21
1 ن الرحيم الرحم بسملم الحسن سا د. إدريسميةسرة الحضالفكر والعالمي ل المعهد الجامعة العالممية اس ازيا ية بماليجتماعيةعلوم ا المعرفي في التكامل ومنهج ال خلدون ابن(" خلدون يمثل ابن237 - 808 هـ ؛2337 - 2001 م) ميةسرة الحضاء اشرقة في سما نقطة معلميزاتهم النجا واة بمفكريها المثمرة والغنيعلومت الربة في كل مجا ة والفكمعرفة. وقد شغل وال العمران البشريظريته المبتكرة عنا بنً ا وغربً ا شرقً ب المعرفة كثيرعلماء وط ذ الّ لم الفلعا هذا انسانييخ الفكر العظام في تارأحد المفكرين احتفاء به كما دعا ل م. منلقادمن اول رمضا وبحل( السنة الهجريةذه ه2030 ) هـ خلدونى مولد ابن يكون قد مضى علائة عامى السبعم ما يربو عل وقد كانمين. هذا بعا تنبأ روزنتال فرانزFranz Rosenthal ي الفكرق ف المحقلعالما( في عام)ميس ا2337 ، خلدونى مولد ابنائة عام علور ستمحتفالية بمر في ا، عوام بأن املعامحقة لذلك ا ال س ازد ستشهد( خلدونيةت السا ا في الدراً هارLawrence, 1984:24 . فمنذ) ية عن إصدارمعية والفكرلجات اسادون في المؤست عن ابن خلساتوقف الدرا ذلك الحين لم تتبة كاملة أن يشكل مك بما يمكنمه الفكريسها اً ا له وتقديرً تكريملمهرجاناتمة المؤلفات وإقا ال جوانب فكر ة في كّ عارف جم تحوي م ه. ونسبة فكرة العمران البشريشموليةاماته و د اهتمّ دون المعرفي وتعد ابن خلتساع مجال نن أقسام تنادى كل فريق مسها فقد فتبعية وأسبقيةثة ذات المنشأ الغربي بة الحديجتماعيعلوم ا ال خون يعّ المورهم. وة صرح علم خلدون في إقام ابنّ دلحديث تاريخ التاسي علم اه من مؤس ون رة أنه ب)مون العربمسلصة الوخا( جتماعء انما يصر علماة أخرى. بياريخ تارسفة الت ومن فع وامجتماس علم ا شك مؤس نثبول رو وقتصادعلوم االنسبة لمر بة الحديث. ونفس ذات ام جي المرحون داخلتأطير فكر ابن خلده مجرد تعسف ومحاولة لتربية. وهذا كلة والنفس والياس والس لة

Idris Ibn Khaldun fwcii2013 submission 68

  • Upload
    uofk

  • View
    0

  • Download
    0

Embed Size (px)

Citation preview

1

بسم هللا الرحمن الرحيم

د. إدريس سالم الحسن

المعهد العالمي للفكر والحضارة اإلسالمية

ية بماليزيااإلسالمية العالم الجامعة

ابن خلدون ومنهج التكامل المعرفي في العلوم االجتماعية

نقطة مشرقة في سماء الحضارة اإلسالمية (م2001 -2337؛ هـ808-237يمثل ابن خلدون ")

والمعرفة. وقد شغل ة والفكربة في كل مجاالت العلوم المثمرة والغنية بمفكريها وانجازاتهم العلمي

هذا العالم الفّذ العلماء وطالب المعرفة كثيًرا شرقًا وغربًا بنظريته المبتكرة عن العمران البشري

وبحلول رمضان القادم من .مما دعا لالحتفاء به كأحد المفكرين العظام في تاريخ الفكر اإلنساني

ما يربو على السبعمائة عام يكون قد مضى على مولد ابن خلدون هـ( 2030هذه السنة الهجرية )

)العالم المحقق في الفكر Franz Rosenthalفرانز روزنتال تنبأبعامين. هذا وقد كان

بأن األعوام ، في االحتفالية بمرور ستمائة عام على مولد ابن خلدون ،2337اإلسالمي( في عام

(. فمنذ Lawrence, 1984:24هاًرا في الدراسات الخلدونية )ستشهد ازدسالالحقة لذلك العام

ذلك الحين لم تتوقف الدراسات عن ابن خلدون في المؤسسات الجامعية والفكرية عن إصدار

المؤلفات وإقامة المهرجانات تكريًما له وتقديًرا إلسهامه الفكري بما يمكن أن يشكل مكتبة كاملة

ه.تحوي معارف جّمة في كل جوانب فكر

التساع مجال ابن خلدون المعرفي وتعّدد اهتماماته وشمولية فكرة العمران البشري ونسبة

العلوم االجتماعية الحديثة ذات المنشأ الغربي بتبعية وأسبقية فسها فقد تنادى كل فريق من أقسامن

رة ونه من مؤسسي علم التاريخ الحديث تادّ ابن خلدون في إقامة صرح علمهم. والموّرخون يع

ومن فالسفة التاريخ تارة أخرى. بينما يصر علماء االجتماع )وخاصة المسلمون العرب( أنه بال

جية الحديث. ونفس ذات األمر بالنسبة لعلوم االقتصاد وروبولنثشك مؤسس علم االجتماع واأل

لة والسياسة والنفس والتربية. وهذا كله مجرد تعسف ومحاولة لتأطير فكر ابن خلدون داخل المرح

2

التاريخية الحديثة والتي تندرج ضمن تطور الحضارة الغربية والتي تختلف جذريًا عن الحضارة

اإلسالمية التي أنجز فيها ابن خلدون إسهامه الفكري.

ولكن أيًضا في ،ومن جهة أخرى تعددت اآلراء في تقعيد المنحى الفكري البن خلدون

بونه مرة لالتجاه المادي الوضعي ومرة لإلتجاه ظل االتجاهات الفكرية الغربية المعاصرة فينس

وفي اآلونة األخيرة يدور الجدل حول المواقف المختلفة .العقالني ومرة لإلتجاه التطوري وغيرها

من فهم مرامي ومنهجية ابن خلدون في معالجته لموضوع العمران البشري ومدى أهمية ذلك

يتم التساؤل حول مفهوم الدولة ومكوناتها من ومالءمته لفهم الواقع االجتماعي المعاصر. وهنا

كذلك مفهوم ة السياسية مقروءاً مع األبعاد االقتصادية واالجتماعية والقيمية/األخالقية. وحيالنا

المعرفة في أصولها وتفاعلها مع المحيط التي هي فيه. ومن قلب كل ذلك يحتدم النقاش حول

خلدون أساًسا كمصدر من مصادر منهجيته وبنائه أهمية ومحورية الدين اإلسالمي في فكر ابن

دون أخذ العامل الديني في االعتبار.ه ومدى إمكانية االستفادة من فكر الفكري

متكامل للفكر الخلدوني يتطلب معرفة دقيقة هم وقد أشار الكثير من الباحثين إلى أن أي ف

، والمصادر الفكرية والعلمية من بالظروف التاريخية والسياسية واالجتماعية التي كانت تحيطه

إسالمية وغيرها مما كان متاًحا وقتها، وتجربته وخصائصه الذاتية التي مكنته من إنجاز إبداعه

الفكري، وتأثره وتأثيره في األفراد والجماعات الفكرية التي عاصرته، وما إلى ذلك من قضايا

في تشكيله وتشكيل فكره. لها دور وموضوعات شائكة تحتاج إلى تفاصيل كثيرة وعناصر مهمة

كهذه ، بيد أنه من المفهوم أنه ليس بالمستطاع استعراض كل تلك الموضوعات في ورقة علمية

تعرض لبعضها متى ما ن أن ذلك ال يمنع منلكن محدودة الحيّز والغرض. و ، التي نقدمها هنا

كان ذلك مناسبًا.

أال –انب الفكرية في أهم أعمال ابن خلدون تهدف هذه الورقة إلى مناقشة جانب من الجو

السادس عشر القرن . ورغم ما حظى به هذا العمل من اهتمام وتمحيص منذ" المقدمة"وهو

مروًرا باإلسهامات األوروبية في لغاتها األساسية عبر القرن التاسع وبدًءا باألتراك ،الميالدي

، واإلسالمي )عبر الوسيط األوروبي أساًسا(ومن بعد ذلك في العالمين الغربي عشر وما بعده،

إال أنه لم يزل هناك توجه يحتاج إلى مزيد من النقاش حول طبيعة منهج ابن خلدون عموًما

وصلته بالبعد الديني اإلسالمي، ومدى صالحيته وإمكانية االستفادة منه في بناء معرفي يتجاوز

عية الحديثة. ومع أن بعض الدراسات قد تعرضت التي تعاني منها العلوم االجتما العقبات الفكرية

التي تنحو منحى إسالميًا أن الدراسات ، إال أنه نادًرا ما تربط بينها. كما الموضوعاتلبعض هذه

أن تثبت أن فكر ابن خلدون هو محصلة اللتزامه إما أن تحاول :في فهم وتقعيد الفكر الخلدوني

3

اإلسالمية التي اتبعها، أو تحاجج بأن الفكر الخلدوني ذا وبالتالي نتيجة مباشرة للمباديء ،كمسلم

بما –خاصة علم االجتماع –المصدر اإلسالمي قادر على رفد العلوم االجتماعية المعاصرة

ا وإقالتها من عثراتها التي تعانيها اآلن؛ وبعضها يأمل ويعمل ألن يصبح الفكر الحهيساعد في إص

لرؤية إسالمية منافحة عن األمة وفي –ة إسالمية المعرفة ضمن إطار حرك –الخلدوني مرتكًزا

تدافع مع أفكار غيرها من األمم األخرى. وهذه المواقف مع مشروعيتها ومعقوليتها إال أنها تحتاج

تها في التعامل مع واقع اجتماعي عإلى المزيد من التمحيص والتدقيق الختبار مصداقيتها ونجا

.وفكري معقد كالذي نعيشه اآلن

وتذهب هذه الورقة إلى ان خير مدخل لإلجابة عن التساؤالت أعاله هو معالجة وفهم

مسألة طبيعة مراد ابن خلدون من علمه الجديد والمنهج الذي اتبعه للوصول لتحقيق ذلك المراد

من خالل فحص المقدمة نفسها وتتبع منطقها الداخلي في إطار تموضع ابن خلدون تاريخيًا، من

ئصه وتجربته الذاتية، كعالم مسلم يعيش ويتنفس ويبدع في محيط حضارة إسالمية لها واقع خصا

فردة، وإن بدت الحضارة حينها أنها على وشك الدخول في سبات تتراثها ورؤيتها الكونية الم

عميق ما زلنا نشهد مالمحه حتى اليوم.

ابن خلدون وعصره:

بات السياسية التي انتظمت كل العالم عاش ابن خلدون في فترة تاريخية اتسمت باالضطرا

( توالت اآلن اإلسالمي شرقًا وغربًا. ففي األندلس وشمال أفريقيا )المغرب والجزائر وتونس

الهزائم على المسلمين وكثر التناحر والشقاق بينهم وتوالت الثورات واالنقالبات في عصر كان

ي واالجتماعي. فالفرنجة قد استجمعوا طابعه الفتن وعدم االستقرار السياسي، ومن ثم االقتصاد

قواهم لطرد المسلمين، كما حدث في قشتالة، وضعف نفوذ الدولة األموية مما استدعى تدخل

هذه عمتالمرابطين أوالً ثم أعقبهعم حكم الموحدين لينفرط العقد مع مجيء حكم الطوائف. وقد

ا وبربر وقبائل، وغيرهم من بادية وحضًرا وعربً -االضطرابات جميع قطاعات المجتمع بأسره

فئات المجتمع األخرى. أما في المشرق فقد هجم التتار على بغداد وزحفوا نحو الشام وهددوا

مصر. ولم تكن حال المسلمين في هذه البقاع بأحسن حال من تلك التي بالمعرب العربي. وبذلك

رت تحت رحمة قوى فإن عواصم ومنارات العالم اإلسالمي إما أنها ضمرت وتقلصت، أو صا

التنازع الداخلي.خارجية ذات صولة، أو تضعضعت بتأثير

في زمن ابن خلدون بروز عالمات االنهيار في كل أرجاء العالم اإلسالمي/العربي ورغم

إال أن التراث الفكري لعهد الحضارة اإلسالمية الزاهر مازال له وجود ملموس وخاصة في

علماء العصر الذهبي في كل مجاالت العلوم من طبقة األندلس ومصر. ومع انحسار طبقات

4

والجاحظ والغزالي وأمثالهم، إال أن آثارهم العظيمة مازالت متداولة الفارابي وابن سينا والبيروني

قيد البحث لفترة طويلة بعدهم. ولكن ما يجب االلتفات إليها هنا أن معارف تلك الحقبة الماضية تم

. بما فيها من علوم الفلسفة والرياضيات العقليةلية )الشرعية( ونقعلوم التأطيرها في القسمة بين ال

والفلك والطب والتاريخ والجغرافيا وغيرها. أما العلوم الشرعية فقد اختصت بمعارف الوحي

والدراسات الدينية في أصول الدين وأصول الفقه وتبعتها علوم اللغة لما بينها من اتصال وثيق.

منذ أيام أشبيلية في ابن خلدون سليل أسرة عريقة في العلم والسياسة ومن المعروف أن

قشتالة وإلى ما بعد خروجهم ومولد ابن خلدون بتونس. ثم أنه قد درس معظم تلك المعارف على

يد عظماء وأساتذة زمانه ممن جاءوا من األندلس وممن كانوا بأفريقيا حينها. وقد ذكر ابن خلدون

ممن تتلمذ عليهم وذكر كذلك العديد من الذين رافقوه في رحلته ء العلماءسبعة وعشرين من هؤال

العلمية بالمغرب العربي وترجم لهم. فهو قد درس علم القرآن والقراءات على والده وعلى أبي

عبد البر بنودرس على األخير كذلك الموطأ البّرال في إحدى وعشرين ختمة، عبدهللا محمد بن

ومع شيوخها كأمثال ،وعلوم اللغة على يد والده كذلك ،تب الفقهفي األحاديث وبعض ك

الحصائري والزرزالي وابن بحر. وأخذ الفقه كذلك على يد أبو عبد هللا محمد الجيّاني والموطأ

لإلمام مالك مع قاضي الجماعة محمد بن عبد السالم. وأفاد كذلك كثيًرا من مجلس السلطان أبي

هم شيخ الفتيا وإمام المذهب المالكي محمد بن سلمان مناء األندلس والحسن ومن جاء معه من علم

بد هللا محمد لية أبو ععقالسطى وإمام المحّدثين عبد المهيمن الحضرمي. وكذلك من شيخ العلوم ال

براعة الخط "وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، يوسف بن رضوان اآلبلي. وأخذ عن ابن

الشعر، والخطابة على المنابر". ومنهم من كان مبرًزا وحوك السلطان،والبالغة في الترسيل عن

محمد بن الصبّاغ. وال ينسى هنا بالطبع صداقته وصلته الوثيقة كفي المنقول والمعقول مًعا

بالمؤرخ األديب ابن الخطيب. ويظهر من هذا كله أن استعداد ابن خلدون ومقدراته الذهنية

والخبرات العلمية واإلدارية األسرة العريق في العلم والسياسة والعملية، مضافًا إليها إرث

مع ميله ،وتجاربها في االحتكاك مع قطاعات المجتمع المختلفة، قد أهلته للقيام بنفس ذات الدور

الشديد للعلم والمعرفة. فبالرغم من تبوؤه المناصب اإلدارية منذ الثامنة عشر من عمره إال أنه لم

لعلم والتدريس. وفي كل تجاربه الحياتية منذ أيامه في تونس وإلى نهاية عمره ينقطع عن تلقي ا

بمصر استمر ابن خلدون في التواصل مع المراتب السياسية والعلمية الكبرى في حلقات العلم

والتدريس أو من خالل تقلد مناصب الفتيا والقضاء، مع تباعده في أخريات حياته من الوظائف

في خدمة الحكام والسالطين. إن هذا الرصيد الّضخم من تراث أسرى ومقدرات اإلدارية المباشرة

ذاتية عالية وأجواء علمية مواتية وتجارب حياتية في مجاالت السياسة واإلدارة والمدارسة

5

إلى عامة الناس حضًرا وبدًوا في واالحتكاك مع مختلف طبقات المجتمع من سالطين ورؤساء

طبائع كل مجموعة وسبل عيشها وتعاملها مع واقع الحياة وفي التداخل مجموعات قبلية، ومعرفة ب

كل هذا أتاح فرصة كبيرة للوصول إلى معرفة وعلم جديد –مع غيرها من المجموعات األخرى

لم يسبقه إليه أحد.

ما مدى صحة هذا الزعم؟ وما طبيعته الجّدة في هذا العلم الجديد؟

عن المنهجيات السابقة؟ ؟ وهل هي مختلفة... منهجيته وما

أشار بعض من الباحثين أن كثيًرا من األفكار التي جاء بها ابن خلدون وقد سبقه إليها

قوالته من بعض المؤرخين السابقين نالعديد من العلماء والدارسين قبله. وهم يشيرون بذلك إلى

جارب األمم"، دون ما نقله ابن خلدون من كتاب مسكويه "تودون اإلشارة إليهم. ومثال ذلك

اإلشارة إلى ذلك، في موضوع سياسة معز الدولة أثناء حكم البويهيين بل "عند سرده ألخبار بني

، ملخًصا إياها العباس منذ ظهور البويهيين ... فإنه يتبع نفس األحداث الواردة في تجارب األمم

ور قد يكون ابن خلدون قد ومستغنيًا عن عديد األخبار المرفقة من قبل مسكويه". وأن فكرة التط

أخذها من مسكويه أيًضا ومن أفكار إخوان الصفا، كما أشار إلى ذلك محمد الطالبي. أو حتى فيما

يتعلق باألفكار األساسية التي بنى عليها ابن خلدون علمه الجديد كموقفه من مباديء الكتابة

ؤرخون من أخطاء عند ذكر بخصوص ما يمكن أن يقع فيه الم –التاريخية والتي نقل ست منها

من البيروني دون ذكر اسمه. أو فكرة العصبية وقد سبقه إليها الجاحظ –وفهم الوقائع التاريخية

ذلك أن موضوعات السياسة والملك قد تمت كوالبيروني وأبو حيان التوحيدي. ويشير عنان

(. وفي علم المجتمع هـ721قتيبة الدينوي )ت منذ القرن الثالث هجري كما فعل ابن معالجتها

بأرسطو( "عن حاجة اإلنسان إلى االجتماع والتعاون، وعن نشأة صوالً تحديث الفارابي )مو

سين ووطبقات المرؤ"القرى والمدن". وكذلك ما كتبه إخوان الصفا عن السياسة واالجتماع

وكذلك .وحاالتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذهبهم وأخالقهم وترتيب مراتبهم ومراعاة أحوالهم"

" الذي يتحدث وكيعترف ابن خلدون بفضل بعض من سبقوه كالطرطوشي ومؤلفه "سراج المل

ة في السلطة والصفات التي تؤدي إلى ضياع الملك واألموال وإنفاقها واجيعن الخصال ال

والدواوين والحروب وغير ذلك مما تطرق له ابن خلدون. ويلحق في هذا المجال كتابات األقدمين

أرسطو وبطليموس والطبري والمسعودي والواقدي ومن تالهم مثل الغزالي والجاحظ من أمثال

الرازي.الفخر وابن سينا والطوسي و

ذكر أن ابن خلدون قد أشار إلى أكثر من نكل ما سبق ذلك صحيًحا ولكن عندما وقد يكون

لنا افهة يتبين مششخصية منهم المفكرون والمؤرخون والشعراء والفقهاء دون من أخذ عنهم 082

6

مية إلى جانب علوم السحر كحجم إطالعه الواسع في كل ضروب المعرفة من شرعية وح

والكهانة والتنجيم، وأنه قد كتب مقدمته وتاريخه الضخم في ظروف قاهرة ومليئة باالضطرابات

إذا أدركنا كل ذلك لعذرنا ابن خلدون في عدم –مما يجعل الرجوع إلى المصادر أمًرا صعبًا

لبعض من استعان بأفكارهم. هإيراد

قد اعترف أو لم يعترف بمن أخذ عنهم، و إن، وولكن األمر الهام حقًا هو أن ابن خلدون

جاء بعلم جديد لم يسبقه إليه أحد من قبل من المفكرين والعلماء، وإن المنهجية التي وضع أسسها

يد لم يأت صدفة كما قال محمود تناسب علمه المبتكر. هذا هذا العلم الجدوجديدة كل الجدة

واقعه حب المعرفة لفهم ما يدور حول نفس قلقة ي، بل هو نتيجة لمجهود ذاتي ضخم كان دواذال

تحوالت كبرى للعالم الذي يعيش فيه ابن نذرة بمعرفيًا في ظروف تغير اجتماعي كبير توحي

ره واالستعانة بتجاربه بن خلدون أن يفهم ذلك دون االستعانة بمعارف عصوما كان الخلدون.

ومقدراته الذاتية وتجاريب إرثه األسري ومراقبة األحداث من حوله والمشاركة فيها. ومجمع هذه

الخصائص والصفات والمعايشة الواسعة العريضة شرقًا وغربًا في وقت تنزوي فيه الحضارة

بين شرق والغرباإلسالمية وتصعد فيه الحضارة الغربية وتمور فيه األحداث بحيث يلتقي ال

التتار والفرنجة والعرب والبربر األتراك وغيرهم من الفرس والهنود والشعوب والقبائل واألديان

األخرى. فتلك لحظات فاصلة في تاريخ البشرية جمعاء ترتقب مجيء ذهن حاد الذكاء ذي همة

ها في عالية للمعرفة وجسارة لخوض التجارب، ومعرفة موسوعية يستطيع صاحبها أن يصوغ

خلق جديد لتصور جديد ومنهجية جديدة.

ية وقد وقع الكثيرون من دارسي ابن خلدون في خطأ منهجي جسيم ذي شقين: فهم من ناح

أرادوا أن يؤطروه في إطار أضيق من اتساع شخصية ابن خلدون وعلمه واألحداث التي شكَّلت

ر علمه ومنهجه إما بكبسه في فكره وحاول هو أن يفّسرها. ومن ناحية أخرى حاول بعضهم تأطي

قالب غربي أو إسالمي معد سلفًا وضيق األفق. فالغربيون عموًما، وتبعهم في ذلك بعض الكتاب

العرب والمسلمين، أرادوا تعظيم شخصية ابن خلدون وفكره بجعله رائًدا للفكر الغربي في العلوم

س الفكر ينادوا بتأثير فكره في تأساالجتماعية الحديثة فأوردوا تقريظ المفكرين الغربيين له، و

و وهيجل وماركس وكونت وديركهايم. فاغتبط كثير من يتسيكمنكو واإلجتماعي الغربي عند في

األفكار عنالكتاب العرب والمسلمين بما قاله توينبي والكوست وغيرهما من المهتمين بتاريخ

ا إلى فيكو ورؤيته للتاريخ مركزية فكر ابن خلدون في صناعة الفكر الغربي الحديث، وأشارو

وآدم سميث ونظريات فائض القيمة والعمل وماركس في جوانبه المادية وتأثير االقتصاد في

الحياة االجتماعية، وضربوا أمثلة بما ذكره ابن خلدون عن التشابه بين المجتمعات والكائن

7

على سبيل المثال. العضوي ومشابهة ذلك ألفكار أوغست كونت وفكرة العصبية عند ديركهايم،

واتجه أصحاب هذا المنحى إلى أبعد من ذلك بقلب المسألة والقول بأن ابن خلدون سعى إليجاد

قوانين حتمية للظواهر االجتماعية، وأنه انتهج المنهج التطوري في نظرته للتحوالت المجتمعية.

ي عين ما نادى به ابن أي أن إثبات أهمية فكر ابن خلدون تنبع من إثبات أن النظريات المحدثة ه

فعليه –كما يستبطن مثل هؤالء الدارسين –خلدون، وبما أن الفكر الغربي هو قمة الفكر اإلنساني

أن "تقدمية" فكر ابن خلدون تتأتى من ذلك. وهذا منطق معكوس. –يمكن لإلنسان أن يستنتج –

إال أنهم يؤكدون أما ذوي االتجاه اإلسالمي، فمع اتفاق بعضهم ببعض ما جاء أعاله،

هوية ابن خلدون اإلسالمية على اختالف بينهم. فمنهم من تأخذه الحميّة اإلسالمية عاطفيًا

فينحازون له عصبية عرقية )كعربي( أو إسالمية )كمسلم(. وهم في هذا يخالفون القواعد واألسس

واتباع اآلراء لوزن –من قبله والبيروني –ابن خلدون بها المعرفية والمنهجية التي قال

واالجتهادات الفكرية ويعرضها على البراهين العقلية بعيًدا عن العاطفة والتحيز والغرض

ة ومنهجية لفيوالهوى. والبعض اآلخر في حماسه إلثبات إسالمية ابن خلدون ربطه بمذهب الس

بن خلدون.أصول الدين والفقه كما هي عند أصحابها األقدمين. وهذا أيًضا بعيد عن مارمى إليه ا

هناك ثوابت يكاد يتفق عليها الباحثون وإن اختلفوا في تقعيدها العلمي والنظري

مجّوًدا ،والمنهجي. وأول هذه الثوابت هو أن ابن خلدون كان مسلًما ملتزًما وعارفًا بدينه وأحكامه

مستقاة ره وممارسة علمية وعملية، وأنه قداستقصى معرفته ومنهجه وصاغ أفكالها فهًما وتدريًسا

من بيئة إسالمية على نطاق األسرة الصغيرة والمجتمع والحضارة التي تحيطه في عمقها

االجتماعي والثقافي والتاريخي. غير أن الخالف يدور حول أي جوانب هذا اإلرث الحضاري

على والديني كان له التأثير األعظم على فكر ابن خلدون، وكيف كان ذلك، وكيف انعكس هذا

آرائه ونظرياته ومنهجه؟ هنا لن نتطرق كثيًرا للفروقات بين الفرق المختلفة التي ذكرناها محصلة

والتي يوردها بعض الباحثين من مستشرقين وعرب/مسلمين بتوجهاتهم العلمانيّة والليبراليّة

ا كم –والماركسيّة والقومية واإلسالمية المعتمدة على إثبات إسالمية معرفة ابن خلدون. فكل ذلك

فيفرد إسالمي المنبع ولكنه ذو نزعة إنسانيّة وتال ينظر إلى إنجاز ابن خلدون كعمل م –ذكرنا

ارة الغربية بعد الثورة واقع حضارة تختلف في رؤيتها الكونيّة عن الرؤية الكونية للحض

العلمية المعتمدة على الرأسمالية في حراكها االجتماعي.الصناعية/

من ابتداع ابن و أن علم العمران كان فتًحا في المعرفة اإلنسانيّة واألمر الثابت الثاني ه

خلدون، كما كان هو نفسه واعيًا بذلك. فهل هذا العلم كما ادعى بعض المحدثين بأنه ضبط

للتاريخ، أم هو فلسفة التاريخ، أم علم االجتماع كما نعرفه اآلن، أم علم السياسة، أم االقتصاد،

8

علوم من تربية وعلم النفس؛ وإذا كان األمر كما قلنا أنه ال يمكن الحكم وغيرها من مستحدثات ال

فإن ما تبقى لنا هو -أو بمعنى آخر قراءة التاريخ معكوًسا –على فكر ابن خلدون بواقع فكر اليوم

شهادة ابن خلدون نفسه مقارنة بما فعله األسبقون حقيقة.

ي "التعريف" يلحظ أنهما عمالن إن القاريء المتمعن في "مقدمة" ابن خلدون وف

متكامالن. إذ يعطي كتاب التعريف خلفية مهمة فيها خطان متداخالن أحدهما يسرد األحداث

والخطان والوقائع التاريخية المحيطة بحياة ابن خلدون وعصره، والثاني سيرة المؤلف الذاتية.

في الواقع اإلسهام هي قدمة، والتي مًعا يشكالن أصالً ال بد منه لفهم البعد التطوري والمنهجي للم

الفكري الحقيقي البن خلدون. وأي قاريء مدقق للمقدمة ال شك يعجب بترابطها وسبكها المتين

من البداية إلى النهاية. فباإلضافة إلى تسلسلها المنطقي المتماسك، والذي هو الشك ثمرة علمه

األسس النظرية والقواعد المنهجية مما ته الفلسفية والتدريسية، يلحظ المرء كذلك بالواسع ودر

جادت به قريحته الوقادة المتمرسة على التأمل العميق. وفي الواقع يكاد كل سطر منذ بداية

االستهالل في "المقدمة" يؤمى للفكرة الكلية ومنهاجها. ففي االستهالل نسب ابن خلدون الفقر

يثبت له الملك والملكوت والقدرة في السموات لنفسه لرحمة هللا وغناه بلطف هللا. ثم يحمده تعالى و

واألرض أوالً، ومن ثم يقول "أنشأنا من األرض نسًما، واستعمرنا فيها أجياالً وأمًما، ويسر لنا

منها أرزاقًا وقسًما، تكنفنا األرحام والبيوت، ويكفلنا الرزق والقوت، وتبلينا األيام والوقوت،

به الموقوت ...". ونالحظ هنا أنه بعد تنزيه هللا سبحانه وتعالى نا اآلجال التي خط علينا كتاروتوتع

وهي أصل العمران من بشر يحيون برزق من هللا ابتداء إال –عمد إلى حقيقة "استعمار" األرض

أنهم كذلك تكتنفهم البيوت والتي هي من عمل البشر، وكما يحيا الناس برزق من هللا إال أنهم

ويجمعونه من قوت. أما أن اآلجال بيد هللا العلي، فإن تغيير أحوال البشر يقومون أيًضا بما يعدونه

متروك أليامهم المتحولة. ومن هنا تبدو لنا خطة ابن خلدون واضحة في أن كل شيء بداية ونهاية

بيده تعالى، ولكن للبشر دورهم أيًضا في إنفاذ الحكمة اإللهية باستعمار األرض، والتي يتوزعون

وأجياالً في تعاقبهم بكسبهم في مدار التاريخ البشري. ومن هنا نرى أن ابن خلدون منذ فيها أمًما

البداية ربط كل شيء بحكمة هللا ورحمته وقوته وجميع ما يليق بصفاته، ومع ذلك فإن هللا قد

أعطى البشر حرية الفعل البشري حتى يقوموا بتعمير األرض.

ر من خالل محبته واتباعه، يدلف مباشرة كقدوة للبش وبعد الصالة على النبي )ص(

ق من أخبار عن األيام والدول، والسوابللتعريف بالتاريخ ظاهًرا وباطنًا. فظاهره "ال يزيد على

... وعمروا األرض حتى نادى القرون األولى... وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها األحوال

ا نرى الصلة الوثيقة بين هذه القطعة وما أوردناه بهم االرتحال، وحان منهم الزوال". وهنا أيضً

9

التاريخ فهو وتتقلب بهم األحوال. أما باطنقبلها من أن البشر تحت مشيئة هللا يعمرون األرض

"نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك

في علومها وخليق". وهنا ينتقل ابن خلدون للتمهيد لما أصيل في الحكمة عريق وجدير أن يعد

وأسبابها البشرية من خالل –وليس غيرها –سيبسطه عن علمه الجديد: علم لفهم الوقائع البشرية

هنا نرى أن "الحكمة"شرحه الحقًا. وباالنتباه لكلمة نس –التفكير النظري "نظر" ومنهج التحقيق

المعتمدة على البرهان العقلي –الفلسفية –في العلوم الحكمية ابن خلدون قد أدخل هذا العلم

والمنطقي، وليس الفقهي أو الشرعي بمقتضى قواعد أصول الدين والفقه وإن كان ال شك أنه قد

استفاد من طرقهم ومناهجهم البتداع طريقته ومنهجه الجديد كما سنبينه.

تشد إليه الرحال ويسمو يته بحيث أنه كفن وبعد إثبات أهمية التاريخ ونبله بين العلوم وأهم

إلى معرفته السوقة ويتنافس فيه الملوك ويتساوى في فهمه العلماء والجهال من حيث الظاهر،

اقدي وابن الكلبي والمسعودي لوتحول المؤرخين المسلمين من أمثال ابن إسحق والطبري وا ظرّ ق

كما هو دون األخبار ونقلهم ما وجدوه . ولكنه عاب على من أتى بعدهم عدم التيقن منوغيرهم

اعتبار لصحتها بتحكيم العقل أو عرضها كوقائع ووزنها بمقتضى الحال. وهنا يذكر ابن خلدون

ين، والذهول اهب والتحيز لها، والثقة بالناقلع لآلراء والمذيّ أسباب أخطاء المؤرخين ومنها التش

الصدق )وقد يكون نفسه نتيجة للثقة عن المقاصد التي أرادها من وصفوها أوالً؛ وتوهم

بالناقليين(؛ والجهل بتطبيق األحوال على الوقائع فينقل المخبر الخبر على ما رآه وظنه دون

التجلة والمراتب بالثناء والمدح إبتغاء الجاه والثروة. وهذه حقيقته؛ والتقرب والتزلف ألصحاب

رخين أو من ينقلون عنهم، وقد ذكرها أخطاء أو أكاذيب تتعلق بالخبر وهي خاصة بذوات المؤ

ن سبقوه في لمقبل ابن خلدون. وأوردها ابن خلدون دون اإلشارة –ومنهم البيروني – ءعلما

"وهي سابقة ،ولكن ما أضافه ابن خلدون لألسباب المفضية للكذب في الخبر –ذلك، كما ذكرنا

ه إضافة مهمة في لب موضوعه وال في العمران. وهذحطبائع األبالجهل ،على جميع ما تقدم"

الجديد، ولم يسبقه إلى ذلك أحد.

والغرض وىوإذا كانت األخطاء السابقة )عدا ما أضافه ابن خلدون( تتعلق بالتحيز واله

المخبرين فهي كلها متصلة بخصال يتصفون بها والذهول والجهل من قبل المؤرخين أوالتوهم و

تمحيصها ومعالجتها يكون بإصالح النفس ذلك فإن عنهم. ولفي ذواتهم وليس أمًرا خارًجا

لتخليصها من مناقصها التي تقودها إلى الوقوع في تلك األخطاء واألخبار الكاذبة وقبولها. أما

الثقة بالناقلين والجهل والمدح والثناء فيكون تمحيصها بالجرح والتعديل ولكن بشروط حددها ابن

وأما تمحيص األخبار وإثبات صدقها وكتبها في ما .الجديدين هومنهج هخلدون في إطار علم

10

فال يكون بإصالح النفس وال بالجرح والتعديل، –"علم العمران البشري"–يتعلق بعلمه الجديد

وإنما مرجعيته موضوع خارج النفس وتقويم المخبرين، له أسسه وقوانينه وشروطه التي يجب أن

ومنهجية تعتمد ،وموضوع قائم بذاته ،ذاتهكعلم قائم ب ،تبحث وتدرس وتعرف في حد ذاتها

وليس الشرعي –المعرفة التامة بأصول ذلك العلم وطرق بحثية تعتمد البرهان العقلي والمنطقي

نية التي تحوي األسماء والمراتب واكالرجوع إلى الوثائق الدي ،والتحقيق بطرق غير تقليدية –

عية وال منهجية أصول الفقه وأصول الدين. وقد والحسابات، مما ال يفيد معهم معرفة العلوم الشر

األخبار الشرعية "معظمها تكاليف إنشائية أوجب دون واضًحا في ذلك عندما ذكر أنكان ابن خل

الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط".

ث من الحوادث ذاتًا كان أو فعالً فال بد له من أما في طبائع األحوال في العمران "فإن كل حاد

طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفًا بطبائع الحوادث

واألحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب ،

ص من كل وجه يعرض".محيوهذا أبلغ في الت

يد بأن ابن خلدون قد انتهز نفس األمر مع علماء آخرين نزا مع ما ذكرناه أعاله واتساقً

وعلوم أخرى. وكما سنرى فإن ابن خلدون قد اعتمد على أفكار أصيلة في أصول الفقه

ربطها بالعمران كالضروري والحاجي والكمالي ولكن بدل من استخدامها في مسائل العبادات

كذلك تعرض ابن خلدون لما سبقه إليه بطليموس واإلدريسي من و .مراحله وتحوالتهوالبشري

وصف لألقاليم وتأثير المناخ على اإلنسان، ولكن كما يقول عالم الجغرافيا الروسي الشهير

من عدم إثبات ابن خلدون في وصف األقاليم الجغرافيا إذ أنه لم يقّدم إال "مقتطفات كراتشكوفسكي

والرابعة ذلك يقول نفس المؤلف أن المقدمات الثانية والثالثةفقط من مصنف اإلدريسي". ورغم

المعتدل والمنحرف من األقاليم وتأثير الهواء في ألوان البشر والخامسة، والتي تبحث في

وأخالقهم وارتباط ذلك باختالف أحوال العمران في الخطب والجوع وما ينشأ عن ذلك من آثار

اتشكوفسكي أن كل هذه المسائل التي تبحث في أثر األقاليم في أبدان البشر وأخالقهم "ويؤكد كر

والوسط الجغرافي في حياة البشر لم يحصل أن أخضعت قبل ابن خلدون لفحص منظم، فهو في

هذا المضمار يجب أن يعد مجدًدا ال ريب" وإن إسهام ابن خلدون في الجغرافيا االقتصادية والذي

أيًضا بقيمة ال تجارى. جاء في عدد من أقسام "المقدمة" يمتاز

ويعترف ابن خلدون أن بعض مسائل علمه الجديد جاء في كالم بعض الحكماء كالموبذان

بهرام بن بهرام والذي نقله المسعودي: "أيها الملك، إن الملك ال يتم عزه إال بالشريعة والقيام هلل

ال عز للملك إال بالرجال، بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، وال قوام للشريعة إال بالملك، و

11

وال قوام للرجال إال بالملك، وال سبيل إلى المال إال بالعمارة، وال سبيل للعمارة إال بالعدل، والعدل

نصبه الرب وجعل له قيًما وهو الملك". وفي كتاب السياسة الميزان المنصوب بين الخليقة

"غير مبرهنة كما برهنانه". "وكذلك ألرسطو أشارت مقاربة. وكذلك في كالم ابن المقفع، ولكنها

حّوم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب "سراج الملوك"، وبّوبه على أبواب تقرب من أبواب

كتابنا هذا ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرمية... وال استوفى المسائل، وال أوضح األدلة... وال

عية حجابًا، إنما هو نقل وتركيب شبيه يكشف عن التحقيق قناًعا، وال يرفع بالبراهين الطبي

بالمواعظ، وكأنه حّوم على الغرض ولم يصادفه وتحقق قصده، وال استوفى مسائله".

ويتبادر إلى الذهن التساؤل حول تعظيم ابن خلدون للتاريخ ولكنه يقول، كما سيأتي، أنه

وا عظاًما، ولكنه يقول كذلك، أتى بعلم جديد، والتاريخ قديم. ويعترف بأن المؤرخين األوائل قد كان

"اليزيد على إخبار عن األيام والدول، وال بأن علمه لم يسبقه إليه أحد! ويعرف التاريخ بأنه

السوابق من القرون األول". وفي فصل "في فضل علم التاريخ" يقول: "اعلم أن فن التاريخ فن

ين من األمم في ل الماضعزيز المذهب جّم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوا

تهم، حتى تتم فائدة االقتداء في ذلك لم أخالقهم، واألنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياس

يرومه في أحوال الدين والدنيا". ويضيف "فهو محتادج إلى مآخذ متعددة، ومتعارف متنوعة،

إلى الحق". وفي عبارة أخرى يوضح ابن خلدون لمن يفضيان بصاحبهماوحسن نظر وتثبت

صر أو جيل فأما ذكر األحوال المسألة أكثر بقوله إن "التاريخ إنما هو ذكر األخبار الخاصة بع

العامة لآلفاق واألجيال واألعصار فهو أّس المؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره".

ويضيف بأن الناس كانوا يفردونه بالتأليف كما فعل المسعودي في مروج الذهب " بما شرحه فيه

ة غربًا وشرقًا، وذكر نحلهم وعوائدهم منه أحوال األمم واآلفاق لعهده في عصر الثالثين والثلثمائ

ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم، فصار إماًما

ضيف كذلك أن للمؤرخين يرجعون إليه، وأصالً يعّولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه" وي

ن غيرها من األحوال" وذلك الك خاصة "دومر عمله على المسالك والمالبكري جاء بعده وقص

"ألن األمم واألجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال وال عظيم تغير". والعبارات السابقة تبدو

قد أوفى بما يريد أن يؤسسه هو. إًذا، فما ملتبسة فهل مراد ابن خلدون أن المسعودي بتاريخه

بكري اقتصر على المسالك الجديد؟ ثم إن ابن خلدون يضيف شيئًا آخر عندما يقول بأن ال

الك" دون غيرها من األحوال "بعدم ذكره للخلل والعوائد ووصف البلدان والجبال موالم

والبحار... الخ" ألن األمم واألجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال وال عظيم تغير". فهنا نرى

الطبيعية التي إشارة واضحة لعمومية األحوال والعوائد ووصف للناس والجماعات والبيئة

12

تحيطهم، ولكن أيًضا، زيادة على العمومية، يدخل ابن خلدون عامل الزمن والتغير الشامل.

ناجم مما يبدو من كالم ابن خلدون أنه يتحدث عن التاريخ وأنه قد سبقه العديد س يبدو أنهواالقتبا

ة مؤكًدا أن ما من المؤرخين المشهورين، ومن ناحية أخرى يدخل عناصر جديدة ومنهجية جديد

توّصل إليه علم جليل لم يناله قبله إنسان، وإن جرت مسائله بالعرض ألهل العلوم المختلفة من

ليل عفلسفة "حكمة" من قبيل حاجة البشر للتعاون، وأصول الفقه والفقهاء من إثبات للغات و"ت

نوع و "غير ذلك من م الشرعية بالمقاصد" مثل أن الزنا مخلط لألنساب وأن القتل مفسد للحكااأل

، فابن سائر المقاصد الشرعية في األحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران". إذن

خلدون مدرك ألبعاد األشخاص والعلوم والطرق البحثية ومقاربتها لعلمه الجديد، ولكنها ليست

هذا العلم الجديد؟هو. فلماذا إذن اختار ابن خلدون التاريخ لتوضيح علمه الجديد؟ وما هو

ال نجد عبارة واضحة وجلية تشرح لماذا تبنى ابن خلدون علم التاريخ كمرتكز لتبيين

علمه الجديد ومن ثم يفارقه دون أن يذكر صراحة أن ابتكاره مختلف عن علم التاريخ. وكل ما

هو علم نجده هي إشارات فقط لذلك يخرج منها الباحث وليس عنده شك أن العمران البشري ليس

التاريخ وإن كان يحويه ضمن مسائله.

يقول ابن خلدون "اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خير عن االجتماع اإلنساني الذي

هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش والتأنس والعصيان

ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن

ينتحله البشر وأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في

" للمؤرخ. فكأنه يقول ذكر أحوال العامة لآلفاق هو "أس ذلك العمران بطبيعته من األحوال"؛ وإن

ثانيًا، أنه "أّس" للمؤرخ ويذكر مرة أخرى هنا أوالً أن العمران البشري هو "حقيقة التاريخ"، ثم،

فهذا األس والحقيقة ال تدرك إال بنظر )برهان عقلي أن التاريخ "في باطنه نظر وتحقيق".

األحوال ثقاة عن قرائنالكتب ودوواين الدول واالستماع للابير ضومنطقي( وتحقيق وبحث في أ

وغير ذلك. وهذا يختلف عن تقاليد وعلوم طبيعية،كابن بطوطة، ورحالة نمن علماء ومؤرخي

علم التاريخ والمؤرخين التقليديين. وعليه، هذا يفسر قول ابن خلدون "ولما طالعت كتب القوم،

ت عين القريحة... وسمت التصنيف من نفسي... فأنشأت في نبهوسبرت غور األمس واليوم، ف

القول بأن مؤلف يلتبسابًا". ومرة ثانية التاريخ كتابًا وأبديت فيه ألولية الدول والعمران علالً وأسب

أنه اخترع في الكتاب "مذهبًا عجيبًا" و "لم أترك وضحابن خلدون هو كتاب في التاريخ، ولكنه ي

عاصر األمم األول، وأسباب التصرف والحول، في القرون تشيئًا في أولية األجيال والدول، و

لّة، ومدينة وحلّة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، ، وما يعرض في العمران من دولة وملالخالية والمل

13

أحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إال ووعلم وصناعة وكسب وإضاعة،

فجاء هذا كتاب فّذًا". ويؤكد ابن خلدون أن الكالم في واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله.

غريز الفائدة، أعثر عليه البحث، ، غريب النزعة،مستحدث الصنعة"مسائل العمران وتحقيقها

وأدى إليه الغوص". وهو "علم مستنبط النشاة. ولعمري لم أقف على الكالم في منحاه ألحد من

"علم مستقل بنفسه: فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري واالجتماع هالخليقة". وأن كتاب

ذاته واحدة بعد أخرى". وأنه سائل وهو بيان ما يلحقه من العوارض واألحوال لماإلنساني، وذو

يجري تغير يقع بعد أحقاب طويلة، "فال يكاد يفطن إليه اآلحاد من أهل الخليقة"، "وذلك أن أحوال

العالم واألمم وعوائدهم ونحلهم ال تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختالف على

ك في األشخاص واألوقات واألمصار، وكما يكون ذل األيام واألزمنة وانتقال من حال إلى حال.

فكذلك يقع في اآلفاق واألقطار واألزمنة والدول". ويستمر التدريج فن المخالفة حتى ينتهي إلى

المباينة بالجملة. وهذا التحول والتبدل يقتضي متجهًا وأدوات بحثية غير متاحة كما هي في العلوم

أو عقلية.أكانت شرعية سواء –بما فيها التاريخ –األخرى

س نوالعمران البشري عند ابن خلدون هو "التساكن والتنازل في مصر أو حلة لأل

" اً لمعاش وهذا العمران قد يكون بدويَّ بالعشير واقتضاء الحاجات، لما في طبعهم من التعاون على ا

، "ومنه ما يكون حضريًا "وهو الذي في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار

وهو الذي باألمصار والقرى والمدن والمدائر". ويربط ابن خلدون العمران البشري باإلنسانية

وفي هذا فإن المقارنة هي بين اإلنسان والحيوان، من ،جمعاء وليس المجتمع اإلسالمي وحده

حيث النوع، وما يميزها عن بعضها هو الفكر واليد. وإن االجتماع البشري ضرورة للعيش.

وهذا معنى العمران. وأن اإلنسان دون سائر –والمؤانسة وإقامة الحق والعدل ة والمدافع

ابن خلدون "ومالم يكن هذا التعاون فال يحصل قولالمخلوقات له الخالفة للقيام بهذا العمران. وي

ركبّه هللا تعالى من الحاجة إلى الغذاء؛ وال يحصل له أيًضا المله قوت وال غذاء وال تتم حياته،

فاع عن نفسه لفقدان السماح فيكون فريسة للحيوانات، ويعالجه الهالك عن مدى حياته، ويبطل د

نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسالح للمرافعة، وتمت حكمة هللا في بقائه

وحفظ نوعه. فإذن هذا االجتماع ضروري للنوع اإلنساني، وإال لم يكمل وجودهم وما أراده هللا

من اعتماد العالم بهم واستخالفه إياهم. وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوًعا لهذا العلم".

ولكن في الواقع لم يكن هذا كل ما رمى إليه ابن خلدون من العمران البشري فمن واقع "المقدمة"

يشابه ما قدمه من جاء نفسها طّور ابن خلدون هذا الفهم األول شيئًا فشيئًا ليصبح تركيبًا معقًدا ال

قبله. إذ لم يتعدى عمل اآلخرين أكثر من رواية التاريخ والحكم والمواعظ في إطار الفلسفة

14

للعناصر المكونة للعمران البشري وكيف تتدخل مع فة األخالقية دون الربط والتحليلوالفلس

ن خلدون بوصف بعضها وتتطور تبًعا للزمان والمكان والظروف المحيطة. فهناك من سبق اب

في حالة التماسك والترابط، ولكنها قبيحة ومذمومة إذ حميدةالعصبية وتوضيح أنها قد تكون

غير أن ابن خلدون تتبعها منذ طورها األول الطبيعي .دعت للمشاحنة والبغضاء وإشاعة الفرقة

ولكن مع تبدل م بين الجماعات للغذاء والمدافعة في حالة الضرورة، حكشعور طبيعي يقتضيه التال

تنوع حسب تظهر صفات جديدة للعصبيات وتجى األحوال وترقي المجتمع إلى طور الحا

اهتمامات ومصالح الجماعة للغلبة والتملك أكثر من الضروريات، ومن ثم مع الملك وتعاظمه ما

لح وتماسكها ومراعاتها للمصا الم تحافظ عصبية الدم ومعها العصبية الدينية السياسية على قوته

لها سيكون التحلل والتفكك وتضعضع الدولة تها على العصبيات األخرى فإنما مآالمكونة لها وسياد

وجد في علوم أصول الفقه أو يوإنهيارها. وهذا تحليل بعيد عن الوعظ والفلسفة األخالقية، وال

ملك الدين أو التفاسير. وذات الشيء يمكن أن يقال عن تحول المجتمع من بدوي إلى نشأة ال

المعاش وإمكانية قيام الصنائع وطبيعة العاملين بها نمطكذلك ب هوالدول ثم عوامل انهيارها وربط

وأنواعهم وكسبهم من ذلك مقارنة مع اقتصار البدو على الفالحة ورعي الحيوان دون صنائع.

لعلوم وبعد ذلك كيف ترتقي الصنائع مع نمو المدن وتزايد السكان وحاجتهم للعلوم بحيث تصبح ا

نفسها نوع من الصنائع.

وهكذا نرى ان ابن خلدون يقدم نمطًا جديًدا من التفكير والتحليل في نشأة وتطور

المجتمعات البشرية في إجمالها، وليست المجتمعات العربية اإلسالمية وحدها. وهو يتخذ االخيرة

صر وسوريا ومقابلته مثاالً فقط ألنه أدرى بتفاصيلها. وقد أضاف ابن خلدون بعد زيارته لم

فصوالً للدول والجماعات التي لم يدخلها من قبل و كذلك تصلح ان تخضع لنفس لتيمورلنك

والعربي األسالمي ،االطار النظري والمنهجي الذي وصفه للمغرب العربي على وجه الخصوص

نسيج تظهر في إلمامه وإمساكه بالتفاصيل الدقيقة ونسجها في ابن خلدون عموماً. وعبقرية

مترابط يمكن رؤيته وفهمه من خالل رؤية نظرية واحدة موحدة وبواسطة منهجية قوية قابلة

ات العربية معتجتصلحان للم ،كعمل موحد ،للتطوير لكنها جيدة السبك. وكال الرؤية والمنهجية

اإلسالمية وغير العربية واإلسالمية. وفي هذا نرى أن ابن خلدون في مقدمته يصنع تحليالً ذا

شق أو مستوى أدنى )بحجمه( لفهم وتحليل المجتمعات العربية اإلسالمية، ،مستويين أو شقين

صالحها إنما يكون بصالح دينها وإتباعها الشرع أن وهذه يعالجها من منظور إسالمي ويرى

المستوى وإقامة العدل والسعي للحق كقيمة وفي حيّز التطبيق العملي الواقعي. وأما الشق الثاني )

نلثاني( فهو شامل للبشرية جمعاء وتخاطب اإلنسان من حيث هو اإلنسان. وإذا كان المستوياا

15

هدفهما واحد وهو عمارة األرض، وليس دمارها، فهي في حالة المجتمعات العربية اإلسالمية

مناطها قواعد اإلسالم وشرعه ومراعاة أسس وتكوين المجتمع وعوامل تماسكه والتقييد بهدى

ي عدم الجور والظلم والترف وكل ما من شأنه تحقيق الخالفة التي كرم هللا بها اإلنسان اإلسالم ف

انة يجب أن يؤديها بحقها.وأودعه إياها كأم

أما عمارة األرض لغير المسلمين فال تقتضي إيمانهم بمبدأ "الخالفة" الديني اإلسالمي

ما يحفظ أرواحهم وأموالهم ألن في وإنما تقتضيه الحكمة وإقامة العدل بين الناس وسياستهم ب

ضياعها ضياع للبشر والزرع والضرع وكل مظاهر الحياة. وفي هذا يورد ابن خلدون

ن يبلغ أضعاف عدد المؤمنين في العالم؛ وثانيهما منيمالحظتين دقيقتين: أوالهما أن عدد غير المؤ

تشار والممالك والمدن العظيمة وان دولأنه من المالحظ أن عدم اإليمان باإلسالم ال يمنع من قيام ال

والعلوم. وهذه نظرة عميقة لإلقرار بالواقع البشري وموقع األمة والشعوب الصنائع

العربية/اإلسالمية في العالم وضرورة معايشتها لآلخرين طالما التزموا بالحكمة بعمار العالم

وغير بشرية؛ المسلمون وليس تدميره. وهنا يلتقي المسلمون في فهم مشترك وتعاون لخير ال

بقيمهم الدينية واآلخرون بالتزام الحكمة مهما كانت معتقداتهم.المسلمين

أما شمولية منهجية ابن خلدون فهي فريدة أيًضا وتسير على نفس خطى رؤيته النظرية.

وما من شك في أن المصدر األساسي لرؤية ابن خلدون النظرية وقواعده المنهجية هو تراثه

ي ومن داخل الحضارة اإلسالمية والتزامه لذلك كمسلم، وتجاربه ومقدراته الشخصية اإلسالم

وتحوالت الواقع التاريخي الذي كان يعيشه لكنه اتخذ طريقًا غير طريقة البحوث والعلوم الدينية.

وقد فّرق ابن خلدون بوضوح بين القضايا واألمور الشرعية الدينية وضرورة التزام المسلمين

ألمور الحياتية المعاشية لكل البشر والتي ال تقتضي االعتراف بالجوانب الدينية بها، وا

والشرعية. واألخيرة أداتها وميزاتها العقل والبرهان المنطقي وليس المعايير الشرعية. ويؤكد ابن

وجوبها ليس بالعقل وإنما بالشرع. ،وما جاء في الوحي ،نبّوةخلدون أن ال

ا من منطق محمد عابد الجابري في تحليله للعقل ضً وسأستعير فيما يلي بع

هدى ما ذكرته أعاله.على ول استخدام ذلك في حالة ابن خلدون االعربي/اإلسالمي وأح

يقول محمد عابد الجابري أن القرآن واللغة العربية هي أساس العقل العربي/اإلسالمي

أية حضارة أخرى. فالحضارة ويعمل في إطارهما، وهما خاصان به وال يشبههما أي شيء في

اليونانية مثالً كانت تعتمد على الفلسفة وأدواتها المنطق والرياضيات. أما في الحضارة اإلسالمية

فإن القرآن/السنة واللغة العربية هما األساس وأن العلوم الدينية تدور حول التشريع والعقيدة

العقيدة( -ع( وأصول الدين )علم الكالمالسنة. وأدوات ذلك أصول الفقه )تشريوكتاب الا مومناطه

16

أما اللغة فتقوم على المبنى )النحو( والمنحى )البيان(. وقد وضعت قواعد الفقه والتفسير والحديث.

واألصول على مثال علم اللغة في النحو والبيان لضبط المنهجية والبرهان )عمل العقل( في

–مرتبة العقل )الرأي( في األسبقية ول حاستخراج واستنباط صحيح األحكام. واالختالف كان

بينما اتفق كل هؤالء الفقهاء في األصل فالحديث(. -كالحال بين أبي حنيفة )الرأي( ومالك )األثر

الرواية واإلسناد ة أهل الحديث تعتمد على ي)الكتاب والسنة( إال أنهم اختلفوا في الفروع. ومنهج

لعربية في النحو والبيان د اعتمد على منهجية اللغة االتفسير فق)من خالل الجرح والتعديل(. أما

ذلك بعد أن كان األمر في الحالتين في أول األمر واقعيًا وال يحتاج إلى تنظير ألن وقد حدث

اإلجابة كانت حاضرة عند النبي )ص( أو أصحابه. لكن وبعد طول العهد احتيج إلعمال النظر

لك قوانين نظرية عامة غير مقيدة بزمان أو مكان، واالفتراض والممكنات الذهنية. وأصبحت لذ

مة أصول الفقه هألنها تشرع للعقل وكيفية عمله. "إذا كانت مهمة الفقه هي التشريع للمجتمع فإن م

( وذلك ألن أصول الفقه، مثالً، هو القواعد التي يتم بها استنباط 200هي التشريع للعقل")ص

ة برهانية عقلية.األحكام الشرعية من األدلة. وهذه مسأل

إن طريقة عمل العقل العربي )اإلسالمي: إدريس( سواء "ويقول الجابري في هذا الصدد

هي طريقة واحدة تقوم على نفس اآلليات أو الميكانزمات التي تقوم في الفقه أو النحو أو الكالم...

من علوم أخرى... عليها طريقة الفقهاء، وهذا ليس فقط ألن قواعد أصول الفقه قواعد مستعارة

ألن األصوليين جمعوا من العلوم المختلفة ما يرجع إلى غرضهم ويختص ببحثهم وألفوه وصيروه

قد استعارته بدورها، بعد أن صار طريقة ناضجة –أصول الفقه –علًما بل أيًضا ألن هذا العلم

–ء حول العلم نفسه ( ومع اتفاق العلما200مقننة، تلك العلوم المختلفة التي كانت أصالً له")ص

اختلفوا حول أسبقية الرأي واألثر، وفي كل األحوال فإن –كما ذكرنا –أنهم –علم أصول الفقه

العقل محكوم بالشرع في علوم الدين وتم وضع شروط للقياس )الرأي(. فالصحة تقوم على

بأحكام هللا في الشروط وليس على األخالق وال يمكن أن يقوم شخص بالقياس إال إذا كان عالًما

وال يكون القياس إال للعالم. القرآن والفرض واألدب والناسخ والمنسوخ والعام والخاص... إلخ.

(. وعمل القياس 2-0بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختالفهم )ص

ك يقتضي وجود "خبر )أي نص( من الكتاب والسنة يؤخذ كأصل ودليل ويجب أن تكون هنا

موافقة في المعنى أو الشبه بين الفرع، أي الجديد الذي يراد إصدار الحكم فيه، وبين األصل

فاالجتهاد والقياس هما عبارة عن آلية فكرية تعمل على ربط طرف بطرف وليس على بناء عالم

( . ويعتقد الجابري أن العقل العربي/)إدريس: واإلسالمي( 201فكري انطالقًا من مباديء")ص

هو عقل فقهي يبحث لكل فرع عن أصل وبالتالي لكل جديد من قيم يقاس عليه "وذلك هو

17

باالعتماد أساًسا على النصوص، حتى غدا النص هو السلطة المرجعية األساسية للعقل العربي

( وفي ختام هذا الجزء نذكر مسألة هامة وذلك 201)إدريس: واإلسالمي( وفاعلياته")ص

منهجية ابن خلدون. يقول الجابري إن المعتزلة يضعون العقل في الرتباطها بما سنقوله عن

المرتبة األولى واألصل عندهم في المعقوالت هو البديهيات العقلية والحسية والخيرة االجتماعية

(.272واللغوية، والفرع هو ما ينتجه النظر واالستدالل )ص

مين قد جمعوا من منهجية ف الجابري أن كثير من الفالسفة والعلماء العرب/المسلضيوي

أي الجانب – والتقسيم" اني( ومنهجية البيان وخاصة "السبر"البرهان" )القياس المنطقي البره

ي من القياس الفقهي. وذكر من ضمن هؤالء العلماء علماء طبيعيات كابن الهيثم ئالتحليلي االستقرا

ماء وظفوا مفاهيم ومصطلحات وابن النفيس. وكذلك ذكر ابن خلدون من ضمنهم. وأن هؤالء العل

(.310أصول الفقه والبيان في أبحاثهم )ص

وإذا عدنا إلى مناقشة منهجية ابن خلدون وآلياته البحثية ضمن رؤيته اإلسالمية الكلية

الشاملة فإننا نجد أنه قد استخدم نفس آليات العلوم الدينية، وفي كثير من األحيان نفس مسمياتها

ر غير غرض الدراسات الدينية. إذ أن مطلوبه هو في المجال التاريخي وطرقها ولكن لغرض آخ

تماًما مثل الفقهاء –واالجتماع )ولكن بصورة أدق مجال العمران البشري(. ومع أن ابن خلدون

من خالل إيراده لآليات القرآنية في كل فصل )والتي حسبها البعض أال معنى لها(، أن ويؤكد، –

عندما يذكر بأن مجريات المجتمع وتحوله وتبدله وهو يفعل نفس الشيء العقل محكوم بالشرع.

هي سنن هللا في خلقه )ولم يكن يبحث عن قوانين اجتماعية كما قال بذلك بعضهم(. فالعقل والفعل

اإلنساني وكل المخلوقات خاضعة لسنة هللا وليس لقوانين مجتمعية أو طبيعية. وما يقوم به ابن

لمعرفة والعلم البشري وما يمكن استقراءوه من المشاهدة والمالحظة خلدون هو في جذور ا

والمجال الفكري بمالحظة تفاعالت المجتمع في كل جوانبه التي ذكرناها سابقاً وفي ظل أوضاعه

البيئية وإطار الزمان والمكان ومن خالل أفعاله وكسبه.

قبله وهي "المجتمع"، وتكمن عبقرية ابن خلدون في فتح قارة معرفية لم تكن موجودة

عن العلوم الدينية ولكنها ليست خارجة عنها. ةوليس إصالح علم التاريخ أو علم اإلجتماع، مختلف

ممن ابتدعوا علوما في مجاالتهم وتماما كما كان الحال مع البيروني وابن النفيس وغيرهما

تخدام نفس آليات ضبط مستخدمين أدوات أصول الفقه واللغة، لم يجد ابن خلدون أمامه غير اس

القواعد المنهجية الفقهية ولكن لفتحه المعرفي الجديد.

وهنا أيضاً تفهم لماذا بدا ابن خلدون وكأنه يحاول إصالح علم التاريخ ويبدأ بمنهجية

ضبط الخبر. والخبر في القرآن والحديث "إنشائي" ولذلك ال يمكن ضبطه بتصديقه أو تكذيبه ألنه

18

به فيتبع وإما أال يؤمن به فال يتبع. أما الخبر في التاريخ فقابل للتصديق وحي إما أن يؤمن

والتكذيب ولذا ال بد من ضبطه ألنه منقول عن بشر بواسطة بشر. ولكن مرجعية التاريخ هو

بما في ذلكالخبر التاريخي. ومرجعية العمران البشري هو "المجتمع" في كل أوجه تفاعالته

مدار البحث هو الفعل اإلنساني وليس الوحي. ولهذا فإن إكتشاف الروحي واألخالقي ولكن

العمران البشري يكمل دائرة المعارف اإلنسانية والتي كانت تقتصر على العلوم الدينية وعلوم

اللغة والفلسفة )الحكمة واألخالق( والعلوم الطبيعية والرياضية ولم يتبقى حينها، وإلى مجيء ابن

جتماعي فاكتشفه ابن خلدون ووضع له شروطه جامعاً يبين منهجية أصول خلدون، إال المجال اإل

الدين والفقه والحديث واللغة ومستفيداً من اإلرث التاريخي الضخم الذي يقارب دراسة العمران

البشري.

ومما سبق يتضح أنه ال يمكن فهم مشروع ابن خلدون إال من خالل وضعه في إطار

الديني الضخم وخاصة في العلوم الدينية ولكن أيضا في سائر الحضارة اإلسالمية وتراثها

المعارف األخرى. وال بد أيضاً من وضع تجربته الحياتية من سياسية وإدارية وتدريسية

وممارسة في الحسبان.. قد يخطئ من يظن أنه يستطيع فهم عمل ابن خلدون بالرجوع بتحليالته

الدينية نفسها من شريعة وعقيدة ولغة، ألن ابن ومنهجيته بصورة مباشرة إلى محتوى المتون

يعتمد ابن خلدون خلدون قد أخذ الوسائل وأعاد استخدامها في غير صورتها األولى، فكما ذكرنا

العقل والمعرفة بالعمران أداة أولى للتمحيص فهو يقول "فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث

ه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الخبر؛ واألحوال في الوجود ومقتضياتها، أعان

وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض". وكما يشرح هو نفسه أن المعرفة بطبائع العمران

سابق على التمحيص بتعديل الرواة: "وال يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في

فائدة للنظر في التعديل والتجريح". ويضيف أن نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيال فال

في الخبر "استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما ال يقبله العقل"، وأن "التعديل والتجريح نمن المطاع

هو المعتبر في صحة األخبار الشرعية، ألن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشرع العمل بها متى

لثقة بالرواة بالعدالة والضبط". أما األخبار عن حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن ا

الواقعات في العمران البشري فصحتها تأتي عن طريق المطابقة وذلك بالنظر في إمكان وقوعها

ألن الخبر عن العمران البشري منه ومن الخارج بالمطابقة وليس منه فقط كما هي الحال في

باطل في األخبار باإلمكان واإلستحالة أن ننظر في اإلنشاء. وعليه "فالقانون في تمييز الحق من ال

وإذا تم .اإلجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من األحوال لذاته وبمقتضى طبعه

ذلك فسيكون "بوجه برهاني ال مدخل للشك فيه". ويؤكد ابن خلدون "وهذا هو غرض هذا الكتاب

19

بعلى العموم إلى األسباب على الخصوص، فاستوعاألول من تأليفنا". ومدخله "من األسباب

بابًا، وأصبح من الحكم النافرة صعابًا، وأعطى لحوادث الدول علالً وأس لالخليقة استيعابًا. وذلّ

كمة صونًا وللتاريخ جرابًا". إذن العمران يكون بداخله الحكمة والتاريخ وليس العكس.للح

إلى العلم والمعرفة إلى جانب استخدام العقل ويحتاج من يريد البحث في العمران البشري

والنظر. وهو العلم "بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختالف األمم والبقاع واألعصار في

السير واألخالق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر األحوال". وكذلك "القيام على أصول الدول

عي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم"، والملل، ومباديء ظهورها، وأسباب حدوثها، ودوا

هي –بعد اإللمام بكل ما سبق في الحاضر والماضي –والباحث من ثم يحتاج إلى منهجية خاصة

منهجية المقارنة: مقارنة الحاضر بالغائب وإدراك ما بينهما من وفاق أو خالف مع التعليل في

ا حدث اآلن كان قد حدث نفسه في زمان أو حادثً أن كلتا الحالتين. ولكن يجب مع ذلك مراعاة

فالظروف التاريخية والجغرافية واالجتماعية يعني أن فهمه وتحليله سيكون واحد،مكان سابق ال

لها تأثيرها في مجرى الحدث وأوضاعه.

المتمثلة في القياس في ومن العلوم الدينية واللغوية ة دإذن، إن منهجية ابن خلدون المستم

ولكن في كل هذا )باألصل، ومقارنة وممائلة الحاضر بالغائب، والمطابقة وغيرها، ربط الفرع

هي عمدة أدواته النظرية – (الضروري، والحاجي، والكمالي –ستبقى المنظومة الثالثية

المنهجية في فهم واقع العمران البشري )قارن هذا بثالثية العدل والفساد/الظلم وثالثية الحرام

تقع في حيز عريض من ذكرناكما –غيرها(. ولكن إذا كانت تلك المنهجية الدينية الحالل/الظلم و

العقيدة والعبادات حتى فيما يتعلق بالتداخل اإلنساني بين البشر، فإن منهجية ابن خلدون ليست

جتماعية من عمران وتدافع وكسب بين الناس حسب مقتضيات لألمور الدينية وإنما التاريخية اال

ويبين ،ويحذر من الظلم في إطالقهما ،ظروف حياتهم. فإذا كان الدين يحث على العدلمعيشتهم و

أوجه الجزاء والعقاب فيهما، فإن ابن خلدون يبين بمنهجيته كيف يقع ذلك بين البشر حقيقة ومآالته

ن ازدهار ودمار ولبس عن طريق الثواب والعقاب. ومنهجية ابن خلدون رغم معلى العمران

يني في الشريعة والعقيدة واللغة إال أنه حولها إلى استخدام في علوم بشرية ولدافع أصلها الد

والتاريخ(. ألن النص المرجوع إليه ليس القرآن والسنة وإنما –االجتماع –بشري )واقع العمران

وقائع العمران البشري.

ثل في ومن جهة أخرى فإن المنهجية، وحسب ابن خلدون، هي نظر وتحقيق. وهذا يما

فكرنا المعاصر "النظرية" و "البحث". وإذا كانت النظرية هي العمران البشري فإن التحقيق

ومن ذلك الرجوع إلى .)البحث( له وسائل أخرى أضافها ابن خلدون من دراساته السابقة وابتكاره

20

اكم –نظريًا( العلماء الثقة كمصادر الستقاء األخبار وموازنتها )وذلك بعد التأكد أوال أنها مقبولة

في قصة ومنها الرجوع إلى العلوم األخرى للتحقيق من صحة الحدث )كما ،نكبة البرامكةفي

إما بواسطة الباحث نفسه أو من يثق في شهادتهم ، المعاينة والمشاهدة اإلسكندر األكبر(، ومنها

وقد ذكر ابن ما نسميه اآلن بالمصادر األولية، ا)كقصة تكذيبه لوجود مدينة النحاس(. ومنه

ماوجده مكتوبًا في جراب الدولة )دفاتر حساباتها( بما يحمل إلى بيت –في ثراء الدول –خلدون

(، وكذلك تحققه من كالم ابن بطوطة بما وجده من إحصاء وبيان من واقع 110المال ببغداد )ص

ميهم اآلن وهم من نس –السجالت. ومن ذلك أيًضا سؤال العارفين بدقائق أمر اجتماعي معين

المخبرين. وهذا وأمثاله مما ال نجده في كتب الشرع أو العقيدة أو اللغة وال حول موضوعاتهم

بهذه المتانة وال الصلة باألمور الحياتية والوقائع االجتماعية.

وية باستخدام دنيونزعم أن ميل ابن خلدون للعقل والبراهين العقلية لبحث أمور بشرية و

بحثية قابلة للتحقق منها عقليًا وبرهانيًا وليس من باب العقيدة أو الشرع هو منهجية نظرية وطرق

ن إلى االقتداء به واالستفادة منه في بناء علومهم االجتماعية في بيئة حضرية يما دعا الغربي

أسس للبناء المعرفي الطبيعي أو كمختلفة ونظرة كونية تم فيها استبعاد الدين واألخالق كلية

هم هو التحليل المنطقي والنظرية المتماسكة والمنهجية راع والميتافيزيقي. ومااالجتماعي

بشري بغض النظر عن جتمعن كل ذلك يمكن تطبيقه، ويمكن أن يتم في أي مأو –الواضحة

له بعدان أو مستويان: أحدهما –ا نكما أوضح –معتقده الديني. وهذا صحيح ألن عمل ابن خلدون

شمولية توحيدية ترجع األمر كله هلل من قبل ومن بعد، مع االعتراف بأن ديني داخل إطار نظرة

خل هذه النظرة التوحيدية؛ والثاني عقالني برهاني لواقع الفعل البشري له حيزه ويمكن دراسته دا

سنن الطبائع واألفعال البشرية. والمستوى األول يصلح للمجتمعات اإلسالمية، بشري تجرى عليه

وهذه األخيرة هي نقطة االلتقاء بين المسلمين وغير المسلمين فال يتطلب األمر والثاني لغيرها.

إيمان أو إسالم العلماء اآلخرين من غير المسلمين حتى نستطيع التفاهم والتبادل العلمي والفكري

معهم بشرط أن يكون مبدأهم هو عمارة األرض والحكمة في ذلك. بيد أن الحضارة الغربية

تقوم على مبدأ قهر اإلنسان –ية فد بينا ذلك في ورقة علمية سابقة بتفاصيل واوق –المعاصرة

والطبيعة بتركيزها على قوة وجبروت السالح واألنظمة القاهرة كالبيروقراطية، وعن طريق

العلوم الطبيعية القائمة على التكنولوجيا دون وازع أخالقي، وباعتمادها على استغالل البشر

ر اآلن إلنتاج المزيد في مجال الصناعة لتحقيق بواسطة النظام اال قتصادي الرأسمالي والذي يسخَّ

وليس الروحية أو لصالح البشرية والجسرية المزيد من األرباح المادية إلرضاء الرغبات المادية

وعمارة األرض.

21

أنها أصبحت وسيلة لتحقيق –وخاصة االجتماعي منها –المعاصرة موالعلة في العلو

م الرأسمالي القائم على الظلم واالستبداد والطغيان لمصلحة قلة من الدول واألشخاص. النظا

إلى زوال، والخطر يكمن في ،لها ا وتهيىءوالعلوم التي تسانده ،ومصير مثل هذه الحضارة

تدميرها في العالم قبل أن يتداركه العقالء بنظرة كونية جديدة تقوم على مبدأى التوحيد إمكانية

"من شاء فليؤمن ومن شاء –ة بحيث يتعايش البشر جميًعا كل حسب معتقده الديني والحكم

في هذا العالم الفسيح. –فليكفر"

إن فكر ابن خلدون يقدم لنا هذه النظرة التوحيدية على المستوى الديني والمستوى

ل الجبارة البشري. ولم يكن ذلك ممكنًا إال من خالل حضارة إسالمية واسعة رحبة تتيح للعقو

أصحاب الهمم العالية االبتكار والتجديد بفكر ديني وإنساني مًعا ولن يحدث هذا باتباع نهج

طبيعية كانت أم اجتماعية. فالحضارة –الحضارة الغربية وعلومها ومناهجها وأساليبها وعلومها

عالم بأجمعه. تهدم نفسها وتسعى لهدم اآلخرين وهدم ال –الغربية اآلن، وفي كل مجاالت الحياة

والحل يكمن في قيام حضارة إسالمية عامة وشاملة بالتعاون بين مكونات األمة اإلسالمية، وليس

– اإضافة لتعاونها فيما بينه –عن طريق إصالحات جزئية لما تقدمه الحضارة الغربية وإنما

عالم متعدد ظهور عالماتتعاونها مع العقالء من األمم غير اإلسالمية. ويبدو لنا هذا في

األقطاب والرؤى الكونية لحضارات سابقة عريقة.

سيتم إضافة الهوامش والمراجع الحقاً ( (