا أن

ضع قدمه على السلم، حتى تحرك مسرعا، ويد الجد بـين و .بابه المغلق، وظل يسحبه وهو يجري معه مسافة طويلة

Page 70: 4162

-٦٩-

-- ٤٤ -- دخل يوما بعد آذان الظهر، مرق من الصالة إلى الحجرة

كانت جدتك وأمك بين األوانـي، يلفـان أوراق ،بآخر الدار تكـة الكرنب على األرز، والوابور يجلجل متـداخال مـع تك

الطاحونة، فلم يسمعا خطو الجد، الذي جلس إلى طرف الكنبة . ارقصوا: بعد برهة التفت إليهما وصاح.. بهدوء

: نظرت إليه الجدة مندهشة، وقد لمت طرف أذنها في كفها . بقول ارقصوا: بتقول إيه؟ رد عليها.. إيه

وألنها لم تسمع، رددت أمك عليها ما قاله الجد، فالتفتـت . الطاحونة مش حتقفل: ليه؟ فأجاب بفرح: أخرىليه مرةإ

: وعادت الجدة إلى الملفوف تصفه في اإلناء، وهي تقول كانت اإلدارة يا أسماء قد سمحت بأن تعمل . مبروك.. طيب

الطاحونة، على أن يقوم صاحبها ببناء جدار يـدور حـول . وابورها ليمتص قوته، فال يهدم دور الجيران

معت الجـدة اآلذان يتـردد علـى د صالة الفجر، س وعنالمآذن، ولكنها لم تسمع كحته في الحمام، ولم تسمع الحنفيـة

سـقاطته تصب عليها ماء الوضوء، والباب الكبير لم تهتـز انسـحبت . للدفعة القوية التي تصحب خروجه إلى الجـامع

Page 71: 4162

-٧٠-

الجدة من تحت غطائها، فوجدته في فراشه يرتجف، فاقتربت .. هاتي بق ميه: رأسه جهتها ببطءمالك؟ فنقل.. حاج: منه

كان جدك يا أسماء قد استسلم للمـرض، بينمـا اجتمـع الرجال لما أشرق النهار في الحوش حول األسمنت والرمل، يرفعون الجدار، حين سمع أصواتهم، أصر أن يرفعوه إلـى هناك ليشرف على البناء، رفضت الجدة ورفـض األبنـاء،

بطيه، حيث فعوه من إ ، ور وأصر بعناد، فأحضروا له عصاه أجلسوه على الكرسي، وضع ساقا على ساق، والتف بشـاله، في بقعة الشمس، بالقرب من الرجال الذين ربطوا السـقاالت فوق براميل الزيت، ليضعوا الطوبة على الطوبـة، وجـدك عينه عليهم، ال تفارقهم، وفي وقت الغداء جاءت أمـك إليـه

يبتلع حبات األرز البيضـاء بالطبق، فراح يرشف الشربة، و . بعناء

وفي اليوم التالي، طلع عليه نور الشـمس مـن النافـذة، وتردد صوت الرجال، ولم يطلب الذهاب إليهم، ولما قـدموا إليه الطبق بالشربة، أزاحه بيده، وظل نائما ال يفيـق، حتـى يطلب الذهاب إلى الحمام، وألنه كان يبذل المجهود الكبيـر،

. قوا له اإلناء يبول فيهفضلوا أن يب

Page 72: 4162

-٧١-

-- ٥٥ -- بعد يومين أيقظوه، فلم يستيقظ، ظل في غيبوبتـه يـردد أنفاسه بجهد وببطء شديد، فجعلوا السرير بعرض الحجـرة، لتصبح رأسه جهة القبلة، وفي صباح اليوم األخيـر تمـددت على الكنبة مرهقا من السهر، قرب سـقوطي فـي النـوم،

يا أسماء كطفل ضال، فبعد أن سمعت نحيب أبيك، كان ينشج تولى نوبة السهر على الجد بعدي، هدأت الـدار، أعمامـك الكبار عادوا إلى دورهم، وعماتك رقـدن فـي حجـرتكم، متعبات من عمل اليوم وظل أبوك وحده، يشرف على الجد،

. قعد عند رأسه، وبدأ يتأمل وجهه النحيل وأنفاسه المجهـدة بلل ويده المعروقـة أراد أن وجسده الضامر تحت الغطاء الم

يرفعها لتهرش أنفه، لكنها تاهت منه في الطريـق وخبطـت وجه أبيك، فأمسكها، وقربها مـن عينـه، وتأمـل وشـمها

لهـا، ثـم بعليها بشفته وق المرسوم على ظاهر الكف، انحنى : وضعها بحنان على صدره، وفي الحال انفجر فـي البكـاء

. يا حبيبي يا آبا يـردد يبوبته ال يشعر بشيء، فقـط ء في غ والجد يا أسما

أنفاسا صعبة، ومن حين آلخر ينشـق الهـواء بأنفـه، كنـا

Page 73: 4162

-٧٢-

يا أسماء لما نرى ذلك نتوهم اليقظة فتميل عليـه بوجوهنـا . آبا.. آبا: هتفنو

. يعود للسقوط في الغيبوبةثم . يفتح عينه الغائمة للحظةعت فز. وانتفض أبوك خارج الحجرة، وجلس إلى جواري

. على صوته أبوك عامل إيه؟: سألته

أبوك : غطى وجهه بذيل جلبابه، وهو ينكت جسمه بالبكاء . الزم نجيب الدكتور.. أبوك بيموت.. بيموت . الصباح رباح: قلت . أبوك بيموت.. الزم دلوقتي: قال

وخرجنا معا إلى الشارع، كان الليل يا أسماء ينسحب من . يتجمع أسفلهانور العواميد بدأ والشوارع

نظرت إلى السماء، كانت الغيوم سـوداء مكدسـة فـوق ما تركنا شارعنا وانحرفنا علـى بيـت الطبيـب، لالبيوت،

سقطت على أكتفانا حبات مطر كبيرة دافئة، رفع أبوك نظرة وسـالت ت عينانا، قحزن، وعاد بنظره إلي، والت بإلى السماء

يأ ليدق بيده على الدموع على شاربه، مسحها بكم جلبابه، وته . باب الطبيب

Page 74: 4162

-٧٣-

بعد أن غادر الطبيب الدار بساعة، انطلق صوات العمات حول الجد الذي سكنت أنفاسه، مدت واحدة منهن يدها إلـى

. عينه فأسلبتها، وعقدت األخرى فكه بشال العمامةن تفجر نور الشمس الذي سقط على زجاج النافـذة، وما أ

وقف النعش على البـاب، حتى تجمع الرجال خارج الدار، و ينتظر الجد الذي حمل على األكتاف لتفرغ حجرته من وجود المهيب، ولتنتهي صالة الفجر، وليبدأ اليـوم مـن الضـحى

. العالي

Page 75: 4162

-٧٤-

المفتاحالمفتاحفي واحدة من صحواته، طلب الخـروج إلـى الصـالة، فأسرعوا إليه يقربون الشبشب من قدميـه، ويسـندونه مـن

ليقعد على الكنبة، وتجمعـوا حولـه، الجانبين، أنزلوه بهدوء ال يصدقون فقد انفتحت جفونه من حدقتيه الغـائمتين، وراح

السقف، ونظر جهـة الحمـام، ىيدور بهما في المكان، تمل وجهة الباب الكبير، ثم عاد إلى وجوههم المحملـة، وقعـت عينه على األم، فتأملها طويال، زحفت بالقرب منه وأمسـكت

. سالمة عزايمك يا حاج: قدميه تدلكهماكانت البنات على الكراسي، وعلى درجات السلم، وفـوق

يحبسن دموعهن، يكتمن العين بكـف اليـد، أمـا الحصير،األوالد فقد مكثوا يرون المشهد متماسكين، والولد الصـغير

. كان معه على الكنبة يطوق ظهر األب بذراعهيـدة مـع وشردت األم للحظة، تخيلت حياتها المقبلة، وح

.ابنها الصغير، فالتفتت إليه بلهفة بعد أن قطعت شرودها . وصيه علي.. ـ وصي ابنك يا حاج

مفيش عقل؟ .. إيه.. دفعها الولد بيده، وصاح في وجهها

Page 76: 4162

-٧٥-

: ورفع األب إليه عينا متعبة، فيها لوم شديد، كأنه يقـول . ها أنا ضعيف ومقعد، وقد انسحبت من بدني شدة األب

ها أنت تزعق في وجهها وأنا بينكم، فمـاذا : وكأنه يقول أنت فاعل بعد أن أرفع من هنا؟

بعد العشاء طلب الخروج مرة أخرى، ظنوا أنـه يريـد الحمام، فرفعوه، وعبروا به الصالة، ولكنـه انحـرف نحـو

: على فين يا آبا؟ أشار بيده العظمية : الباب الكبير، واندهشوا . ماشي سيبوني

أن يتركوه ليقع، فـأراحوه، وسـاروا لم يكن من الممكن معه، فأدخلهم حجرة الجلوس، ليقعد على الكرسـي الكبيـر، خلع الشبشب، ووضع ساقا على ساق، ثم بدأ يتأمل السـقف

خفف عنه : النوافذ والباب والصور المعلقة، همسوا فيما بينهم والولد الصغير بينهم يديم النظر فـي وجـه األب .. يا رب

يالذي يرعش البدن النحيل، ويديم النظر ف الضامر، وضعفه الوشم حول إصبعه الكبير واسمه المكتوب على زنده وتذكر

. ـ فجأة ـ الدوالب والمفتاحكان األب قبل سقوطه في الغيبوبة قد ترك المفتاح، وقال (

ال يفتح الدوالب غيره، وأكدوا أنه يحفظ فلوس جنازته بـين

Page 77: 4162

-٧٦-

تاح في عروة القميص، وعاش أوراقه القديمة، عقد الولد المف واألوالد الكبار لما يجدون الفرصـة ،مع األيام األخيرة بقلق

متاحة، يحيطون به، ويكلمونه عن فلوس الـدوالب لمعرفـة تكلف مبالغ باهظة، الكفـن، يعددها فيعملوا حسابهم، الموت

وتجهيز المدفن، وبياضه، ثم هناك أجر الحانوتي، والفلـوس مقبرة، وأجـرة الفقيـه، والـبن لقهـوة التي ستوزع على ال س بالرجل القليل، ال بـد مـن تشـريفه المضيفة، والحاج لي

وفتح الدوالب كان مستحيال، طالما األب فـي . بسرادق كبير ).الحجرة

وها هم يلتفون حوله في حجرة الجلـوس، قـال لنفسـه . أفتح الدوالب وأرى ما به.. فرصة

األب، كان سريره وتسلل في غفلة من الجميع إلى حجرة . فارغا إال من المالءة المكورة في ركن ومسانده المبعثرة

قفل، وما أن لرفع المفتاح من العروة، وتقدم مرعوبا إلى ا أدخل المفتاح في ثقبه، حتى كانت األيام من خلفـه قابضـة

: نفض يده منها، وقال . أنا حضيع .. أنا أمك : على يده بعنف . الجميعالفلوس من حق.. ال يمكن

Page 78: 4162

-٧٧-

فتح الدوالب، ومد يده تعس وسط األوراق المكدسة، ولكن يد األم المدربة خطفت الصرة المعقودة بإحكام، ودستها فـي

.. ال يمكـن : فتحة الصدر، فدب يده في صـدرها صـائحا . ال يمكن

.. أنا أمك.. أنا أمك: وهي تستغيث بضعفواستماتت على الصرة، وصمم على إخراج الفلوس مـن

: صدرها، فكتم أنفها وفمها بيده، وحاصرها في ركن الحجرة .. ال يمكن.. ال يمكن

وأخرج الصرة، وعاد مرتعشا ـ بعـد أن أحكـم غلـق لوس، حيث كانوا مجتمعين حـول الدوالب ـ إلى حجرة الج

األب، وهو ال يجيب، وقف على الباب، فـألقى عليـه األب نت األم وحـدها بته، فارتد بظهره إلى الصالة، كا عنظرة أر

. جالسة فوق الحصير، تنوح وتلطم خدها

Page 79: 4162

-٧٨-

ظل الموتظل الموتأنت منذ : لما عاد األبناء من الجبانة تكاثروا حولها وقالوا

. من ريحة المرحـوم : وقالت أمهم . اليوم معنا في دار أخيك ولما تأملوا وجهها المغضن، اكتشفوا في خطوطه وجه األب

. الذي واروه الترابب، أضاءوا حجرة األب، لتنير للروح التي عند آذان المغر

تزور األحبة كل مساء، وطلبوا من الشيخ أن يتلو آيـات اهللا لتأنس الروح، وتبارك أهل الدار، بعد آذان العشاء قالوا للعمة

. فراش أخيك فراشك: العجوز

: : متواليات العزاءمتواليات العزاءوكانت ـ في طلعة النهار ـ قد أقبلت على ظهر الحمارة

ضامرة، مرت بين الرجال القاعدين على الكراسي السوداء ال المرصوصة بجوار النعش بعد أن قطعت الشـارع الطويـل

.يسحبها ابنها الكبيرعند باب الدار، فردت كفها على الجـدار، فقـام رجـل

البقية في حياتك، وفتح لها الباب حيـث واجهـت : وساعدها

Page 80: 4162

-٧٩-

السواد المكدس بالردهة، وراحـت تسـتند علـى حـوائط . جرات بيد، وباألخرى جمعت طرف الشاش حول وجههاالح

ها طريقا ضيقا بين ظهـورهن، لالنسوة المعزيات أفسحن وبالنظر الشحيح لمحت على السرير ـ تحت المالءة البيضاء ـ الجسد النحيل الساكن المسدول عليه البياض، تتجسد تحته تكوير الرأس وانتصابة القدمين، والسـرير كـان بعـرض

ة ليصبح الرأس جهة القبلة، والنافذة ـ فوق السرير ـ الحجر . مغلقة بالشيش والزجاج لتحمي الراقد من عين النور

على عتبة الحجرة كادت تسقط من الـوهن، غيـر أنهـا فردت ذراعيها فجأة فاصطدمتا بالضلفتين، لتخبطـا الحـائط على الجانبين بقوة، قامت امـرأة لتجلسـها عنـد القـدمين

. المنتصبتينحين ارتاحت على األرض، تنهدت إذ أنها بـذلت الجهـد

. ما كان لها أن تجـيء : الكبير، وهمهمت النسوة فيما بينهن وهمست واحدة متكومـة علـى . العظمة كبرت : اوقلن أيض

. أكبر منه بأربع سنين: نفسها

Page 81: 4162

-٨٠-

حين مسحت الدمعتين اللتين انحدرتا في شـقوق الوجـه، عمود السرير وساق الراقـد رأت في مرآة الدوالب وجهها و

. حتى حدود العورة المطفأةكانت أحب األخوات إليه، مات زوجها من عشرين سنة، لم ينقطع هو عن زيارتها في العيدين والمواسم، يزورها في دار ابنها البعيدة، وكانت تسعد بحضوره، يطل عليهـا مـن الباب شامخا بعمامته الزاهية وجلبابه السـابغ الفضـفاض،

ويمد ابنها كفه المجذوم . إزيك يا فاطمة : نحني عليها بقامته يـ جف حتى صار كجذع شجرة سنط ميتة ـ ويحييه كمـا

.ينبغي للرجل المتواضع أن يحيي الرجل العالي القدريفرد الحصير الالمع الملموم في الركن، يهـزه هـزتين يسقط الغبار المنتشر في ثنايا السمار، ويبسطه على األرض،

حلف عليه أال يجلس حتى ينيم المسند على الحصير، ويمد وي . خلف ظهره الوسادة المكسوة بالكيس األبيض المطرز

هكذا يبدأ عندها العيد، وينتهي حين يفتح المحفظة البنيـة الكالحة، ويختار لها الجنيه من بين الورقات الكثيرة، تدسـه

هـو في كيس القماش المزموم بخيط يلف على رقبتها، وها يطيع الرجال الـذين مستكين للغطاء المفرود عليه، وها هو

Page 82: 4162

-٨١-

رفعوه عن سريره إلى المغسلة التي امتدت بطول الحجـرة، أما هي فقد قبعت بين النسوة ترقب الداخل والخارج، يضـيع أنينها في العويل المرتفع، تراه لفة بيضاء نحيلة بـين أذرع

غطس في غطـاء الرجال القوية، مندفعة إلى خارج الدار، لت ممسكة الشاش ناقالنعش الممتد أمام الباب، تتدحرج بين السي

. بالسالمة يا أخويه: لتهتف بالصوت الباكيثم تركن على حائط الردهة منهارة، في دار واسعة فارغة

. احتفظت أركانها بصريخ النسوة المتشبثكانت الضلفتان المفتوحتان تظهران السرير النـائم علـى

قعة الماء، وقطع القماش األبيض تتناثر حولها نتف جنبه، وب ها قد رحـل زوج : القطن المبتل، حدثت نفسها الحزينة قالت

قضى عمره الطويل يجمع .. الشاطر.. المرأتين وأبو العشرة اليـوم .. ويلملم الدور والطين والطواحين وما خرج إال بكفنه

أقعد فـي داره تكتحل عينه بلقيا أبيه وأمه، بينما أنا المسكينة .ووحيدة المفتوحة األبواب خائفة

: : يوم الثالثيوم الثالثقعدت بين النسوة ال تنبس، شربت القهوة السادة، وتغـدت

. بين أبناء أخيها

Page 83: 4162

-٨٢-

: : الخميس الكبيرالخميس الكبيركانت وحدها على الحصير بالردهة، لمـا عـادوا مـن المضيفة آخر الليل ودخلوا حجرة الكنـب، بسـمعها القليـل

مال أبيهم، بعـد مصـاريف الجنـازة عرفت أنهم يتقاسمون والدفن والخميس، جعلوا للذكر مثل حظ األنثيين، والثمن لألم الكبيرة، وادخروا مبلغا لألربعـين، ولمـا تـذكروا اآليـة وتذكروها أرادوا أال يغضبوا اهللا، فمد كبيرهم يـده بورقـة حمراء، ظلت في كفها حتى نامت في حجرة أخيها المظلمـة

. غير راضية

: : ي األربعيني األربعينففقضت النهار بين النسوة ال يكلمها أحد، وحصـلت علـى غدائها قرب آذان المغرب، بينما رأت البنات ـ عقب الظهر ـ يختفين في الحجرة بآخر الدار، ليوزعن فيما بينهن أنصبة

. اللحم، وسمعتهن يهمسن ويكتمن الضحكات في أول الليل حين طرق ابنها الباب، لـم يمـانع األوالد : وال البنات، غير أن األم الكبيرة قالت على سبيل الواجـب

. تؤانسنا، والدار دار أوالد أخيهادعها بيننا

Page 84: 4162

-٨٣-

لكنها شدت يده ليرفعها على الحمارة السوداء، الضـامرة . وعادت

Page 85: 4162

-٨٤-

بعد الرحيلبعد الرحيلذات عصر عاد من السفر، دفع الباب، فوجد حجـرة األم

يش مغلقا، والظلمة ائمة على جنبها، كان الش ي ن مفتوحة، وه الخفيفة لم تجعله يلم بالمكان، ركـن الحقيبـة بـين الكنبـة

ته، فانتفضـت األم علـى حزت الكنبة من ت أوالحائط، وقعد ف الصوت، ربعت وسط السرير، ولمحت شبحه، وضعت كفها

من؟ : على عينها وقالت . ـ أنا

ـ وصلت من زمان؟ . ـ لسه دلوقت

يديها وقبلته على خـده، ين ته ب ذوارتمى في حضنها، فأخ تتغذى؟ : سألته

الجماعة فين؟.. ـ شبعان . لين على نفسهم أوضتهمقاف: أزاحت يدها

خير؟ فيه حاجة؟ : سأل. عرف أنها غاضبة . ـ أبدا

ولم ترد أن تحكي له، فخرج يغسل وجهـه مـن حنفيـة الصالة، ويلم شعث شعره، سمع أخوه دفق المـاء، فـوارب

Page 86: 4162

-٨٥-

بتسـم لـه مـن وراء ا، ن بالفانلة والسروال الباب لينظر، كا . إزيك: الباب، وأقبل عليه يقبله

. ـ الحمد هللاوخرجت زوجه تجمع شعرها بمنديل أحمر، سلمت عليـه

على نافذتها قماشـة خجل، وانسحبت إلى حجرتها المسدول ب : نور الشمس، همس أخوه في أذنهتمنع

. وأنا.. ـ أمك زعالنة . بعدين.. ـ بعدين

يه؟ بيقول لك إ: فسألته بعتابعاد إلى حجرة األم، و . وال حاجة..ـ ال

بعد المغرب، عاد يلبس هدومه ليخرج إلـى الصـحاب، فيه طبق : فوجد على ترابيزة الصالة طبق خضار، سأل األم

طبيخ على الترابيزة؟ . ارميه لهم: ردت بغضب

ـ ليه؟ـ : اقالت بغضب حقيقي، وكانت الدموع حائمة فـي عينه

. تحرم علي لقمته . ـ آكله أنا

Page 87: 4162

-٨٦-

. ما أنت صاحبه.. ـ أنت حر . ـ دا أخي الشقيق يا أمه

. اشبع به: فتركته وخرجت من الحجرة، وهي تقولكان أخوه قد انتهى من ارتداء قميصه وبنطلونه، وخرجا

. معا. يرضـيها شـيء أمـك ال : قال في الطريق إلى المقهى

خدي مصاريف، قالـت مـش رفضت األكل معنا، قلت لها، عايزة، البركة في خير أبوك، واستحلفه بـالنبي أن يفهمهـا،

يا سـيدي : قال. خدها على قد عقلها، دي ست كبيرة : قال له . أنا خدام

عاد آخر الليل، وجد األم مرتكزة على الوسـادة تنتظـر . مساء الخير: عودته، قال

م ترد، جلس على الكنبة يخلـع حـذاءه، تنهـدت األ فلم حششت أنت وهو؟ : وسألت . حنا رجاله يا أمهـ إ

اسمع : فأمسكته من قميصه قبل أن يفك أزراره، وصاحت كل واحـد مـن تدوني.. أنت وأخوك، الزم تشوفوا صرفة

. وبكت.. ي معكندختمهيته عشرة جنيه، ل

Page 88: 4162

-٨٧-

المنسيةالمنسية--١١--

الباب الغربي مفتوح الستقبال هـواء البحـر المـنعش، روب ينفذ منه الضوء األصفر الذي يستطيل حتى وساعة الغ

يرتمي على الجدار، يتمطى ليخرج من النافذة المطلة علـى . السلم

من الباب الغربي تتدحرج أسماء إلى الفسـحة ـ ينتشـر على أرضها تراب ناعم ال يقضي عليه ماء الطبيخ والغسيل

. واالستحماملـدار، وهناك ـ في الفسحة ـ تعطي الطاحونة ظهرها ل

تطل نافذتها ـ المسودة القضبان ـ علـى البئـر السـاخنة أسود يترنح في الهـواء وحفرة ماسورة العادم، تطلق دخانا . حتى يدخل عشة الدجاج، فوق السطح

هي تتدحرج تحت عشة الفرن، بناها جدها مـن طوبـة وفرش حمراء وطوبة سوداء، وعرضها بالخوص والجريد،

حل الجـاموس، ف الراقد في الركن ك سقفه بالقش لتحمي الفرن

Page 89: 4162

-٨٨-

أسماء تنقل تراب الفرن األسود، وتدسه هنـاك فـي فتحـة صندوق الغالل البارك كجمل عجوز؟

وتسحب عود الحطب الجاف، لتنكت في التراب، تنكـت في التراب، بعود الحطب، ويدها صغيرة لينة، لكنها تصـر،

ا بين وتخرج الطوبة والطوبة حتى تعثر على الدودة، تمسكه ركتهـا وتواصـل إصبعيها الصغيرين وتقربها من عينها، ت

ن الحفرة عميقـة، وبعيـدة األغـوار، الحفر، هي ال تعلم أ . ال تحفري يا أسماء، فها هنا ترقد العظام، ال تحفري

Page 90: 4162

-٨٩-

-- ٢٢ -- نـوم : وكانت العمات حين أقبلن ودخلن الدار قلن ألبيهـا

. أسماءعلى السرير، أخذها وارب الشيش، وطرد الذباب المكدس

في حضنه، وكان قد لقمها البزازة وراح يهدهد على كتفهـا، ع عينهـا السـاهمة هدهدة منتظمة حتى ثقلت جفونها ولم ترف

. عن وجهه، حتى أخذها النوموانطلق صراخ أمها من الخارج، فقامت منتفضة فزعـة

. باكية، حملها وهو حائر بهاها الصغير، ويدها خرج على الصالة، ورأى انقباضة وجه

ممدودة إلى الحجرة التي ينطلق منها الصراخ، التفت حولهـا . ال حول وال قوة إال باهللا: العمات، وقلن

وطلبن أن يخرج بها إلى الفسـحة، حتـى ال يزعجهـا الصراخ، واشتد بكاؤها، واشتدت رغبتها في الـدخول إلـى

نهـا كان يعرف أ ،الحجرة، وراح يجمع اللعب التي قد تلهيها تحب ذلك القفل األسود الكبير المعلق فـي البـاب الغربـي،

ظلت تضرب القفل في خشب الباب، والصرخة . فأخذها إليه عـن اللعـب وتنصـت، لما تشتد وتصل إليها، تتوقف فجأة

Page 91: 4162

-٩٠-

وتعبث مالمح وجهها، وسمع أبوها أصوات الرجـال عنـد الطاحونة، يمسك أحدهم الشعلة، واآلخر قبض علـى ذيـل

سـتدور الطاحونـة، وتلغـي : بأسنانه، قال لنفسـه الجلباب . الصوات فال تسمعه أسماء، وال يسمعه الجار المتطفل

أخذها إلى نافذة الطاحونة لترى الرجال قد استماتوا على اليد الحديد يلفونها بقوة، والطارة الكبيرة تسرع في دورانهـا ا كثور هائج، ومكثت تنظر حتى مأل الدخان المكان، فقعد به

إلى أن جاءت العمة مندفعـة على الكنبة في الهواء المتجدد . قامت بالسالمة.. الحمد هللا: تجفف يدها في صدرها، قالت

ولد وال بنت؟ : سألها . بنت: قالت عاملة إيه؟ : سألها . بين الحياة والموت: قالت

: وأكدت أنها لن تعيش، وقالت بعد أن لمت الخلقان القديمة . هم سالمة الكبيرةالم.. في داهية

وعاد ينظر إلى أسماء، فيراها مبتسـمة مسـتعدة للعـب مشيرة إلى القفل المعلق على الباب، وضمها بـين ذراعيـه

. بفرح شديد

Page 92: 4162

-٩١-

وهمسن ،أسماء بالدنيا : اجتمعت العمات على الكنبة، وقلن . البنت حتة من أسماء، نفس الوش: فيما بينهن

. لةبعد الشر، أسماء جمي: قالت واحدة البنت صاحية؟ : سألهن

عاشت ثالث ثواني، بعدها شـهقت ثـالث : قالت واحدة : وطلبن من األب التصرف في دفنهـا، قـال . مرات وماتت

. آخذها وأدفنها في تربتنا بعد الظهرال تربة وال يحزنون، هات حد يحفـر لهـا فـي : وقلن . الحوش

ها وخرجت الداية بالميتة، قطعة لحم داكنة مزرقة، أخـذت إلى الحمام، ومددتها على الطبلية، خلعـت الدايـة جلبابهـا،

. وبدأت تنزح الماء من الطست، وتتلو اآلياتوقام األب ليشتري قطعة القماش األبيض، وواحـدة مـن العمات صعدت إلى السطح تمسك دجاجة، وواحدة انكفـأت

. على المنخل تنقي األرز من الطوب الصغير

Page 93: 4162

-٩٢-

-- ٣٣ -- ه، رمى جلبابه على الفرن، وعقـد ذيـل جاء الرجل بفأس

القميص ثم تفل في كفيه، ضرب األرض ضـربات قويـة، وأسماء على كتف أبيها ترقب الرجـل مسـتمتعة بمشـاهدة جديدة، رمى من الحفرة فردة نعل قديم، وسكينة صدئة، قلبها

. خسارة: بين يديه، قالوركنها بجوار الجلباب، ثم جلب الطـوب األحمـر فـي

صفه الرجل في الحفرة، ورش عليـه الرمـل، ثـم مقطف، . هاتوا البنت: صفق بيده

أقبلت بها الداية، تحملها بين يديها، ملفوفة فـي كفتهـا، ـ صغيرة بطول ذراع، العمات من خلفها ال يين ردـ أي حزن

أم يفرحن، الحق أن العمات ناقشـن األمـر فيمـا بيـنهن، ،زن فهن لم يعاشـرنها وتوصلن إلى أن الميتة ال تستحق الح

ثم أن موتها رحمة من اهللا، فاألم المسكينة ال تقدر على خدمة وأسماء طيلة أيام الحمل ضعيفة هزيلة، وإن شاء اهللا ،طفلتين

. ستفيق وتسمن بعد رحيل األخرىوقف الجميع حول الحفرة الصغيرة، ونطقت واحدة فجـأة

. كأنها نسيت أمرا

Page 94: 4162

-٩٣-

: الزم؟ قـال الرجـل : ألبـ حنسمي البنت إيه؟ سـأل ا . الزم

وال نسـمي وال حاجـة، واحنـا : ردت الداية سـاخطة . حنلحدها

الزم : قال الرجل المؤمن الحريص على قدسـية المـوت . ونقوم بالواجب.. نسميها

. نسميها المنسية: نعمل اللي علينا، قالت الداية: قال األب بحرص، وارتاح الجميع للتسمية، ومد الرجل يده إلى اللفة

ورقد على ساقه، وحطها بأمان جهة القبلة، قـرأت العمـات الفاتحة، ثم استدار الرجل ليهيل التراب مـن كـل جانـب، فهرعت العمات إلى الداخل يصحن وينفضن جالبيبهن مـن الغبار، وظل األب واقفا بينما أسماء متشبثة به ناسية العـالم

. من حولها

Page 95: 4162

-٩٤-

بقعة دم بقعة دم ما سمعت بنزول الجيش إلـى صممت على الرجوع بعد

الشوارع، وبعد ما وقع تحت قدمي شاب غرق الدم قميصـه ته مع األوالد على األكتاف، وسرنا صـائحين عاألبيض، رف

في الشارع، فبرزت وجوه من الشـرفات، والنسـوة رحـن يشلشلن بأيديهن ويصوتن ويلطمن الخدود، لما تهدلت يـداه،

على جنـب فـوق وسكت جسمه الذي كان يرفرف، مددناه ألول مرة في حياتي أرى إنسانا مقتـوال، بحثـت . الرصيف

عن صاحبي الذي أسكن معه، فلم أجده، وفي الشارع حـين كنت عائدا رأيت جماعة ملتفة حول مـذياع يقـول نسـرة

. فرضوا حظر التجول: يه؟ قالواإفيه : سألتهموسرت بشعري المنكوش واضعا عصاي تحـت إبطـي،

ت متعبا وأشد جزعي بالعافيـة، نظـرت إلـى أدوس األسفل وفي الشارع الجانبي . حذائي، فوجت أصابع القدم بارزة منه

المفتوح على الميدان رأيت عربة جيش كبيرة نائمـة علـى والنار تنهش في العجل، ورائحة الكاوتش المحـروق جنبها، من العسكر المرتـدين المكان، وكان الميدان فارغا إال تمأل

ف السوداء، كانوا يضربون بعصيهم كل من يحـاول المعاط

Page 96: 4162

-٩٥-

المرور، ورأيت الطوب مبعثرا في كل مكـان، وإعالنـات . النيون البيضاء، مهشمة وزجاجها متجمع أسفل العواميد

وسرت كـأني . ركنت العصا بحذر جنب باب دكان مقفل ال أراهم، وأسرع عسكري نحوي وخبطني علـى فخـذي،

قال لي أدخل من الشـارع . مروح أنا: قلت له . ارجع: وقال . التاني

كانت الحارة زحمة بوجوه تتوقع الشر، والناس يتحـدثون بصوت عال، وعلى المقاهي تجمعوا ينصتون إلى المـذياع،

. وكل واحد منهم ينسج من خياله حكايةدخلت شارعنا، فوجدت إبراهيم الجزمجـي واقفـا أمـام

رآه عنـد قصـر جماعة كبيرة يحكي لهم بكل أعصابه مـا العيني، انتبهوا إلي، ومن مظهري عرفوا أني كنت هنـاك،

. هيه.. هيه: وصاحوا في صوت واحدورأيتها في الشرفة واقفة تعض : وساروا ورائي يصفقون

. أصابعها بقلق، لما رأتني اختفت لتفتح الباب . حتسألني عن جوزها: قلت لنفسي

وال أختـي هي زوجة صاحبي الذي تركته هناك، ال أمي لتقلق من أجلي، ثم أننا متخاصمين منذ يومين، هـي تعمـل

Page 97: 4162

-٩٦-

: موظفة، وأنا وزوجها ما زلنا طلبة، ودائما تعيرنا، وتقـول ما انتوش فالحين، ودائما تتشاجر معه، وتترك لـه الشـقة، وترمي له ابنه الرضيع، وتذهب على البلد تشـكوه ألهلـه،

ليطردنـي، وأيـام وأيام تبدي لي الكراهية، وتحث زوجهـا . تصير كما قطعة الحرير

على السلم وجدتها بانتظاري، وكنت مجهدا وكأني أرفـع حمال ثقيال أخذتني من يدي، شعرت بالراحـة تسـري فـي عروقي ووقفت في الصالة راكنا ظهري على الحائط وهـي

كده ما يـنفعش، أنـت تقلـع : وقالت: تمسح وجهي بالفوطة مقدرش ألنـي مضـروب : لها هدومك عشان تتشطف، قلت

بالرش في ضهري، فأخذتني إلى حجرتي، ووقفت خلفي تشد فيـه : جاكتتي الكاروهات وأنا مستسلم لها تماما، وصرخت

. شلنا واحد اتقتل برصاصة: قلت لها. بقعة دم على أكتافكناقص : وبدأت تفك أزرار قميصي بأصابع خائفة، وقالت

لكنها لم تخرج . أنا حاقدر . .ال: االبنطلون، ابتسمت وقلت له لفها الباب كالعـادة، وتجـرأت أنـا جرة لتغلق من خ من الح

فسحبت البنطلون بيد واحدة، فاألخرى كانـت تسـند علـى الحائط، وهي كانت جالسة أمـامي علـى حافـة السـرير،

Page 98: 4162

-٩٧-

ال أشعر بالخجل، وال هي أيضا تبدو خجلى، وسـحبت مـن على السرير مهـدما، يدي البيجامة وبدأت تلبسني، وتمددت

حـت تقد أعدت الطعام على الترابيـزة، و بعد فترة وجدتها وضعت فيهـا قـدمي، . السرير وضعت إناء به ماء ساخن

وجلست أمامي تدلكها، وكنت مخدرا من التعب وسألت نفسي معقول؟: مندهشا

رفعت وجهها بأطراف أصابعي، ونظرت إلـى عينيهـا مصـطفى مـن : قالت. ةأنت عظيم : المغمضتين، وقلت لها

. ما تخافيش عليه: قلت أطمئنها. ساعة ما نزل ما رجعش جلست علـى السـرير فـي بعد ما أكلنا وشربنا الشاي،

ما التـأم ا الذي كان ملتفا بأقماطه، وبعد ابنه مواجهتي ترضع . جسمي واستراح، بدأت أحكي لها كل ما رأيت

Page 99: 4162

-٩٨-

مكان للنوممكان للنوم لك عم أحمد بتـاع أسال: قال لي صاحبي ساكن المدينة

وتركنا الميدان المزدحم بالناس والعربـات ودخلنـا . الشايشارعا على ناصيته بائع الكفتة الواقف وراء األسياخ يهـب بمروحته على النار، فيمأل الحي بالدخان، وكان عـم أحمـد على الطرف اآلخر واقفا على طوبة كبيرة يكـبس وابـور

. بة بخط غليط فوق الكشكالجاز الذي سود بدخانه كلمة مكتو . سالم عليكم: قلنا

عن الطوبة يمسح والتفت بوجهه البشوش األسمر، ثم نزل وسلم على صاحبي بحـرارة . نهاره أبيض :يده بكهنة قدامه

وود، ومسح لنا الكرويته المركونة تحت حائط الجامع، لمـا شمت أنفي الرائحة الكريهة، تلفت حولي، رأيـت الشـبابيك

المنسوج عليها عنكبوت قديم، والجدار الراشح حتى الصغيرة . نصفه، عرفت أننا نقعد أمام حائط الميضة

. وشك وإال القمر: وقال عم أحمد . مشاغل يا عم أحمد: ورد صاحبي

وطلع على الطوبة، غرف من البستلة كوز ماء، دلقه في البراد، وكبس الوابور مرة أخرى، ورحت تأمـل الشـارع،

Page 100: 4162

-٩٩-

ميالت، والعيال الذين يعفرون المكان بلعب الكرة، والبنات الج والميدان خارج الشارع يهدر بالعربات والزمـامير، وبـدت

. زاوية كبيرة من مئذنة الجامع المطل على الميدان . األستاذ كان زميلي في الجامعة: قال صاحبي

. يا مرحبا: بص لي عم أحمد وقال . من الشرقية: وقال صاحبي

كوبين، ومسحهما بالكهنة، ولما نـاولني صب الشاي في . أجدع ناس: الكوب قال لي

وتكلم صاحبي في الموضوع، وعرفه بأنني أبحـث عـن غرفة أقضي فيها مدة التجنيد، وعرفه بأنني سـكنت بـالحي وراء الجامع الكبير، وتركت السكن حين أنهيـت الدراسـة

ـ ال واآلن أنا محتاج لغرفة، وبالغ صاحبي في الموضوع، وقنني ابن ناس ومن األعيان في بالدنـا، وال أدري إن كـان إ

سكت حتى رجـع مـن دكـان الرجل اقتنع بي أم ال، ألنه العجالتي الذي يركن دراجاته على الرصيف المقابل، أحضر

بس خليل : أكوابا فارغة، رجها في ماء الدلو، وقال لصاحبي . هو اللي يعرف الحاجات دي

ل دلوقت؟ وفين خلي: وسأله صاحبي

Page 101: 4162

-١٠٠-

. تالقيه في الجامع: قالوصحبنا لندخل من باب الميضة، ورأيت الرجال يقعدون على الحصير وآخرين يقفون للصالة، ورجال يتوضأون فوق أسمنت الميضة، وصاح عم أحمد بصوت تردد صـداه فـي

. يا خليل: الجامع: أيوه يا أحمد، قال لـه : وسمعنا خليل يرد من المراحيض

وخرج من الباب الذي انسحبت من فتحته . يزينكناس هنا عا جاكتة رمادي، كان يضع على رأسه طاقيـة مـن القمـاش األبيض ووجهه أصفر بلون الكركم، وكانت أصابعه تقطـر

. الماء على البالط المتسخرآنا فاتجه إلينا يخبط في األرض بقبقاب خشب مبلـول،

فضـا مخسلمنا عليه من وسط ذراعه وقال بصوته النـاعم وقال عم أحمـد بعـدما . أهال يا أساتذة : على األرض وجهه

أدخل . األستاذ غريب وعايز تدور له على أوضه : أشار إلي ولما أراد أن يدخل الذراع اآلخر تاه منه، . ذراعه في الجاكتة

دار حول نفسه، ضبط الجاكتة على أكتافه، ثم أخرج منـديال هه وقفاه، وتركه هناك كبيرا مكرمشا ليمسح به يده، جفف وج

Page 102: 4162

-١٠١-

مفيش : قلت. بس المشوار بجنيه .. أنا خدام : تحت الياقة وقال . عندي أوضة نشوفها ونرجع قبل آذان العصر: قال. مانع

وسرنا في الشارع الطويل، فوق شريط الترام الذي يلمـع في ضوء الشمس، وصلنا مقام الشيخ المدهون بلون أصـفر،

على شباكه، وفرد كفيـه وبخطوط بنية عريضة، وقف خليل وقرأ الفاتحة، ووقفت خلفه مع صـاحبي، ورأيـت الشـاهد المكسو بالحرير األخضر تنتصب حولـه شـموع طويلـة، ورأيت برايز الفضة المتناثرة فوق ظهره وعلى رأسه الكبير

. الملفوفة بعمة حمراءودخلنا الشارع الضيق بالبيوت الصغيرة، كـان بـداخلها

بلكوناتها الخشب المتشابكة غسيل يقطر نسوة قاعدات، وعلى الماء على الماشيين، وخرجنا إلى الوسعاية، وسطها شـاهد وحيد عليه لوحة رخام وكتابة سوداء ودجاج ينـبش جريـدة ناشفة، كانت الوسعاية مرشوشـة بالمـاء، وهنـاك علـى المصطبة رجال يدخنون الجوزة، وولد نحيف بشعر منكوش،

ة الصدئة بالحجـارة حيويمأل الصف كان يرص لهم الحجارة، الفارغة، وبعيدا عنهم نام الرجل العجوز الذي يركن عصـاه ومدد ساقيه المربوطتين بقماشة، كانت المعزة تنسل فيهمـا،

Page 103: 4162

-١٠٢-

وهو ال يشعر تاركا نفسه للشمس المتسـلطة علـى جسـمه المخدر، وإلى جواره فتاة تغسل مواعين، ثوبها مسحوب عن

كبيرة من سروالها تبدو على ناحيـة، فخذها األبيض وقطعة لم أستطع أن أرفع عيني حتى طلعت المرأة السمينة المرتدية الجلباب الملون من الحجرة المظلمة، كانت تـربط رقبتهـا بمنديل، وعلى رأسها إشارب أحمـر يتـدلى منـه الترتـر وخصالت من شعرها األكرت وحلق كبير يهتز على وجهها

حت يدها وركنت ظهرها على البـاب، القمحي، لما رأتنا مس اقترب خليل منها، ووقفنا على جنب، ضربته علـى أكتافـه

يا واد سايب الجامع وبتلف؟ قال لها وهو ينظر إلـى : وقالتأكل العيش يا أم وردة، ومال على أذنهـا وكلمهـا : األرض

أبعد يـا منيـل، : بصوت واطئ، دفعته بيدها الكبيرة، وقالت وتركتـه .. م مال بوجهه إلـى األرض وبص إلينا بخجل، ث

واقفا مكانه، واتجهت إلينا ولمحت صدرها الممتلـئ، كـان : اد، وسـألت ويطفح على الفتحة البيضاء المحدد بوساخة وس

لو قربت شـويه : أنا، قالت : قلت لها ؟ مين اللي عايز يسكن : كان عندي أوضه خدها أفندي زي حاالتك، قـال صـاحبي

Page 104: 4162

-١٠٣-

خليل يعـرف واحـد تـاني : لتقا. مفيش نصيب .. معلهش . ليهياخدكم ع

: شد خليل المنديل من خلف القفا، ومسح به وجهه، وقـال أنا واخدهم على عبده، ودخلنا الشارع الضيق الممتـد مـن

سعاية، مررنا على شواهد كثيرة مصفوفة بطول الشارع، والوانشغلت بقراءة األسماء المكتوبة وتواريخ الموت، وشعرت

: وظلت عالقة بذهني آيةبكآبة ووحشة، "يا أيتها النفس المطمئنة"

ما خرجنا إلى النور فرحـت لوالمكتوبة على كل رخامة، بالزحمة والناس الذين يسعون في كل ناحية، وماتت الوحشة داخلي، عبرنا الشارع ومشينا في ظـل العمـارات وقلـت

.نشرب عصير: لصاحبية التـي تهـل وقفنا على باب الدكان، وانتعشت بالرطوب

علينا من الداخل، بسمل خليل حين مد يده إلى الكوب فـوق المشمع المبلول، شربه مرة واحدة، وعلقت على أنفه رغاوي

. مسحها بمنديله، ثم أعاده إلى قفاهه مرقـع وكان منكفئا على الرصيف وراء العدة، صندوق

بمائة خشبة، عليه الحديدة المثنية كأنها قـدم مقلوبـة وإلـى

Page 105: 4162

-١٠٤-

اره كيس قديم مدلوق منـه أحذيـة وشباشـب حريمـي جو . خلي عنه: وصنادل عيال، قال خليل

حط كفه على جبهته وضيق عينيه، واستمر مـدة حتـى عايز إيـه : سحب المسامير من فمه الفارغ من األسنان وقال

نشغل بدق د عليه، ا رإزيك يا عم عبده، لم ي : يا خليل؟ قال له يدة المثنية، وانحنـى عليـه مسمار في حذاء معلق على الحد

ه، وهمس إليه بصـوت مـنخفض اعخليل وأحاط كتفه بذر بعدها التفت إليه الرجل، وضيق عينيه وكان وجهه الجـاف بأصداغ ممصوصة له شارب عليه صفرة الـدخان، كانـت

مين اللي عايز األوضة؟: تلمع فوقه قطرات ماء، وسأل. أنـا : اقتربت منه، وربت بيدي على صـدري، وقلـت

. لجيشاح ايرولسه متخرج : بتشتغل إيه؟ قلت له: سألنياألوضة اللـي عنـدي مقـدم ميتـين، وإيجارهـا : قال

فين هي؟ مسح شـاربه بظـاهر . وسأله صاحبي . خمستاشر: الكف ورشف من شاي الكوب المركون تحت قدمه، وقـال

فوق السـطح، : قال خليل . شارعين بعد الشارع اللي قدامك .نشوفها: م جواها، قلتابحممستقلة بنفسها، و

Page 106: 4162

-١٠٥-

خمسة جنيـه قبـل : رفع الرجل إصبعه أمام وجهه وقال بينا نرجع : ما أقوم، نظرت إلى صاحبي بخيبة أمل، وقلت له

. بعد العصر أشوف لك مكان تاني: مفيش فايدة، وقال خليللميضة، وعم أحمد اتة تحت حائط يوعدنا لنقعد على الكرو . لكيا ابني أنا حسأ: ثقيل، وكلمني القدم لنا كوبين من الشاي

وسمعنا صوت خليل من الداخل يؤذن العصر، كان صوته رخوا ليس بصوت الرجل الناضج، ومال صاحبي على أذني

سامعه، وضحك وقال لعم : سامع صوت خليل؟ قلت له : وقالالظاهر خليل فيه هللا، نتر ذراعه وصعد على الطوبـة : أحمد

نتين صـفراويتين بينهمـا وضحك ضحكة كبيرة أظهرت س .ربنا يسهل لخلقه: فراغ وقال

وبدأت الشمس تختفي وراء مئذنة جامع الميدان، ورمـت ظال طويال دخل علينا الحارة وأمسك عم أحمد الـدلو ونثـر ماءه على األرض، وارتفع صوت مذياع بائع الكفتة، وفجـأة

يدخل الشارع، يحمل كتـابين تحـت إبطـه، " فهمي"رأيت : ته بيده، مر من أمامنا ولم يرني، فنهضت ألنادي عليه وحقيب . مش معقول: نظر إلي بدهشة، وقال. فهمي

Page 107: 4162

-١٠٦-

ركن الكتابين على الكرويتة، وارتمى في حضني، قبلني، وارتاح دمي في عروقي، ونسيت هم المشاوير، أخذته مـن

: يده، وكان عم أحمد واقفا على الطوبة يبص علينا، قلت لـه بتعمل : على عيني، وسألني فهمي : قال. طاعمل شاي مضبو

أنت اللي بتعمل : نائمة في كفي إيه هنا؟ قلت له ويده لم تزل . أنا ساكن هنا ورا الجامع: يه؟ قالإ

: قـال لـي . أنا أعرف أنك كنت فـي الجيـزة : قلت له ما خلتش مكان، وكنت نسيت أعرفه على صاحبي، قام مـرة

: ذة، وقلـت لصـاحبي ال مؤاخ : أخرى وسلم عليه، وقال له شفته كتير : لنا بدفعتين، وقال صاحبي بفهمي زميل كلية بس ق

أيـام : تنهـد فهمـي وقـال . في الجامعة لما كان يخطـب . ما تتعوضش

وقصصت عليه الحكاية، وكيف أننا من الصبح نبحث عن أنا ما اعرفش، : وقلت له حجرة، وعاتبني ألن لم أذهب إليه،

ري، ألعيش فيها كمـا أريـد، ته تحت أم وقال لي إن حجر صالته ـ قاعـدا ، وتركنا خليل ـ الذي أنهى وقمنا في التو

على الكرويتة ينتظر أن أطلب له شايا، واعتـذر صـاحبي معلهش ما اقدرش أطلع معاكم عندي مشوار، وأشـار : وقال

Page 108: 4162

-١٠٧-

لما تحب تزورنا تطلع السلم لغايـة : فهمي إلى البيت وقال له . غك، تبص يمينك تالقي أوضتيما سقف السما يخبط دما

وضحكنا ثم سلم علينا وخرج إلى الميدان، ودخلنا الشارع . اآلخر لنتجه إلى البيت المجاور للجامع

كان بابه ضخما كباب الوسية، وبعد مـا عبرنـا طرقـة مظلمة، دخلنا في حوش واسع مفتوحة عليه أبـواب ونوافـذ

ات أمامهـا ب مفروش وتليفزيون نبدت منها دوائر سرير وك ناس يتفرجون، دسنا الزبالة المبعثرة على أول السلم، وهـش فهمي القطط الملومة عليها، وصعدنا سلما ضـيقا ومظلمـا درجاته متآكلة من وسطها وكان جيشا غازيا قد مر عليهـا، على السطح، كان النور الخفيف ما يزال يعم الدنيا، وصارت

هرت أمامنا مـن فتحـة والسيارات ظ .. ضجة الميدان بعيدة . هي دي أوضتي: السور، وأشار فهمي وقال

معي صديق من البلد وهو دلوقت في : لوحدك؟ قال : سألتهأجازة، وأخرج مفتاحا صغيرا، أدخله في القفل المعلق علـى الرزة، وشعرت أن الباب ضعيف ال يحمـي شـيئا داخلـه،

على والحجرة مبنية بألواح خشب ومسقوفة بخوص ويتراكم

Page 109: 4162

-١٠٨-

قفاص، ومن ناحية برزت مدخنة الحـاتي أسطحها كراتين و . الذي يفتح على الميدان تعفر السطح برائحة تغيظ

في الصالة الصغيرة المعتمة رأيت وابور الجـاز يتنـاثر وأواني قعرها مسودا ومركونة عليها ،حوله عيدان الكبريت

ي وترابيزة خضراء عليها أطباق بالستيك، دفع فهم ،أغطيتهاباب الحجرة برجله، فاهتزت الجدران وانهال علـى رأسـي تراب من السطح، وكان بها سرير مراتبه غاطسة إلى الداخل وسرير آخر عليه ألواح خشب بصفوف عليها كتب والحـذاء

شها ممزق، صـعد فهمـي ن باديا أسفل األلواح، وكنبة فر كانا عليها ورفع ترباس النافذة، وظهر النور مرة أخرى، وسمع

ضجة الميدان دائرة كطاحونة قعدت على الكنبـة، وقـرأت كلمة مكتوبة بطباشير على الحائط جهة البـاب وابتسـمت،

عشـان : وتأملني فهمي ثم نظر إلى الكلمة المكتوبـة وقـال ما انساش، وعدت بالذاكرة أليام الدراسة، ورأيت في ضبابها

علـى فهمي عند سلم القاعة فوق كتف الزميل جامعا كفيـه فمه، وعروق رقبته كانت منفوخة عن آخرها وهـو منفعـل

بة يسمعون ويتناقشون وأنـا بيـنهم مشـغول ، والطل ومتوتر: بجراءته، ولم أك أفهم الكثير من كالمه، وكنت أسأل نفسي

Page 110: 4162

-١٠٩-

نحيل البس قميص ألوانه باهتة وجزمته نعلها معقول؟ طالب متآكل عنده الجرأة يهاجم الحكومة برئيسها؟

كالمه يسري في دمي، وكنـت أحـس أن عقلـي وكانيطقطق، ينهض من ركدته ليتمطـى ويصحصـح، وأقـول

وكنت حين أتخيل نفسـي . اي من البلد جاهل جدا أنا : لنفسيخليك : مكان فهمي، أرتعش، وتنهار ساقي من تحتي، وأقول

. أنت مش فاهم.. هنا أحسنـ ا كنت أتمنى لو يصير صديقا لي، لما عرفته وجدته طيب

. وابن حالل وصاحب صاحبهلسلك المربـوط وسـط اخلع فهمي قميصه، وفرده على

ين؟ أخرج يده ف: قم اغسل وشك، قلت له : ، وقال لي الحجرة . هناك فيه زير وحنفية: من الباب وقال

ولما رجعت وجدته يخرج لفات من حقيبته، فردها علـى لنأكل خبز، وقعدنا بها من تحت السرير " حلة"الجريدة، وشد

وكلمني، وحكى حكايتهم حين أتوا هنا للقبض عليـه، سـتة ضباط أصغرهم بدبورتين، حاصروا السطح وأمروا مخبرين بالوقوف على كل شباك والضابط الكبير دفع الباب برجلـه، ولم يجد غير صديقه الذي يشاركه الحجرة غاطسا في قعـر

Page 111: 4162

-١١٠-

: قال له زميلك فين؟ : السرير مستغرقا في سابع نومة، وسأله مسافر، فتحوا الحقائب وأكياس المراتـب، وكسـروا دوالب الخشب، أخذوا الكتب، وحين وجدوا صورة المرأة عاريـة،

وقطعوهـا، . وكمان له في النسوان : تفلوا في الهواء، وقالوا ودسها واحد منهم في عب صديق فهمي، ولما تمـرد علـى

حبوه ذلك، ضربوه على أصداغه، وربطوا عينيه بمنديل، وس معهم، وهناك أرادوا إجباره على الكالم، وفي النهاية ضغطوا

دا إقرار لما تعرف عنـه : عليه ليوقع على ورقة، وقالوا له . حاجة تبلغنا

وقص علي حكايات أخرى، وشربنا الشاي مرتين، ودخنا سجائر علبته السوبر، ثم مددنا في قعر السرير، وفتح كتابـا

.قطت في النوموقرأ لي، وأنا أسمع حتى س

Page 112: 4162

-١١١-

عباءة الليلعباءة الليلكنت أنا وهي والليل في مدينة كبيرة نائمة، بعد أن فارقنا الصديق سكران بخمر حانتين، وقف يودعنا ليلحـق بـآخر قطار، ولم يدعنا معه، فهو يسكن الغرفة الضيقة التي ال تتسع

. إال له ولزوجته وبنتيه يا ليل هل تأوينا؟ : قلنا لليلتم سر العشاق والسراق، وأسـتر فرشـة كأأنا : قال الليل

. الزوجين، وأداري نومة الفقيرفنحن عاشقان غريبان، ليست هذه مدينتنا، غادرنـا : قلنا

. بلدنا ألنها تترصد للمحبين وتفضح سر القلوب . شقا طريقكما وأنا معكما أسمع وأرى: قال

آخذها إلى غرفتي التي : وكان طريقنا طويال وبعيدا، قلت وألجرب معها الحب، وألكون مثل كـل .. حها لي صديق من

األحبة، الذين قرأت عنهم، ورأيتهم على الشاشـة يتـأبطون األذرع منطلقين في خفة يرمي الهواء شعرهما إلى الـوراء، وحولهما تطير النسمة المفـردة، وينمـو الزهـر المبتسـم، وتزقزق لهم بالبل ال تراها العين، وخفت ألن صديقي حـين

، فأنا أخاف الناس، أةمرال تصحب إلى غرفتك ا : نني قال أسك

Page 113: 4162

-١١٢-

الليل سكران، فأنا ال أحب الخمر التي حرمهـا وال تأتي آخر . اهللا

تمنيت لو أجد البوابة الحديد مفتوحة، سنمرق منها خفية، م وال أشعل مصباحا ففـي وأدير في ثقب الباب مفتاحي الكتو

صـوتا، فيكفينـا رفع أري على نور وجهها، وال الظلمة سأ . همس القلوب

هناك وجدت المصباح يرش على البوابة نوره المتشـبث كبرص، وسقطت خياالتنا على قضبان الحديـد المربوطـة بالسلسلة الغليظة، نظرت إلى أعلى، ولـم أقـدر أن أرفـع صوتي ألنادي عليه، وغاظني انغالق نافذتي القريبة، نظرت

. ال تحزني: إلى وجهها الشارد وقلت . ـ طالما أنا معك ال يهم

،والليل كان قابعا هناك في األرض الخالء، يكتم ضـحكة . يا ليل: قلت

أنا ال أغلق البوابات، فأرضي رحبة، ويدي بعرض : قال . السماء . ولكننا نريد جدارا وفراشا: قلنا . أنا ال أملك غير عباءتي السوداء: قال

Page 114: 4162

-١١٣-

هنا، ينام النهـار فلنذهب إلى صديق قريب من : قلت لها . ويسهر الليل

كيف ننام عند غريب؟ : قالت . فقلبه مفتوح.. ال تبالي: أحطتها بذراعي، وقلت

كان النور يخرج مع الموسيقى من شيش نافذته المغلقـة، مددت يدي على آخرها، وخبطت طرف النافذة، فارتجفـت الضلفتان، وتردد صوت الطرقات كأنها في فـراغ، وكانـت

فة عند البوابة ترقب الباب من الداخل، خبطت مـرة هي واق أخرى، وناديته باسمه، وفي المرة الثالثة انطفأ النور، وخفت

. ال فائدة: صوت الموسيقى، وانتظرنا، فلم يخرج أحد، قالتوعدنا نعبر بقع الماء بين البيوت المغلقة األبواب، كانـت

ر، وألـف في الصمت وفي الضوء القليل شبيهة بشواهد القبو . عين من وراء النوافذ ترقبنا، وتحبس ضحكات متشفية

كنـا نسـبقه والليل العجوز يسير خلفنا يخب في عباءته، مسافة، وهو على آخر ظلنا المتعرج مجتهدا في مشية يحاول

ويلقيها على اللحاق بنا، يرفع العباءة المهترئة من حين آلخر . ه الرماديةكتفه فتلم بعثرة لحيت

Page 115: 4162

-١١٤-

أول الشارع الكبير كانت السيارات المجنونة تمـرق على ن كان ى الرصيف فرحين بالنور الغامر، وإ مسرعة، سرنا عل

قد جمع باصفراره قليال من الوحشة في جانب القلب، خـرج علينا الشرطي فجأة من وراء سور تنشـر عليـه األشـجار المتشابكة ظلمة قاتمة كان وجهه مشدودا، وأسـنانه سـوداء

ل لباسه كان أسود، البيريه والسترة والسروال والنعـل، بل ك تقدم نحونا، فكدنا نرجع بظهورنا فارين، حمامتـان سـقطتا بغفلة على خيال مآتة، وكانتا تمنيان نفسيهما بحب وفير فـي

. أرض خصيبة . نحن أخوان ذاهبان إلى قريب يحتضر: قلنا

فعالها ال ت : ونظر خلفنا فرأى الشبح الكهل، فتراجع وقال فإن الدولة تدفع لي راتبي من أجـل أن أمنـع .. مرة أخرى

. أمثالكما من السير أثناء الليلوانطلقنا، في البدء سرنا بجوار السور متالصقين نخـاف

. من انقضاض اليد على أقفيتنا وبعد أن سرنا مسافة معقولـة مشينا متحررين، ولكننا لم نتكلم، فقط نظرنـا إلـى الـوراء

واجهتنا االبتسامة في الوجه العجوز، والفم المفتوح لنطمئن، ف . كطاقة مقبرة مهجورة

Page 116: 4162

-١١٥-

في المقهى المفتوحة على الميدان الواسـع والتـي تظـل ة تعين على وساهرة طول الليل جلسنا على منضدة، طلبنا قه

السهر، وتقاوم النوم الذي بدأ يتسرب، أمسكت بكفها البـاردة . نا سعيدةأ: قالت مبتسمة. أنا آسف: وقلت .. وأنا: قالت.. كنت أود أن: قلت

وال أدري إن كانت عرفت مقصدي، فأنا كنت أمني نفسي بليلة ينفتح فيها القلب ويقول لها كل ما طواه تحـت لسـانه المتلعثم، وكنت أريد أن أقول لها كالم العشاق المعتاد، لقـد أحببتك من أول نظرة، جرحتني عيونك، وحين عرفتك قلت

فتاة الممنوحة لي من السماء، سـأدفن أحالمـي فـي هي ال صدرك وأطوي في صدري أحالمك، وأنني أرى في عينيك مدينتي البهيجة بأضوائها وطيرها المحلق في سماء ال تعرف

صحو مقيم وأيدي وشمس رحيمـة ،الغيم وال تعرف المطر . ال تغربتشـجع وأقـول، اللحظة التي أردت تأمل عينيهـا أل وفيـ على المنضدة ال رأيته ز بعيدة قابعا تحت مصباحها الـذي ين

ضوءا بلون السل، كان يهرش جنبه بيـد مقشـوطة الجلـد،

Page 117: 4162

-١١٦-

ا، ثم رفع لـي عينـه فجـأة، فارتـد ويبدو كأنه مشغول عن . بصري، وماتت الكلمات في حلقي

فنحن فـي .. لم نعد بحاجة إليك : وكنت أريد أن أقول له ـ ل الهـرش، وواصـل ونس الناس والمصابيح، ولكنه واص

. لةولقد استعنتما بي وأنا ال أتخلى بسه: بحلقته كمن يقول . القهوة لم تفعل شيئا والنوم غلبني: قالت . اقتربي مني ونامي على كتفي: قلت

ارتاح رأسها على كتفي، وأملت برأسي، وجعلـت الخـد قلـت فـي . على الخد، ويدها كانت تحت المنضدة في يدي

. أحبك: أذنهاركت شفتيها بخدر هو مزيد من خدر النـوم والحـب وح

الهادئ، وكأنها تردد كلمتي وغفونا، كان نوما جميال خاليـا من األحالم والكوابيس، قامت تفرك عينيها وترجع شـعرها إلى الوراء، وأنا بربشت بجفوني وهالني أن النهار كان يحبو ـ ا في الميدان يحاول أن يشب على الجـدران العاليـة، ولم

نظرت إلى المنضدة البعيدة وجدتها فارغة، والكرسي كـان مائال عن طرفها، ولكننا لم نسمع شقشقة العصـافير، فقـط رأينا صحوة مدينة كبيرة، تدور فـي شـوارعها سـيارات

Page 118: 4162

-١١٧-

فاكهة مضببة الزجاج، وعربات تجرها الخيل، عليها أقفاص ال سطوانة الميـدان، وكـان والخضار، وجنود يجرون حول إ

. أحذيتهم الثقيلة، يسمع من موضعناصوت